صفحة جزء
[ ص: 750 ] الثالثة : نحو قوله صلى الله عليه وسلم : الشفعة فيما لم يقسم ، و تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، وأصله أن المفرد المحلى باللام هل يقتضي الاستغراق أم لا ؟ وتحليلها وتحريمها مضاف إلى ضمير عائد إلى الصلاة وفيها اللام ; فالكلام هنا كذلك .

وقيل : لأن المحكوم به يجب أن يكون مساويا للمحكوم عليه أو أعم منه لا أخص ; فلو كان التسليم أخص من تحليل الصلاة لخرج عن موضوع اللغة .


الصورة " الثالثة " : مما أنكره منكرو المفهوم بناء على أنها منه " نحو قوله عليه السلام : الشفعة فيما لم يقسم ، وقوله عليه السلام في الصلاة : تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، وقوله عليه السلام : الأعمال بالنيات ، ونحوه ، هل يدل على الحصر أم لا ؟ أثبته الغزالي والهراسي وجماعة من الفقهاء ، مع أنه في القوة دون الذي قبله ، ونفاه الحنفية ، والقاضي أبو بكر ، وجماعة من المتكلمين .

قوله : " وأصله " ، أي : أصل النزاع في ذلك أو أصل الحكم فيه ، يعني [ ص: 751 ] في دليله " أن " الاسم " المفرد المحلى باللام " يعني لام التعريف " هل يقتضي الاستغراق أم لا ؟ " ; فمن قال : ليس للاستغراق ، لم يفد ذلك عنده الحصر ، وصار التقدير عنده : بعض الشفعة فيما لم يقسم ، وبعض الأعمال بالنيات .

ومن قال : هو للاستغراق ، قال : إن ذلك يفيد الحصر والعموم ، ووجهه أن قوله : تحليلها وتحريمها ، مضاف إلى ضمير عائد إلى ما فيه اللام ، وهو الصلاة في قوله عليه الصلاة والسلام : مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، والمضاف إلى ضمير ما فيه اللام ، مضاف إلى ما فيه اللام بواسطة ذلك الضمير .

قوله : " فالكلام هنا كذلك " ، أي : الكلام الذي نحن فيه ، وهو : تحريمها التكبير وتحليلها التسليم كذلك ، أي : كالمضاف إلى ما فيه اللام ، أو كالذي فيه اللام ; فيكون ذلك من قبيل العام ، أي : عموم الشفعة ثابتة في المقسوم ، وعموم الأعمال منحصرة في الصحة ، أو الكمال في الوقوع بالنية .

قوله : " وقيل : لأن المحكوم به " إلى آخره ، أي : " وقيل : " إنما أفاد هذا الحصر ; " لأن المحكوم به " - وهو الخبر - يجب أن يكون مساويا للمحكوم عليه - وهو المبتدأ - أو أعم منه ، لا أخص .

مثال المساوي : قولنا : الإنسان بشر ، والحيوان الناطق إنسان ، أو الإنسان حيوان ناطق .

[ ص: 752 ] ومثال الأعم : قولنا : الإنسان حيوان ; فالحيوان هو الخبر ، وهو أعم من الإنسان الذي هو المبتدأ ، وهذان صحيحان .

ومثال الأخص : قولنا : الحيوان إنسان ; فهذا لا يصح ; لأن الخبر محكوم به على المبتدأ ، وشأن المحكوم به أن يكون صادقا على كل فرد من أفراد المحكوم عليه ، والحيوان صادق على كل فرد من أفراد الإنسان ، بخلاف العكس ; لأن الإنسان ليس صادقا على كل فرد من أفراد الحيوان ، إذ لا يصدق أن الفرس ، أو الجمل ، أو الطائر ، إنسان .

وإذا ثبت أن خبر المبتدأ يجب أن يكون مساويا له أو أعم ; فتحليل الصلاة مبتدأ ، والتسليم خبره ; " فلو كان التسليم ، الذي هو الخبر ، أخص من تحليل الصلاة " ، لخرجت هذه الأخبار " عن موضوع اللغة " ، ودليل العقل ; فتعين أن يكون التسليم مساويا للتحليل ، أو أعم منه ، وعلى كلا التقديرين ، ينحصر التحليل في التسليم ، انحصار الإنسان في الحيوان الناطق في قولنا : الإنسان حيوان ناطق ، أو انحصاره في الحيوان في قولنا : الإنسان حيوان ، وكذا الكلام في التحريم مع التكبير ، والشفعة مع ما لم يقسم ، والأعمال في المنوي ، لانحصارها فيه انحصار المساوي في مساويه ، أو انحصار الأخص في الأعم .

قلت : اعلم أني وجهت الحصر في " المختصر " في هذه المسألة بتوجيهين كما قررته ، والصواب أنهما توجيه واحد من مقدمتين :

[ ص: 753 ] إحداهما : أن الاسم المفرد المعرف باللام ، يفيد الاستغراق .

الثانية : أن الخبر يجب أن يكون مساويا للمبتدأ ، أو أعم منه .

وتقريره على هذا : أن تحريمها وتحليلها في حكم المضاف إلى المفرد المعرف باللام ، والمفرد المعرف باللام يفيد الاستغراق ; فكذا ما أضيف إليه ; فتحريمها وتحليلها مبتدأ عام مستغرق ، والمبتدأ يجب أن يكون مساويا للخبر ، أو أخص منه ، وكل مساو لشيء ، أو أخص من شيء ، يجب أن ينحصر في ذلك الشيء ; فإذن التحليل يجب انحصاره في التسليم ، والتحريم يجب انحصاره في التكبير ; فلا يحصلان إلا بهما ، والشفعة يجب انحصارها فيما لم يقسم ; فلا تجب إلا فيه ، والأعمال يجب انحصارها في المنوي ; فلا تصح أو لا تكمل إلا بالنية ، ولكني وهمت في توجيه المسألة ; فجعلت كل مقدمة من مقدمتي دليلها دليلا ، والله تعالى أعلم بالصواب .

فوائد : الحصر ومفهوم المخالفة : كلاهما إثبات نقيض المنطوق به للمسكوت عنه ، لا ضده ; لأن الحاصل من المفهوم سلب حكم المنطوق ، كسلب وجوب الزكاة الثابت في السائمة عن المعلوفة ، والنقيض أعم من الضد ، كما مر في موضعه ، وبهذا يضعف استدلال من استدل على وجوب الصلاة على موتى المسلمين ، بمفهوم تحريم الصلاة على المنافقين ، في قوله عز وجل : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [ التوبة : 84 ] ; لأن المفهوم من ذلك وجوب الصلاة على المسلمين ، بل المفهوم منه سلب تحريمها على المسلمين ، وذلك أعم من أن تكون مباحة أو واجبة .

[ ص: 754 ] الفائدة الثانية : صيغ الحصر : " إنما " ، نحو : إنما الماء من الماء .

وتقدم النفي قبل " إلا " ، نحو : لا يقبل الله صلاة إلا بطهور .

وتقديم المعمولات ، نحو : إياك نعبد [ الفاتحة : 5 ] ، أي : لا نعبد إلا إياك ، وهم بأمره يعملون [ الأنبياء : 27 ] ، أي : لا يعملون إلا بأمره .

والمبتدأ مع الخبر ، نحو : تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم .

وينقسم إلى حصر الموصوفات في الصفات ، نحو : إنما زيد العالم ، وإلى حصر الصفات في الموصوفات ، نحو إنما العالم زيد ، وعلى التقديرين ; فقد تعم جهات الحصر ، وقد تخص كما سبق .

الفائدة الثالثة من باب الحصر : قولهم : زيد صديقي ، وصديقي زيد ; فالأول يقتضي انحصار زيد في صداقتك ; فلا يصادق غيرك ، وأنت يجوز أن تصادق غيره ، والثاني يقتضي انحصار أصدقائك في زيد ، وهو غير منحصر في صداقتك ، بل يجوز أن يصادق غيرك .

قلت : ويترتب على هذا فائدة دقيقة ، وهي أنا قد قررنا أن خبر المبتدأ يجب أن يكون أعم ، أو مساويا للمبتدأ وصديقي أعم من زيد ، ثم هو تارة مقدم ، وتارة مؤخر ; فلو كان مقدما على حالة مؤخرا ، لزم أن يكون الخبر أخص من المبتدأ في قولنا : صديقي زيد ; فتختل القاعدة التي قررت ; فلزم [ ص: 755 ] من هذا أن العموم والخصوص وصف عرضي ، يختلف بالتقديم والتأخير ، وأن اللفظ الواحد يكون أعم مؤخرا ، وأخص مقدما ، ووجهه ظاهر ، وهو أنه إذا قدم تخصص بالعناية والاهتمام به ، ليوضع محكوما عليه ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية