صفحة جزء
[ ص: 31 ] ثم فيه مسائل : الأولى : المعتبر في الإجماع قول أهل الاجتهاد ، لا الصبيان والمجانين قطعا ، وكذا العامي المكلف على الأكثر ، خلافا للقاضي أبي بكر لتناول الأمة والمؤمنين له ، وجواز أن العصمة للكل المجموعي .

لنا : غير مستند إلى دليل ، فقوله جهل لا يعتبر ، ولأنه إذا خالف فاعتبار القولين وإلغاؤهما وتقديم قوله باطل ، فتعين الرابع ، وخص من الأمة بدليل كالصبي ، ويعتبر في إجماع كل فن قول أهله ، إذ غيرهم بالإضافة إليه عامة .


قوله : " ثم فيه " أي : في الإجماع " مسائل " يعني أن ما مضى من الكلام في حده وجوازه ، وكونه حجة ، هو كالكليات لباب الإجماع ، وهذه المسائل كالجزئيات له :

المسألة " الأولى : المعتبر في الإجماع قول أهل الاجتهاد ، لا الصبيان والمجانين قطعا ، وكذا العامي المكلف على الأكثر ، خلافا للقاضي أبي بكر " .

اعلم أن كل واحد من الأمة ، إما أن يكون من أهل الاجتهاد ، أو لا ، فإن كان ، فموافقته في الإجماع معتبرة قطعا بغير خلاف ، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد ، فهو إما غير مكلف ، كالصبي والمجنون ، فلا تعتبر موافقته قطعا ، أو يكون مكلفا كالعامة ، ويلحق بهم طلبة الفقهاء الذين لم يبلغوا رتبة النظر والاستدلال الاجتهادي ، فهؤلاء لا يعتبر قولهم عند الأكثرين من الأصوليين ، والفقهاء الأئمة الأربعة ، وغيرهم ، خلافا للقاضي أبي بكر حيث قال : أعتبر [ ص: 32 ] موافقة العامي ، وهو اختيار الآمدي .

قوله : " لتناول الأمة " إلى آخره . هذه حجة القاضي على اعتبار العامي ، وهي من وجهين :

أحدهما : أن الإجماع إنما كان حجة للدليل السمعي على عصمة الأمة ، وإيجابه اتباع سبيل المؤمنين كما سبق ، ولفظ الأمة والمؤمنين يتناول العامي ، فيجب أن يكون قوله معتبرا .

الوجه الثاني : " أن العصمة " جاز أن تكون ثابتة للمجتهدين خاصة ، كما يقول الخصم ، وجاز أن تكون ثابتة " للكل المجموعي " والهيئة الاجتماعية من المجتهدين وغيرهم ، لكن الأخذ بهذا أحوط للأحكام الشرعية ، فكان واجبا . وتخصيص هذا الدليل بالصبيان والمجانين إجماعا لا يوجب تخصيصه بالعامة ، لقيام الفرق بينهم من وجهين :

أحدهما : التكليف في العامي المكلف دون الصبي والمجنون .

والثاني : العامي إذا فهم الحكم ودليله قد يفهمه ، وقد يخطر له رأي أو مشورة .

وبالجملة هو أكمل ممن ليس بمكلف .

فإن قيل : التكليف المجرد عن أهلية النظر لا تأثير له في الاجتهاد ، فلا يكون فارقا بين العامي وبين الصبي والمجنون .

قلنا : بل يتجه كونه فارقا بينهما ، لجواز أن تكون عصمة الأمة فائضة [ ص: 33 ] منصبة عليها من العصمة النبوية ، فيصيب العامي المكلف منها بقسطه ، لتأهله للعبادات في الحال ، إذ العبادة وأهليتها بركة وتأثير ، بخلاف غير المكلف الذي هو في الحال كالبهيمة .

قوله : " لنا : غير مستند إلى دليل " إلى آخره . هذه حجة الجمهور على عدم اعتبار قول العامي ، وهي من وجهين :

أحدهما : أن قول العامي غير مستند إلى دليل ، وإلا لم يكن عاميا ، وما ليس مستندا إلى دليل ، يكون جهلا وخطأ ، لأن الشرع حرم القول بغير علم ، والجهل والخطأ غير معتبر .

الوجه الثاني : أن العامي إذا خالف أهل الاجتهاد ، فقال بالنفي ، وقالوا بالإثبات أو بالعكس ، فإما أن يعتبر قولاهما ، فيجتمع النقيضان ، أو يلغى قولاهما فيرتفع النقيضان ، وتخلو الواقعة عن حكم ، أو يقدم قول العامي ، فيفضي إلى تقديم ما لا مستند له على ما له مستند ، والكل " باطل فتعين الرابع " وهو تقديم قول المجتهد عليه ، وهو المطلوب ، فإن قدر أن العامي وافق المجتهد في الرأي ، كان التأثير لرأي المجتهد دون رأي العامي ، لقيام الدليل المذكور على أنه إذا خالف ، لم يعتبر به .

قوله : " وخص من الأمة بدليل كالصبي " . هذا جواب عن احتجاج [ ص: 34 ] القاضي بتناول لفظ الأمة والمؤمنين له ، وهو عموم دليل الإجماع السمعي .

وجوابه : أن العامي خص من عموم الأمة بدليل خاص ، كما خص الصبي والمجنون بدليل ، والجامع بينهما عدم أهلية النظر ، والفرق بينهما بالتكليف ، والفهم بالتفهيم لا أثر له .

أما التكليف ، فلو اعتبر في العامي ، لاعتبر في الصبي والمجنون ، لأنه موجود فيهما بالقوة ، إذ هما أهل له بتقدير زوال المانع ، ولا أثر لكونه موجودا في العامي بالفعل ، إذ معنى التكليف إلزام فعل الواجبات ، وترك المحرمات ، وذلك لا أثر له في النظر والاجتهاد . وانصباب العصمة النبوية على الأمة يقتضي مشاركة الصبي والمجنون للعامي وغيره في الاعتبار .

وأما فهم العامي بالتفهيم ، فلا فائدة له ، إذ المعتبر من يفهم بقوته ليفيد وينبه الناس على ما ليس عندهم ، لا من يكون كلا على العلماء يقول :

افهموا وفهموني . وأيضا ما أقبح وأسمج أن يقال في محفل الإجماع والاجتهاد : انتظروا الإمام الفاضل المجتهد فلانا ، والفلاح أو المكاري فلانا ، أو المقامر فلانا ، وبمثل هذا يندفع قول من يقول : فلان العامي وإن لم يكن من أهل الاستدلال ، لكن لا يمتنع أن يعتبر الاستدلال من أهله ، ويكون من ليس أهلا له كالعامي شرطا في العصمة التي هي مستند [ ص: 35 ] الاحتجاج بالإجماع ، إذ يبعد من حكمة الشرع أن يجعل نفوذ قول المجتهدين موقوفا على قول العامة ، مع قوله - سبحانه وتعالى - لهم : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل : 43 ] ، إذ كيف يأمرهم بسؤال العلماء ، ثم يجعلهم كالأمراء عليهم ، لا ينفذ قولهم إلا بموافقتهم ; هذا بعيد جدا ، مناف للحكمة ، منافر لها ، على أن قولهم : يجوز أن تكون العصمة للكل المجموعي . ضعيف جدا ، إذ لا يفهم من عصمة جاهل لا يدري ما يقول ، وأيضا اعتبار قول العامة في الإجماع يعود ببطلان الإجماع ، لكثرة العامة ، وتعذر الوقوف على قول كل واحد منهم ، بخلاف المجتهدين ، فإنهم لقلتهم لا يتعذر ذلك فيهم ، والله أعلم .

قال القرافي : قال القاضي عبد الوهاب : وقيل : يعتبر العوام في الإجماع العام ، كتحريم الطلاق ، والربا ، والزنى ، وشرب الخمر ، دون الإجماع الخاص الحاصل في دقائق الفقه .

قلت أنا : هذا أقرب من إطلاق القاضي أبي بكر اعتبار قولهم مع أن هذا ضعيف ، لأن الإجماع العام يحتاج إلى أهلية النظر ، والعامي ليس أهلا له فإن أحيل اعتبار قوله في الإجماع العام على العصمة للأمة الإسلامية ; كما قال القاضي أبو بكر ; وجب طرد ذلك ، حتى في دقائق الفقه وغيرها ، إذ ذلك يكون اعتمادا على تأييد إلهي ، على نحو التأييد لبعض الأنبياء بروح القدس ، والله أعلم .

[ ص: 36 ] قوله : و " يعتبر في إجماع كل فن قول أهله " كالفقيه في الفقه ، والأصولي في الأصول ، والنحوي في النحو ، والطبيب في الطب " إذ غيرهم " أي : غير أهل ذلك الفن " بالإضافة " إلى ذلك الفن " عامة " .

وذلك أن العامي لفظ منسوب إلى العامة ، والعامة مشتق من العموم ، وهو الكثرة ، ولا شك أن العلماء بكل فن من فنون العلم قليل بالنسبة إلى من لا يعلمه ، ومن لا يعلمه أكثر ممن يعلمه بكثير ، فهم عامة بالنسبة إلى العلماء بهذا الاعتبار ، فالفقيه الذي لا يعرف العربية ، أو الأصول بالنسبة إلى النحاة والأصوليين ، كالفلاح والمكاري بالنسبة إلى الفقهاء ، فإن اتفق من يعرف فنونا ، كالفقه ، والأصول ، والعربية ونحوها ، اعتبر قوله في الإجماع في كل فن منها ، من حيث إنه عالم بذلك الفن ، لا من جهة غيره ، والله أعلم .

وعلى قول القاضي أبي بكر ينبغي أن يعتبر في الإجماع في فن إجماع أهل سائر الفنون ، لأن أسوأ أحوالهم أن يكونوا كالعامة وهو يعتبر قولهم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية