صفحة جزء
[ ص: 5 ] الإجماع

لغة : العزم والاتفاق .

واصطلاحا اتفاق مجتهدي العصر من هذه الأمة على أمر ديني ، وأنكر قوم جوازه عقلا ، وهو ضروري فإنكاره عناد ، ثم الوقوع يستلزمه كالإجماع على الصلوات الخمس ، وأركان الإسلام ، ثم مع وجود العقل ، ونصب الأدلة ، ووعيد الشرع الباعث على البحث والاجتهاد ، وقلة المجتهدين بالنسبة إلى الأمة كيف يمتنع ! واختلاف القرائح عقلي بخلاف اختلاف الدواعي الشهوانية ، إذ هو طبعي ، والفرق بينهما جلي .

وقيل : إنما يحكم بتصور وجوده على عهد الصحابة عند قلة المجتهدين .


القول في " الإجماع " وهو " لغة " أي : في اللغة " العزم والاتفاق " أي : يطلق على كل واحد منهما .

قال الجوهري : قال الكسائي : أجمعت الأمر ، وعلى الأمر ، إذا عزمت عليه ، والأمر مجمع . قلت : ومجمع عليه ، لتعديه بحرف الجر فيما حكاه .

قلت : وكما تعدى بالهمزة ، تعدى بالتضعيف ، فيقال : أجمع وجمع ، وفي الحديث : لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل أي : يعزم عليه .

[ ص: 6 ] يجوز بالتخفيف من : أجمع ، يجمع ، وبالتشديد من : جمع يجمع . ويقال :

أجمع القوم على كذا ، أي : اتفقوا عليه .

قوله : " واصطلاحا " أي : والإجماع في الاصطلاح ، أي : اصطلاح علماء الشرع : " اتفاق مجتهدي العصر من هذه الأمة على أمر ديني " .

فقولنا : " مجتهدي " : احتراز من اتفاق غير المجتهدين ، فإنه لا يعتبر ولا يعد إجماعا .

وقولنا : " مجتهدي العصر " : عام في المجتهدين كلهم ، ففيه احتراز من اتفاق بعضهم فقط ، فلا يكون إجماعا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر شيء من ذلك .

وقولنا : " من هذه الأمة " : احتراز من المجتهدين من غيرها ، كاتفاق علماء اليهود والنصارى ، ونحوهم من الكفار على أحكام دينهم ، فإنه ليس إجماعا شرعيا بالإضافة إلينا .

وقولنا : " على أمر ديني " أي : يتعلق بالدين لذاته أصلا أو فرعا ، احتراز من اتفاق مجتهدي الأمة على أمر دنيوي ، كالمصلحة في إقامة متجر ، أو حرفة ، أو على أمر ديني ، لكنه لا يتعلق بالدين لذاته ، بل بواسطة ، كاتفاقهم على بعض مسائل العربية ، أو اللغة ، أو الحساب ونحوه ، فإن ذلك ليس إجماعا شرعيا ، أو اصطلاحيا ، وإن كان إجماعا شرعيا في الحقيقة ، لتعلقه بالشرع ، وإن كان بواسطة .

قال الشيخ أبو محمد : الإجماع في الشرع : اتفاق علماء العصر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر من أمور الدين . والذي ذكرناه تلخيص هذا .

[ ص: 7 ] وقال الآمدي : هو اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر ما على حكم واقعة من الوقائع .

وقال القرافي : هو اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في أمر من الأمور .

قال : ونعني بالاتفاق الاشتراك، إما في القول ، أو الفعل ، أو الاعتقاد . وبأهل الحل والعقد : المجتهدين في الأحكام الشرعية ، وبأمر من الأمور : الشرعيات ، والعقليات ، والعرفيات .

قوله : " وأنكر قوم جوازه " أي : جواز الإجماع من مجتهدي الأمة على حكم " عقلا " أي : لا يجوز ذلك في العقل أن يتفقوا على حكم واقعة ، وهو قول الأقلين .

قوله : " وهو " أي : جواز اتفاقهم على حكم ما " ضروري " أي : معلوم بالضرورة ، وهو قول الأكثرين من الأصوليين ، لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته ، ولا لغيره ، وهذا هو المعني بالجواز العقلي .

قوله : " فإنكاره " أي : حيث ثبت أن جواز وجود الإجماع ضروري ، فإنكار جوازه " عناد " لأن النزاع في الضروريات عناد .

نعم . هؤلاء استبعدوا وقوعه مع كثرة العباد وتباعد البلاد واختلاف القرائح ، فظنوا الاستبعاد استحالة .

قوله : " ثم الوقوع يستلزمه " هذا دليل آخر على جواز وقوعه .

وتقريره : أن الإجماع قد وقع ، والوقوع يستلزم الجواز ، أي : يدل عليه [ ص: 8 ] بالالتزام ، لأن الجواز للوقوع ، ووجود الملزوم يدل على وجود اللازم ، أما وقوع الإجماع " فكالإجماع على الصلوات الخمس ، وأركان الإسلام " الخمس ، وهي الشهادتان ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، فإنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب ذلك ، وواجبات كثيرة ، وأحكام أجمع عليها المسلمون ، وفيها لا يختلفون .

فإن قيل : إنما تثبت هذه الأشياء بالتواتر ، لا بالإجماع .

قلنا : الإجماع عليها ثابت ، لا نزاع فيه ، وأما التواتر فيها ، فهو مستند الإجماع ، أو أنها ثبتت بالتواتر والإجماع معا ، أو مرتبا ، لما تواترت أجمع عليها ، أو لما أجمع عليها ، تواترت ، وكيفما كان ، فالإجماع فيها ثابت ، وبه يحصل المقصود .

وأما أن الوقوع يستلزم الجواز ، فلما بيناه من أنه لا يقع إلا ما هو جائز الوقوع .

قوله : " ثم مع وجود العقل ، ونصب الأدلة ، ووعيد الشرع الباعث على البحث والاجتهاد ، وقلة المجتهدين بالنسبة إلى الأمة كيف يمتنع ! هذا دليل آخر على جوازه ، على سبيل التقريب والتسهيل له .

وتقريره : أن هاهنا أمورا لا يمتنع معها وقوع الإجماع :

أحدها : وجود العقل في المجتهدين .

[ ص: 9 ] والثاني : نصب أدلة الشرع على الأحكام .

والثالث : وعيد الشرع الباعث على البحث والاجتهاد ، والنظر في استخراج الأحكام ، كقوله - عز وجل - : انظرواأولم ينظروا [ الأعراف : 7 و 185 ] ، ونحوه من الأوامر بالنظر ، وهو عام في النظر في الأصول والفروع ، والعقل يضطر صاحبه مع الوعيد على ترك الاجتهاد إلى النظر ، ويستعين على درك الحق بنصب الأدلة عليه ، فيسهل عليه إدراكه ، خصوصا مع قلة المجتهدين بالنسبة إلى مجموع الأمة ، وهو الأمر الرابع من الأمور المذكورة ، فإن مجتهدي كل عصر بالنسبة إلى مجموع أهل ذلك العصر قليل جدا ، بحيث إن الإقليم العظيم ، الطويل العريض ، لا يوجد فيه من المجتهدين إلا الواحد بعد الواحد ، فبان بما ذكرناه أن مع تحقق هذه الأمور ، لا يمتنع وقوع الإجماع .

قوله : " واختلاف القرائح عقلي بخلاف اختلاف الدواعي الشهوانية ، إذ هو طبعي ، والفرق بينهما جلي " .

هذا جواب سؤال مقدر ومشهور لمنكري جواز الإجماع .

وتقريره : أن اتفاق المجتهدين لو جاز وقوعه لكان إما أن يكون عن دليل ظني ، أو قطعي ، والأول باطل ، إذ يستحيل في العادة مع اختلاف الأذهان والقرائح اجتماع الخلق الكثير على موجب دليل ظني ، كما يستحيل عادة اتفاقهم مع اختلاف الشهوات والدواعي على أكل طعام معين في يوم واحد .

والثاني : وهو اتفاقهم عن دليل قاطع يبطل فائدة الإجماع لأن القاطع [ ص: 10 ] تتوفر دواعي نقله ، فيستحيل خفاؤه عادة ، فيجب ظهوره ، ومع ظهوره لا حاجة إلى الإجماع ، لأن الإجماع إنما كان حجة لدلالته على القاطع ، وإذا أمكن معرفة القاطع بغير واسطة كان أولى من الاستدلال عليه بواسطة .

وتقرير الجواب : أنه يجوز انعقاد الإجماع عن دليل ظني ، وعن دليل قطعي ، ولا يلزم شيء مما ذكرتم .

أما انعقاده عن الظني فجائز لا يلزم من فرض وقوعه محال كما سبق .

قولكم : يستحيل اجتماعهم على موجبه عادة ، كما يستحيل اتفاقهم على أكل طعام معين في يوم واحد .

قلنا : لا نسلم . والفرق بينهما : أن اختلاف الأذهان والقرائح في النظر في الأحكام عقلي ، أي : مستنده العقل والعقل مع نصب الأدلة ، وباعث الوعيد على النظر يرشد إلى الحق والصواب ، وهو واحد في نفسه ، لا يختلف ، فيصح وقوع الاتفاق عليه ، بخلاف اختلاف الدواعي الشهوانية " يعني شهوات الأكل والشرب ، فإنه " طبعي " أي : مستنده الطبع ، والطباع تختلف بحقائقها وأعراضها اختلافا متباينا في أصول العالم ، وما ركب منه .

أما أصول العالم أعني عالم الكون والفساد ، وهي العناصر الأربع فاختلاف طباعها وكيفياتها محسوس ، إذ الأرض طبعها الهبوط التام ، والنار طبعها الصعود التام ، والماء طبعه الهبوط القاصر ، والهواء طبعه الصعود القاصر ، والنار حارة يابسة ، والهواء حار رطب ، والماء بارد رطب ، والأرض باردة يابسة .

وأما ما تركب من هذه العناصر من الحيوان الناطق وغيره ، واختلاف [ ص: 11 ] طباعه وأمزجته ظاهر ، وبحسب اختلاف ذلك تختلف شهواتهم ، فمنهم المحرور الذي يؤثر تناول المبردات ، والمقرور الذي يؤثر تناول المسخنات وذو المزاج اليابس الذي يؤثر المرطبات ، وذو المزاج الرطب الذي يؤثر تناول المجففات ، لأن الضد من ذلك يقمع بضده ، وتقتضي الطبيعة تعديل المزاج بتناوله ، فلذلك جاز وقوع الإجماع على قتل القاتل والمرتد ، وحد الزاني ، وتحريم الخمر ، ونحوها ، لأنا لما علمنا بالضرورة من حكمة الشرع ، التشوف إلى حفظ النفوس ، والأديان ، والأنساب ، والعقول ، ووردت نصوص الشرع بعقوبات أهل هذه الجنايات ، وكان ذلك مناسبا في النظر العقلي ، لا جرم وقع الإجماع على ما ذكرناه من عقوبات هؤلاء ، وتحريم الخمر ، ولم يجز الاتفاق على الاغتذاء بالبطيخ أو الباذنجان أو السمك في يوم واحد ، من جميع الأمة ، لأنا نعلم قطعا أن هناك أمزجة لا توافق هذه المآكل ، فلا يتناولها أصحابها .

وسر الفرق : أن العقل أمر مختار ، يدور مع الحق حيث ما دار ، بخلاف الطبع ، فإنه مجبور بقدرة الجبار ، على ما سخر له بطريق الاضطرار ، فبان الفرق بينهما لذوي الأبصار ، وهذا معنى قوله : " والفرق بينهما جلي " .

وأما انعقاد الإجماع على القاطع ، فلا نسلم أنه يبطل فائدة الإجماع ، [ ص: 12 ] لأنه كاف في معرفة حكم الدليل القاطع ، والأمر في ذلك واسع .

قوله : " وقيل : إنما يحكم بتصور وجوده " يعني وجود الإجماع " على عهد الصحابة - رضي الله عنهم - عند قلة المجتهدين " يعني الإمكان الموقوف على آرائهم من غير استبعاد ، كاتفاقهم على قتال مانعي الزكاة ونحوه ، وصاحب هذا القول توسط بين إحالة وقوع الإجماع ، وتجويزه على استبعاد ؛ لأنه قد قام دليل الجواز العقلي كما مر ، فانتفت الاستحالة ، وقام دليل بعد وقوع الإجماع مطلقا في كل عصر ، إذ من المستبعد جدا انتشار الحادثة الواحدة في البلاد الواسعة ، وبلوغها إلى الأطراف الشاسعة ، ليقف عليها كل مجتهد ، ثم يذكر كل منهم ما عليه في حكمها يعتمد ، وإليه يستند ثم يطبقون فيها على قول واحد ، فإن العادة على هذا لا تساعد ، فلذلك ذهب صاحب هذا القول إلى ما ذهب ، ولعمري إنه لنعم المذهب ، فإن كثيرا من الحوادث تقع في أقاصي المغرب والمشرق ، ولا يعلم بوقوعها من بينهما من أهل مصر والشام والعراق ، وما والاهما ، فكيف تصح دعوى الإجماع الكلي في مثل هذه وإنما ثبتت هذه بإجماع جزئي ، وهو إجماع مجتهدي الإقليم الذي وقعت فيه .

[ ص: 13 ] أما إجماع الأمة قاطبة ، فمتعذر في مثلها ، إذ الإجماع عليها فرع العلم بها ، والتصديق مسبوق بالتصور ، فمن لا يعلم محل الحكم ، كيف يتصور منه الحكم بنفي أو إثبات ؟ والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية