صفحة جزء
[ ص: 734 ] ثم ههنا صور أنكروها بناء على أنها من قبيل المفهوم : إحداهن : نحو : لا عالم إلا زيدا ، قالوا : هو سكوت عن المستثنى ، لا إثبات العلم له ، وهذه مسألة : الاستثناء من النفي إثبات ، والعادة ذكرها في الاستثناء ، وعمدتهم أن المستثنى غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات .

ولنا : الإجماع على إفادة : لا إله إلا الله ، إثبات الإلهية لله .

وفيه نظر ، والمعتمد أن الاستثناء والمستثنى منه إما في تقدير جملتين أو جملة واحدة .

والأول يستلزم الإثبات في المستثنى ، إذ الجملة الثانية إما نافية ; فهو تطويل بغير فائدة ، أو مثبتة ، وهو المطلوب .

والثاني يمنع الواسطة ، إذ بعض الجملة لا يكون خاليا عن حكم ، ثم تصور الواسطة في الكلام مع استلزامه التركيب الإسنادي الإفادي - محال ; فأما : لا صلاة إلا بطهور ونحوه فهو من باب انتفاء الشيء لانتفاء شرطه .


قوله : " ثم ههنا صور أنكروها " ، يعني منكري المفهوم " بناء على أنها من قبيل المفهوم :

إحداهن : نحو : لا عالم إلا زيدا . قالوا : هو سكوت عن المستثنى " ، وهو زيد ، " لا إثبات العلم له ، وهذه مسألة الاستثناء من النفي [ ص: 735 ] إثبات ، والعادة ذكرها في الاستثناء ، ولكني تابعت الأصل في ذكرها ههنا ، " وعمدتهم " ، يعني الخصوم ، " أن المستثنى غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات " ، وإنما هو نطق بالمستثنى منه ، أما المستثنى ; فمسكوت عنه .

" ولنا " يعني على أن الاستثناء من النفي إثبات : " الإجماع على أن قولنا : لا إله إلا الله " يفيد " إثبات الإلهية لله " سبحانه وتعالى ، وهو استثناء إثبات من نفي ، إذ تقديره : لا إله موجود إلا الله .

قوله : " وفيه " ، أي : في هذا الاستدلال " نظر " ، أي : هو لا يتحقق ، ولا يلزم منه المطلوب ، إذ للخصم أن يقول : لا نسلم أن قولنا : لا إله إلا الله أفاد إثبات الآلهية بمجرده ، بل الله سبحانه وتعالى في هذا الكلام مسكوت عن ثبوت إلهيته ونفيها ، وإنما ثبتت بدليل العقل ، وهو خارج عن هذا اللفظ .

قوله : " والمعتمد " ، أي : الذي يعتمد عليه في دليل المسألة " أن الاستثناء ، والمستثنى منه إما في تقدير جملتين ، أو " في تقدير " جملة واحدة . والأول " وهو كونه في تقدير جملتين " يستلزم الإثبات " ، في الجملة الثانية ; فيكون الاستثناء من النفي إثباتا .

وإنما قلنا ذلك ; لأن " الجملة الثانية إما نافية " ، أو مثبتة ، فإن كانت نافية ، لزم منه " التطويل بغير فائدة " ، وهو باطل ، مناف لحكمة واضع اللغة .

وإنما قلنا : إن ذلك يلزم منه التطويل بلا فائدة ; لأن الجملة الأولى [ ص: 736 ] نافية ; فلو كانت الثانية كذلك ، لزم ما ذكرناه ، إذ الاقتصار على الأول يفيد نفي الثانية .

مثاله : إذا قلنا : لا إله ; فهذه جملة نافية ; فقولنا : إلا الله ، لو كانت نافية أيضا ، لكان في قولنا : لا إله ، غنية عنها ، إذ قد فهمنا عموم نفي الإله منها ، فلم يحتج إلى ما بعدها . وكذلك لو قلنا : ما قام أحد ، هي جملة نافية ; فقولنا : إلا زيد ، لو أفاد نفي قيام زيد ، لكان قولنا : ما قام أحد ، كافيا عنه ; فبان بهذا التقدير أن الجملة الثانية في الاستثناء ليست نافية ; فتعين أن تكون مثبتة ، إذ لا واسطة بين النفي والإثبات ، وهو المعني بقولنا : الاستثناء من النفي إثبات ، " وهو المطلوب " . هذا كله على تقدير أن يكون الاستثناء والمستثنى منه في تقدير جملتين .

قوله : " والثاني " ، يعني كون الاستثناء والمستثنى منه في تقدير جملة واحدة " يمنع الواسطة " ، أي : يمنع أن يكون المستثنى واسطة بين النفي والإثبات ، غير محكوم عليه بأحدهما ; لأن التقدير أنهما جملة واحدة ، والمستثنى بعضها ، وبعض الجملة لا يخلو عن حكم ; إما نفي أو إثبات . وقد اتفقنا على أن صدر الجملة منفي ، وهو المستثنى منه ; فوجب أن يكون آخرها كذلك لاستحالة كون بعض الجملة نفيا ، وبعضها إثباتا .

قوله : " ثم تصور الواسطة في الكلام ، مع استلزامه التركيب الإسنادي الإفادي - محال " . هذا دليل آخر على امتناع تصور الواسطة في الكلام ، وهو الذي يدعيه الخصم ; فيقول : المستثنى من النفي لا مثبت ولا منفي ، بل [ ص: 737 ] واسطة بينهما .

وبيان امتناع الواسطة في ذلك : هو أن الكلام ههنا في المستثنى من النفي ، وهو جزء من الجملة الاستثنائية ، والجملة الاستثنائية مستلزمة للتركيب الإسنادي الإفادي ، أي : هي مشتملة على جزءين فصاعدا ، أسند أحدهما إلى الآخر للإفادة ، كقولنا : القوم قيام إلا زيدا ، وقام القوم إلا زيدا ، وما قام أحد إلا زيد ، وكل ما اشتمل على التركيب الإسنادي الإفادي ; فهو كلام ; فالجملة الاستثنائية كلام ، وكل كلام فلا يخلو من أن يكون مثبتا أو منفيا ; لأنه لابد فيه من محكوم به ، ومحكوم عليه ، والحكم إما بنفي ، أو إثبات ، نحو : زيد قائم ، وقام زيد ، وما زيد قائم ، وما قام زيد . وإذا كانت الجملة الاستثنائية تستلزم التركيب الإفادي ، الذي هو الكلام ، والكلام يستلزم الحكم ، والحكم منحصر في النفي والإثبات ، كانت الواسطة مع ذلك في التركيب الإفادي محالا ، وإذا انتفت الواسطة ، بقي المستثنى من النفي مترددا بين أن يكون منفيا أو مثبتا ، وقد اتفقنا على أنه غير منفي ; فتعين أن يكون مثبتا ، وهو المطلوب .

قوله : " فأما : لا صلاة إلا بطهور . . . " إلى آخره . هذا جواب عن سؤال مقدر ، تذكره الحنفية ، مستدلين به على أن الاستثناء من النفي ليس بإثبات .

وتقريره : أنه لو كان إثباتا ، لكان قوله عليه السلام : لا صلاة إلا بطهور ، [ ص: 738 ] و لا نكاح إلا بولي يقتضي صحة الصلاة عند وجود الطهور ، والنكاح عند وجود الولي ; لأنه مستثنى من نفي الصلاة والنكاح ، والاستثناء عندكم من النفي إثبات ; فيلزم منه الصحة ، لكن ذلك باطل باتفاق لجواز تخلف صحة الصلاة عند وجود الطهور ، لانتفاء شرط آخر ، وكذلك صحة النكاح مع وجود الولي .

والجواب أن هذا الذي ذكرتموه ليس من باب الاستثناء ; لأن الاستثناء يصدق على المستثنى فيه بعد " إلا " اسم المستثنى منه ، وهو ما قبلها ، أو يكون ما بعد " إلا " جزءا مما قبلها ، نحو : ما قام أحد إلا زيد ; فزيد أحد ، وما قام القوم إلا زيد ; فزيد جزء من القوم .

وإذا عرفت هذا ; فالطهور والولي لا يصدق عليهما اسم ما قبلهما ، ولا هما جزء منه ، إذ الطهور ليس بصلاة ولا جزئها ، والولي ليس بنكاح ولا جزئه ; فدل على أن قوله عليه السلام : لا صلاة إلا بطهور . ليس من باب الاستثناء ، بل من باب انتفاء الحكم " لانتفاء شرطه " ، فالطهور شرط الصلاة ، والولي شرط النكاح ; فينتفيان لانتفاء شرطهما ، ولا يلزم من وجوده وجودهما ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية