صفحة جزء
[ ص: 135 ]

احترز بالأحكام عن الذوات ، وبالشرعية عن العقلية ، وبالفرعية عن الأصولية .


قوله : " احترز بالأحكام عن الذوات " إلى آخره .

الكلام عليه في أبحاث :

الأول : في لفظ احترز ، وهو افتعل ، من قولهم : تحرزت من كذا ، واحترزت منه : إذا توقيته ، وأصله من الحرز ، قال الجوهري : هو الموضع الحصين ، يقال : هذا حرز حريز ، ويقول المتكلم : احتزرت بكذا من كذا ، أي : صرت في حرز من أن يدخل علي ما يفسد كلامي من جهة طرد أو عكس ، أو غير ذلك .

الثاني : في معنى الاحتراز في الكلام وكيفيته ، وذلك أن الألفاظ جعلت دالة على المعاني والمسميات ، وشأن الدليل أن يطابق المدلول ، والمعرف أن يطابق المعرف ، أي : يكون طبقه ومساويا له في العموم والخصوص . ولما كانت أجناس الأشياء شاملة لأنواعها ، وأنواعها شاملة لأشخاصها ، وكانت الأجناس والأنواع متعددة ، منها العالي والسافل والمتوسط ، كما أشرنا إليه في باب العموم ، وسنقرره إن شاء الله تعالى ، والأشخاص أيضا متشابهة ومتباينة بالصفات ، وكانت الأشخاص شائعة في أنواعها ، والأنواع شائعة في أجناسها ، لا جرم وجب على من أراد الكشف عن حقيقة شخص من نوع ، أو نوع من جنس ، أن يصفه بصفات مطابقة لا توجد إلا فيه ، ولا يتصف بها إلا هو ، فكلما قلت أوصافه ، كان أدخل في العموم والشيوع والاشتباه ، وكلما كثرت أوصافه ، قرب من الكشف والتعين ، وزوال الاشتباه بغيره ، وقل ما يشتبه به من نوعه أو جنسه ، فكان كل وصف من تلك الأوصاف المخصصة محصنا له من طائفة مما يشابهه أو يشتبه به ، وحرزا له منه ، فهذا بيان [ ص: 136 ] كيفية الاحتراز ، ويتضح بالمثال .

فنقول : إن المسميات مترتبة في أجناسها وأنواعها وأشخاصها بعضها من جهة الأشخاص تحت بعض ، وبعضها من جهة أعلى الأجناس فوق بعض ، فأعم المسميات ، قولنا : معلوم ، لأنه يتناول الموجود والمعدوم ، ثم الموجود يتناول القديم والمحدث ، ثم القديم يتناول الذات والصفات ، والمحدث يتناول الجوهر والعرض ، والأعراض أقسامها كثيرة ، والجوهر يتناول الجامد والنامي ، والنامي يتناول الحيوان وغيره ، كالشجر والنبات ، والحيوان يتناول الناطق ، كالإنسان ، وغير الناطق ، كالفرس ، فالإنسان نوع للحيوان ، والحيوان نوع للنامي ، والنامي نوع للجوهر ، والمراد به الجسم ، والجسم نوع للمحدث ، والمحدث نوع للمعلوم ، فهذا من جهة الإنسان ، ويسمى نوع الأنواع ، وإن نزلت من جهة الجنس الأعلى ، وهو المعلوم في مثالنا ، وإن لم يكن جنسا في الحقيقة ، لأن أحد قسميه المعدوم ، والحقيقة الثابتة لا تتقوم في وجود وعدم ، ولأنه يشمل القديم والمحدث ، والقديم لا يدخل تحت جنس ، ولكنا ذكرناه جنسا في المثال لفظا ، فقل : المعلوم جنس المحدث ، والمحدث جنس الجوهر ، والجسم جنس النامي ، والنامي جنس الحيوان ، فالمتوسطات من هذه ، وهي المحدث ، والجسم ، والنامي ، والحيوان ، هي أنواع لما فوقها ، كالحيوان بالنسبة إلى الجسم النامي ، أجناس لما تحتها ، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان . [ ص: 137 ]

إذا عرفت هذا فأنت إذا قال لك قائل : قد أضمرت في نفسي معلوما فما هو ؟ لاحتمل عندك أن يكون ذلك المعلوم الذي أضمره قديما أو محدثا .

فإذا قلت له : زدني بيانا ، فقال لك : الذي أضمرته محدث ، تخصص به ، وأعرضت أنت عن الفكرة في التقديم بالنسبة إلى هذا الضمير ، وصرت تطلبه في المحدثات ، لكنك لا تدري هو جوهر أو عرض .

فإذا قال لك : هو جوهر ، أعرضت عن الأعراض ، وأجلت فكرك في الجواهر ، لتستخرجه منها ، لكن ذلك الجوهر يحتمل أنه نام أو غير نام .

فإذا قال لك : هو نام ، أعرضت عن الجمادات ، وترددت في النامي ، هل هو حيوان أو غير حيوان ؟

فإذا قال لك : هو حيوان ، أعرضت عن النبات والأشجار ، ثم ترددت ، هل ذلك الحيوان ناطق أم لا ؟

فإذا قال لك : ناطق : أعرضت عن نوع الخيل وبهيمة الأنعام وغيرها ، وعلمت أنه إنسان ، ثم ترددت بين أشخاص الإنسان ، وهي كثيرة ، لا تدري ، هل هو زيد أو عمرو ، أو موسى ، أو محمد ؟

فإذا قال لك : هو نبي ، تخصص مطلوبك بصنف الأنبياء ، وأعرضت عن آحاد الأمم ، ثم ترددت ، هل هو آدم أو محمد أو واحد ممن بينهما من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ؟

فإذا قال لك : هو أول نبي أرسل ، قلت : هو آدم أو نوح عليهما السلام ، على اختلاف فيه ، لأنه تخصص بالأولية . [ ص: 138 ]

ولو قال : هو نبي من بني العيص بن إسحاق عليه السلام لقلت : هو أيوب ، لأنه لم يكن من بني العيص نبي غيره .

ولو قال لك : هو نبي من العرب ، أو من بني إسماعيل ، لقلت : هو محمد صلى الله عليه وسلم فقد رأيت أن مطلوبك كلما تخصص بوصف بعد وصف قرب إدراكه ، وقل الصنف الذي يشتبه به ، لخروج غيره بالوصف عن أن يكون محلا للمطلوب ، فهذا كشف القناع عن كيفية الاحتراز .

البحث الثالث : في بيان ما ذكر من الاحترازات في هذا الحد .

قوله : " احترز بالأحكام عن الذوات " لأن الأحكام هي ما عرف من الوجوب والحظر والكراهية والندب . والذوات : الحقائق ، وذات الشيء : حقيقته في عرف المتكلمين .

وزعم ابن الخشاب في مأخذه على المقامات أنه لا أصل لذلك في اللغة ، وإنما المعروف فيها ذات ، بمعنى صاحبة ، مؤنث ذو ، فلو قيل : الفقه : العلم بالشرعية ، لاحتمل أن هناك ذوات يكون العلم بها فقها ، فلما قال : العلم بالأحكام الشرعية ، انتفى ذلك الاحتمال .

قوله : " وبالشرعية عن العقلية " ، أي : واحترز بالأحكام الشرعية عن الأحكام العقلية ، كأحكام الفلسفة ، من معرفة أحكام العدد والمقادير وغيرها ، وقال في [ ص: 139 ] " المحصول " : كالتماثل والاختلاف ، والعلم بقبح الظلم ، وحسن الصدق ، عند من يقول بكونهما عقليين .

فلو قال : العلم بالأحكام ، ولم يذكر الشرعية ، لاقتضى الحد أن يكون العلم بالأحكام العقلية فقها ، وليس كذلك .

وفيه نظر ، لأن ذلك ينتفي بقوله : الفرعية ، إذ الأحكام العقلية المذكورة لا تسمى فرعية .

نعم ، الاحتراز عن العقلية ، حصل بالوصفين جميعا ، أعني الشرعية الفرعية ، إذ لو لم يذكرهما ، بل قال : العلم بالإحكام عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال ، لدخلت الأحكام العقلية في حد الفقه .

قوله : " وبالفرعية عن الأصولية " ، أي : احترز بالفرعية عنها ، حتى لو لم يذكرها ، لاقتضى أن الأصولية ، كأصول الدين وأصول الفقه فقه ، لأنها أحكام شرعية ، إذ الأحكام الشرعية تعم الأصولية والفروعية . إذ الشرع عبارة عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أصل وفرع .

التالي السابق


الخدمات العلمية