صفحة جزء
[ ص: 61 ] الرابعة : التابعي المجتهد المعاصر معتبر مع الصحابة في أظهر القولين ، اختاره أبو الخطاب ، فإن نشأ بعد إجماعهم فعلى انقراض العصر ، خلافا للقاضي وبعض الشافعية .

لنا : مجتهد من الأمة فلا ينهض السمعي بدونه ، ولأنهم سوغوا اجتهادهم وفتواهم ، وقال عمر لشريح : اجتهد رأيك ، وقال له علي في مسألة اجتهد فيها : قالون ، أي : جيد ، بالرومية .

وسئل أنس عن مسألة فقال : سلوا مولانا الحسن ، فإنه غاب وحضرنا وحفظ ونسينا ، ولولا صحته لما سوغوه فليعتبر في الإجماع .

قالوا : شاهدوا التنزيل فهم أعلم بالتأويل ، فالتابعون معهم كالعامة مع العلماء ، ولذلك قدم تفسيرهم ، وأنكرت عائشة على أبي سلمة مخالفة ابن عباس .

قلنا : الأعلمية لا تنفي اعتبار اجتهاد المجتهد ، وكونهم معهم كالعامة مع العلماء تهجم ممنوع ، والصحبة لا توجب الاختصاص ، وإنكار عائشة إما لأنها لم تره مجتهدا أو لتركه التأدب مع ابن عباس .


المسألة " الرابعة : التابعي المجتهد المعاصر " للصحابة " معتبر " معهم في الإجماع ، لا إجماع لهم بدونه " في أظهر القولين ، اختاره أبو الخطاب " وهو قول الجمهور . " فإن نشأ " التابعي " بعد إجماعهم " على حكم " فعلى انقراض العصر " أي : خرج اعتباره معهم على انقراض العصر .

إن قلنا : لا يشترط لصحة الإجماع انقراض العصر ، لم يعتبر ، وإلا اعتبر ، لأن شرط استقراره لم يوجد " خلافا للقاضي ، وبعض الشافعية " [ ص: 62 ] وبعض المتكلمين ، حيث قالوا : لا اعتبار بمجتهدي التابعين مع الصحابة .

وقال القاضي عبد الوهاب المالكي : الحق التفصيل وهو أن الواقعة إن حدثت للصحابة بعد أن صار التابعي من أهل الاجتهاد ، كان كأحدهم لا إجماع لهم بدونه ، وإن حدثت قبل أن يصير من أهل الاجتهاد ، فأجمعوا على حكمها ، أو اختلفوا ، أو توقفوا ، لم يعتد بقوله .

قلت : ونحوه اختار الآمدي ، والأشبه أنه متى أدرك الخلاف فيها ، أو التوقف ، اعتبر قوله فيها اختلافا أو اتفاقا .

قوله : " لنا : مجتهد من الأمة " إلى آخره ، أي : لنا على اعتبار قوله مع الصحابة مطلقا وجهان :

أحدهما : أنه " مجتهد من الأمة ، فلا ينهض " دليل السمع على عصمة الإجماع " بدونه " إذ العصمة للأمة والصحابة بدون هذا التابعي بعضها لا كلها ، فلا يكون اتفاقهم إجماعا .

الوجه الثاني : أن الصحابة سوغوا اجتهاد التابعين وفتواهم في عصرهم ، فولى عمر شريحا القضاء ، وكتب إليه : ما لم تجده في السنة ، فاجتهد فيه رأيك . " وقال له علي " يعني لشريح " في مسألة اجتهد فيها " فأصاب : " قالون ، أي : جيد بالرومية " .

[ ص: 63 ] والمسألة : أنه جاءته امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر ، فقال له علي : اقض فيها يا شريح ، فقال : إن جاءت ببطانة من أهلها ، يشهدون أنها تركت الصلاة ، فقد انقضت عدتها ، وإلا فهي كاذبة ، فقال له علي : قالون ، أي : أصبت . وروى الإمام أحمد في " الزهد " أن أنسا سئل " عن مسألة ، فقال : سلوا مولانا الحسن ، فإنه غاب وحضرنا ، وحفظ ونسينا " .

وقد علم أن كثيرا من أصحاب عبد الله بن مسعود كعلقمة ، والأسود وغيرهما ، وسعيد بن المسيب ، وفقهاء المدينة كانوا يفتون في عصر الصحابة ، ولولا صحة اجتهادهم معهم " لما سوغوه " وإذا كان اجتهادهم صحيحا ، وجب اعتباره كاجتهاد الصحابي ، لاحتمال أن يظهر للتابعي ما لا يظهر لهم ، فإن كثيرا من التابعين كانوا أفقه من كثير من الصحابة .

قوله : " قالوا : شاهدوا التنزيل " إلى آخره . هذه حجة القاضي ، ومن وافقه ، على عدم اعتبار قول التابعي مع الصحابة ، وهي من وجهين :

أحدهما : أن الصحابة " شاهدوا التنزيل ، فهم أعلم بالتأويل " وأعرف بالمقاصد ، وقولهم حجة على من بعدهم " فالتابعون معهم كالعامة مع العلماء ، ولذلك قدم تفسيرهم " للكتاب والسنة على تفسير غيرهم .

الوجه الثاني : أن عائشة أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن " مخالفة [ ص: 64 ] ابن عباس " في عدة المتوفى عنها ، فقالت له : إنما مثلك كمثل الفروج ; سمع الديكة تصايح ، فصاح لصياحها ، ولو كان قوله مع ابن عباس معتبرا ، لما أنكرت عليه خلافه .

قوله : " قلنا : الأعلمية " إلى آخره ، هذا جواب حجة قولهم : " شاهدوا التنزيل ، فهم أعلم بالتأويل " . " قلنا : الأعلمية " أي : كونهم أعلم ; " لا تنفي اعتبار اجتهاد المجتهد " معهم ، كبعض الصحابة مع بعض ، فإن بعضهم أعلم من بعض ، فالتابعون معهم كالعامة .

قلنا : هذا تهجم على التابعين يوهم تنقصهم ، حيث شبهتموهم بالعامة ، وأطلقتم عليهم هذا اللفظ ، وإن لم يكن تشبيها مطلقا ، ثم كونهم مع الصحابة كالعامة ممنوع ، بل هم كالعلماء بعضهم مع بعض ، فاضلا ومفضولا . وقد ثبت أن كثيرا من التابعين أعلم من كثير من الصحابة المعتبر قولهم ، كسعيد بن المسيب ، مع مثل أبي هريرة . ولهذا رد أهل العراق روايته ، لاشتراطهم في الراوي أن يكون فقيها ، ولم يكن أبو هريرة عندهم كذلك ، وصحبة الصحابة لا توجب اختصاصهم بالاجتهاد ، ولا بكونهم أعلم ، بل العلم نصيب يوسع الله - عز وجل - منه على من يشاء ، ويقتر على من يشاء صحابيا كان أو تابعيا ، ولهذا لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة ، قيل له : يا أبا عبد الرحمن ، أوصنا . قال : أجلسوني ، فأجلسوه ، فقال : إن العلم والإيمان [ ص: 65 ] مكانهما ، من ابتغاهما ، وجدهما ، يقول ذلك ثلاث مرات . رواه النسائي والترمذي وصححه .

ومعناه أن الاجتهاد لا ينقطع ما دام الكتاب والسنة بين أظهر الناس ، فهما عمدة الناس ، وهما كالبحر لا ينفذ ما فيه ، فمن غاص على المعاني منهما ، استخرج علما كثيرا مسبوقا إليه وغيره ، وإذا كان الأمر كذلك ; فلا تأثير للصحبة في الاختصاص بالاجتهاد والإجماع .

وأما إنكار عائشة على أبي سلمة ، فليس لما ذكرتم " بل إما لأنها لم تره " بلغ رتبة الاجتهاد ، ولهذا شبهته بالفروج الذي لم يبلغ مبلغ الديكة " أو لتركه التأدب مع ابن عباس " في أمر خاص أدركته ، كرفع صوت ، أو مبادرة في الكلام ونحوه ، أو لغير ذلك من الأسباب ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية