صفحة جزء
[ ص: 723 ] الرابع : دلالة تخصيص شيء بحكم يدل على نفيه عما عداه ، وهو مفهوم المخالفة نحو : ومن قتله منكم متعمدا ، من فتياتكم المؤمنات ، ومن لم يستطع منكم طولا ، في سائمة الغنم الزكاة ، وهو حجة إلا عند أبي حنيفة ، وبعض المتكلمين .

لنا : تخصيص أحدهما مع استوائهما عي ، إذ هو عدول عن الأخصر وترجيح من غير مرجح ، وإبطال لفائدة التخصيص .

قالوا : فائدته توسعة مجاري الاجتهاد لنيل فضيلته وتأكيد حكم المخصوص بالذكر ، لشدة مناسبته ، أو سببيته ، أو وقوع السؤال عنه ، أو احتياطا له لئلا يخرجه بعض المجتهدين عن الحكم ونحوه ، ولا تختص بما ذكرتم .

قلنا : جعل ما ذكرناه من جملة فوائده تكثيرا لها - أولى ، وأيضا إجماع الفصحاء والعقلاء على فهم ما ذكرناه ، كقول أبي ذر : ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر ؟ وقول يعلى بن أمية : ما لنا نقصر ، وقد أمنا ؟ ووافقه عمر ، وقوله صلى الله عليه وسلم ، في جواب السؤال عما يلبس المحرم من الثياب : لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرانس ، يدل عليه ، وإلا لما كان جوابا .

ولو قال قائل : اليهودي أو النصراني إذا نام غمض عينيه ، وإذا أكل حرك فكيه - لسخر كل عاقل منه وضحك عليه .

وكذا لو قال قائل : الشافعية أو الحنابلة فضلاء ، أو علماء ، أو زهاد - لاغتاظ من سمع ذلك من الحنفية ، وكذا بالعكس ، وما ذاك إلا لدلالة التخصيص اللفظي على التخصيص المعنوي .


[ ص: 724 ] قوله : " الرابع " ، أي : الضرب الرابع من فحوى الخطاب " دلالة تخصيص شيء بحكم يدل على نفيه عما عداه ، وهو مفهوم المخالفة " ، أي : المفهوم منه يخالف المنطوق به ، كما سبق في مفهوم الموافقة . وقد ذكرت له أمثلة :

أحدها : قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] ، فإن تخصيص العمد بوجوب الجزاء به ، يدل على نفي وجوب الجزاء في قتل الصيد خطأ ، وهو أحد القولين لأهل العلم .

وثانيها : قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا إلى قوله : المؤمنات [ النساء : 25 ] ، أي : من الإماء المؤمنات ; فتخصيصه المؤمنات بجواز النكاح عند عدم الطول يدل على أن عادم الطول لا يباح له نكاح الإماء الكوافر ، وهو أحد القولين أيضا .

وثالثها : قوله عز وجل : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات الآية ; فتخصيص جواز نكاح الإماء بعدم الطول يدل على أن واجد الطول لا يجوز له نكاح الإماء ; ففي الآية مفهومان :

أحدهما : هذا .

والثاني : أنه لا ينكح إلا أمة مؤمنة .

ورابعها : قوله عليه السلام : في سائمة الغنم الزكاة ، [ ص: 725 ] تخصيص وجوب الزكاة بالسائمة يدل على أنها لا تجب في المعلوفة ، وأمثلته كثيرة .

قوله : " وهو " ، أي : مفهوم المخالفة ، " حجة إلا عند أبي حنيفة ، وبعض المتكلمين " .

قال الآمدي : أثبته الشافعي ، ومالك ، وأحمد ، والأشعري ، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين ، وأبو عبيدة ، وجماعة من أهل العربية ، ونفاه أبو حنيفة وأصحابه ، والقاضي أبو بكر ، وابن سريج ، والقفال ، والشاشي ، وجمهور المعتزلة .

وقال أبو عبد الله البصري : إن كان ذلك قد ورد للبيان أو التعليم ، دل على نفي الحكم في محل السكوت ، وإلا فلا . واختار الآمدي النفي مطلقا .

قوله : " لنا : " ، أي : على أن المفهوم حجة ، وأن تخصيص الشيء بالذكر يفيد نفيه عما عداه ، أنه لو كان المخصوص مساويا للمسكوت عنه في الحكم ، لكان " تخصيص أحدهما مع استوائهما " عيا من المتكلم ، إذ يلزم منه أمور ثلاثة باطلة :

أحدها : أنه " عدول عن الأخصر " لا لفائدة ، إذ قوله : في الغنم الزكاة ، أخصر من قوله : في سائمة الغنم الزكاة ، والتقدير أن لا اختصاص للسائمة بالحكم ; فيكون ذلك عيا ، ويكون الأول أولى ، بل متعينا في اللغة .

[ ص: 726 ] الثاني : أن تخصيص أحدهما بالذكر مع استوائهما في الحكم " ترجيح من غير مرجح " ، إذ ليس قوله : في سائمة الغنم الزكاة ، بأولى من قوله : في معلوفة الغنم الزكاة . ولا قوله عز وجل : ومن قتله منكم متعمدا [ المائدة : 95 ] ، أولى من قوله : مخطئا ; فكان ذلك ترجيحا من غير مرجح .

الثالث : أن استواءهما في الحكم يبطل فائدة تخصيص أحدهما بالذكر ، إذ لا أولوية له بالتخصيص ، وهذا يرجع إلى الذي قبله ، وهو الترجيح من غير مرجح ; فهذه أمور باطلة ، تلزم تخصيص أحد الشيئين بالذكر مع استوائهما في الحكم ، وملزوم الباطل باطل ; فدل على أن ذلك باطل ، وذلك يوجب صحة ما ذكرناه من أن تخصيص الشيء بالذكر يقتضي نفي الحكم عما عداه .

قوله : " قالوا : فائدته " ، إلى آخره . هذا منع على قولنا : إن ذلك يبطل فائدة التخصيص .

وتقريره : لا نسلم أنه يبطل فائدة التخصيص ، بل للتخصيص مع استوائهما في الحكم فوائد :

إحداهن : " توسعة مجاري الاجتهاد " ، لينال المجتهد فضيلة المجتهدين ، وذلك لأن تخصيص الشيء بالذكر مع احتمال الاختصاص بالحكم وعدمه يحتاج إلى نظر واجتهاد ، يحصل به للناظر فضيلة النظر ; لأن فيه إتعابا للقريحة ، والثواب على قدر النصب ، وهذا كما قلنا في ورود الحكم على السبب ، وكما قلنا : إن الشارع لم ينص على جميع الأحكام لاحتمال أنه أراد توسيع مجاري الاجتهاد بإلحاق الفروع بالأصول المنصوص على أحكامها ، [ ص: 727 ] كالربويات الستة ، مع أن غيرها مثلها .

الثانية : " تأكيد حكم المخصوص بالذكر ، لشدة مناسبته " ، كتأكيد وجوب الزكاة في السائمة ، لمناسبة السوم له ، أو لكون المخصوص بالذكر سببا لورود النص ، أو مسئولا عنه ، كما لو قيل : ما تقول في السائمة ؟ فيقول : في السائمة الزكاة ، أو يقال : ما حكم الربيبة في الحجر ؟ فيقال : حرمت عليكم الربائب .

الثالثة : أن يخص الشيء بالذكر " احتياطا له ، لئلا يخرجه بعض المجتهدين " ، عن أن يكون مرادا بالحكم بضرب من الاجتهاد ، كما سبق في مسألة اختصاص العام بسببه ، ونحو ذلك من الفوائد ، مثل أن يقصد المتكلم إفراد كل صورة من المنطوق به ، والمسكوت عنه بنص ، ليكون أبعد عن احتمال التخصيص ، أو يكون بيان حكم المسكوت عنه قد سبق ، وأن يكون مقصود صاحب الشرع تكثير ألفاظ النصوص ليكثر ثواب القارئ والحافظ لها ، ولا تختص فائدته " بما ذكرتم " من دلالته على نفي الحكم عما عداه .

قوله : " قلنا : جعل ما ذكرناه " ، إلى آخره ، أي : الذي ذكرتموه لا ينافي ما نقوله ، فإن ما بينتم احتماله من الفوائد لا ينافي أن ما ذكرناه من فوائده ، بل جعل ما ذكرناه من جملة فوائد تخصيص الشيء بالذكر أولى ، تكثيرا [ ص: 728 ] لفوائده ، فإن تكثير فوائد الكلام أولى من تقليلها .

قوله : " وأيضا " ، إلى آخره . ذكر حجة أخرى على صحة ما ذكرناه .

وتقريرها : أن إجماع الفصحاء والعقلاء على فهم اختصاص الشيء بالحكم ، لاختصاصه بالذكر .

أما الفصحاء ; فكما نقل عن أبي ذر أنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : يقطع الصلاة الكلب الأسود ; فقال : يا رسول الله ، ما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر ؟ وكذلك الراوي عن أبي ذر سأل أبا ذر عن ذلك ; فدل على أنهما فهما من تخصيص الأسود بالذكر اختصاصه بقطع الصلاة . وكذلك يعلى بن أمية قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما بالنا نقصر وقد أمنا ؟ وإنما قال الله عز وجل : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ النساء : 101 ] ; ففهم اختصاص جواز القصر بحال الخوف ، ووافقه عمر رضي الله عنه على ذلك حيث قال له : عجبت مما عجبت منه ; فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك ; فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم ; فاقبلوا صدقته . وقد حصلت بذلك الموافقة على ما فهمه يعلى بن أمية وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم ، أيضا ، حيث لم ينكر عليهما ما فهماه ، بل عدل [ ص: 729 ] إلى ذكر الرخصة ، ولو لم يكن ما فهماه صحيحا ، لرده عليهما من حيث اللغة ، وقال : إن الآية لا تقتضي اختصاص القصر بحالة الخوف ، كما سبق من رده على ابن الزبعرى ما فهمه من قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله [ الأنبياء : 98 ] ، في باب العموم ، وكذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : عما يلبس المحرم من الثياب ; فقال : لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرانس . دل على أن تخصيص الشيء بالذكر ينفي الحكم عما عداه ، إذ لو لم يكن كذلك ، لما كان ما ذكره جوابا للسائل ; لأن سؤال السائل عما يلبس المحرم عام ، فلو لم تكن القمص ، والسراويلات مختصة بالتحريم ، لما كان الجواب مطابقا .

وأما العقلاء ; فلأن قائلا لو قال : " اليهودي أو النصراني إذا نام ، غمض عينيه ، وإذا أكل حرك فكيه - لسخر كل عاقل منه ، وضحك عليه " ، لعلمهم بأن ذلك لا يختص باليهودي والنصراني ، " وكذا لو قال قائل : الشافعية ، أو الحنابلة فضلاء ، أو علماء ، أو زهاد ، لاغتاظ من سمع ذلك من الحنفية ، وكذا بالعكس " ، لو قال قائل : الحنفية فضلاء ، لاغتاظ من سمع ذلك من [ ص: 730 ] الشافعية أو الحنابلة ، " وما ذاك إلا لدلالة التخصيص اللفظي على التخصيص المعنوي " ; فقد ثبت ما ذكرنا باتفاق الفصحاء والعقلاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية