صفحة جزء
[ ص: 78 ] السادسة : إذا اشتهر في الصحابة قول بعضهم التكليفي ولم ينكر فإجماع خلافا للشافعي .

وقيل : حجة لا إجماع ، وقيل : في الفتيا لا الحكم ، وقيل : هما بشرط انقراض العصر ، وقيل : بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا .

لنا : يمتنع عادة السكوت عن إظهار الخلاف ، لا سيما من الصحابة المجاهدين في الحق الذين لا يخافون فيه لومة لائم .

قالوا : يحتمل سكوته النظر ، والتقية ، والتصويب ، والتأخير لمصلحة ، أو ظن إنكار غيره ، أو خوف عدم الالتفات إليه ، فحمله على الرضا تحكم .

قلنا : كل ذلك إذا قوبل بظاهر حالهم لم ينهض ، ولأنه يفضي إلى خلو العصر عن قائم بحجة ، ولأن غالب الإجماعات كذا ، إذ العلم بتصريح الكل بحكم واحد في واقعة واحدة متعذر .


المسألة " السادسة : إذا اشتهر في الصحابة قول بعضهم التكليفي " أي : المتعلق بأحكام التكليف " ولم ينكر " أي : لم يظهر له منهم منكر ، فهو " إجماع " إلى آخره .

اعلم أنه في " الروضة " فرض هذه المسألة في الصحابة ، وليس مختصا بهم ، بل هذه مسألة الإجماع السكوتي ، منهم ومن غيرهم من مجتهدي الأعصار ، ولكنها مقيدة بما إذا قال بعض الأمة قولا ، وسكت الباقون مع اشتهار [ ص: 79 ] ذلك القول فيهم ، وكان القول تكليفيا ، هل يكون ذلك إجماعا أم لا ؟ فلو لم يشتهر القول فيهم ، لم يدل سكوتهم على الموافقة ، ولو لم يكن تكليفيا ، لم يكن إجماعا ولا حجة ، لأن الإجماع أمر ديني ، وما ليس تكليفيا ، ليس دينيا بل دنيويا .

فإذا اشتهر قول بعض الأمة التكليفي ، ولم يوجد له نكير ، فهو إجماع عند أحمد ، وبعض الحنفية ، والشافعية ، والجبائي ، لكنه اشترط فيه انقراض العصر لضعفه كما سبق " خلافا للشافعي " وإمام الحرمين حيث قالا : ليس بحجة ولا إجماع ، وهو أيضا قول داود وبعض الحنفية .

" وقيل " : هو " حجة لا إجماع " أي : حجة ظنية ، وليس بإجماع يمتنع مخالفته ، وهو قول أبي هاشم ، واختيار الآمدي .

" وقيل : في الفتيا " أي : هو إجماع في الفتيا " لا " في " الحكم " أي : إن كان ذلك القول فتيا من مفت ; كان مع سكوت الباقين عن إنكاره إجماعا ، وإن كان حكما من حاكم ، لم يكن إجماعا ، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة من الشافعية .

والفرق بينهما : أن الحاكم قد يتخلف الإنكار عنه ، إما مهابة له ، أو لأن أحكامه تتبع اطلاعه على أحوال رعيته ، فربما حكم بحكم لأمر اختص بالاطلاع عليه ، فلا يقدم غيره على الإنكار عليه ، لقيام هذا الاحتمال ، وحينئذ سكوته لا يدل على الموافقة ، لجواز أن الحاكم أخطأ ظاهرا ، وأصاب [ ص: 80 ] باطنا ، فمنعه ذلك من الإنكار ، بخلاف المفتي ، فإنه لا يهاب الرد عليه ، بل عادة الفقهاء رد بعضهم على بعض ، وحكم الفقيه مستند إلى أدلة الشرع ، وهي ظاهرة لمن ينظر فيها ، لا إلى أمور باطنة يختص بها دون غيره .

قوله : " وقيل : هما بشرط انقراض العصر " أي : وقيل : هو حجة وإجماع بشرط انقراض العصر من غير مخالف ، وهذا يرجع إلى قوله : " وقيل : بشرط " أي : هو إجماع بشرط " إفادة القرائن العلم بالرضا " أي : يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول .

وهذا أحق الأقوال ، لأن إفادة القرائن العلم بالرضا ، كإفادة النطق له ، فيصير كالإجماع النطقي من الجميع وهذا ينافي قول أبي هشام في أنه حجة لا إجماع ، لأن قوله مع عدم القرائن ، وهذا مع القرائن ، فيستويان ، والقول المذكور مع القرائن المفيدة للعلم ليس من هذه المسألة في شيء ، لأن القرائن إذا أفادت العلم برضا الساكتين ، لم يبق الخلاف في كونه إجماعا متجها ، وإنما الكلام في قول البعض ، وسكوت البعض ، مجردا عن القرائن ، وفيه الأقوال الخمسة الأول .

" لنا : " أي : على أنه إجماع مطلقا أنه " يمتنع " في العادة " السكوت عن إظهار الخلاف " إذا لاح دليله " لا سيما من الصحابة ، المجاهدين في [ ص: 81 ] الحق ، الذين لا يخافون فيه لومة لائم " وإذا كان السكوت عن الخلاف ممتنعا في العادة ; وجب أن يكون السكوت دليل الرضا عادة ، فيكون القول المذكور معه إجماعا .

قوله : " قالوا : " أي : المانعون لكونه إجماعا ، احتجوا بأن سكوت الساكت عن إظهار خلاف قول القائل " يحتمل " أمورا :

أحدها : " النظر " في الدليل ، والتروي في الحكم ، إذ ليس كل أحد يستحضر الدليل بديهة ، ولا كل دليل يستحضر كذلك ، لتفاوت الأذهان في الإدراك ، والأحكام في الوضوح والخفاء .

الثاني : " التقية " للقائل ، أي : يتقي سطوته مهابة له ، كما قال ابن عباس :

هبته ، وكان امرأ مهيبا ، يعني عمر .

الثالث : " التصويب " وهو أن يسكت لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب ، وهذا القائل مجتهد ، فيكون مصيبا ، ولا يلزم من ذلك موافقة الساكت .

الرابع : " التأخير لمصلحة " والمصالح التي يقدر عروضها ، ومناسبة تأخير الإنكار لها كثيرة ، كخوف إثارة فتنة ونحوه .

الخامس : أنه سكت ظنا منه أن غيره قد أنكر فسقط الإنكار عنه ، لأن إنكار ما لا يجوز فرض كفاية ، فيسقط عن الجميع بفعل البعض كما سبق .

السادس : أنه سكت مخافة أن لا يلتفت إلى إنكاره ، بأن ظهرت له [ ص: 82 ] أمارات ذلك فيضع منه ، خصوصا إن كان ذا منصب من غير نفع يحصل بالإنكار .

وقد قال العلماء : إن بمثل ذلك يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وفي شبه ذلك قال الحارث بن هشام ، حين عوتب على فراره يوم بدر :


الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مزبد     وعلمت أني إن أقاتل واحدا
أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي



ووجه سابع : وهو أن ، ينكر الساكت ، لكن لم ينقل إنكاره . وإذا كان السكوت يحتمل هذه الأمور " فحمله على الرضا تحكم " نادر ، لأنه احتمال من ثمانية احتمالات .

قوله : " قلنا : " يعني في الجواب " كل ذلك " أي : كل هذه الاحتمالات إذا قوبلت " بظاهر حالهم " في ترك السكوت ، وجريان العادة ، واقتضاء الطباع إظهار ما يعتقده حقا ، لا ينهض في الدلالة على ما ذكرتم ، بل ما ذكرناه من [ ص: 83 ] ظاهر حالهم أغلب وأظهر ، واحتمال واحد قوي ، يظهر على كثير من الاحتمالات الخفية ، كما قيل : وواحد كالألف إن أمر عنا .

" ولأنه " أي : ولأن ما ذكرتموه من عدم دلالة السكوت على الرضا " يفضي إلى خلو العصر عن قائم بحجة " الشرع ، وهو خلاف ظاهر قوله - عليه السلام - : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك مع أن الاحتمالات المذكورة ، إذا حقق أمرها على التفصيل بان ضعفها ، أو ضعف بعضها .

قوله : " ولأن غالب الإجماعات كذا " . هذا دليل آخر على أن السكوت دليل الرضا .

وتقريره : لو لم يدل سكوت الساكت على الرضا لتعذر وجود الإجماع بالأصالة ، أو تعذر وجوده غالبا ، لأن الإجماع النطقي عزيز جدا " إذ العلم بتصريح " كل واحد من المجتهدين " بحكم واحد ، في واقعة واحدة متعذر " لكن الإجماع موجود في كثير من مسائل الشرع الفرعية وغيرها ، وإنما كان ذلك بهذا الطريق ، وهو قول البعض وإقرار البعض .

وفي المسألة دليلان آخران :

وهو أن إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما سمعه أو يراه دليل على رضاه وتصويبه ، فكذلك سكوت المجتهدين وإقرارهم ، لأنهم شهداء الله في الأرض بنص السنة الصحيحة .

[ ص: 84 ] الثاني : أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة ، فوجدوا فيها قول صحابي منتشرا لم ينكر ; لم يعدلوا عنه ، وذلك إجماع من التابعين على كونه حجة .

واعلم أن ما ذكرناه من الدليل على أن ذلك إجماع ، تظهر قوته فيما إذا استدللنا به على أنه حجة ظنية ، لكن الشيخ أبا محمد ضعف القول بأنه حجة لا إجماع .

قال " : لأنا إن قدرنا رضا الساكت ، فهو إجماع ، وإلا فهو قول بعض أهل العصر ، وليس بحجة .

وأما الفرق بين قول المفتي والحاكم ، بالمهابة وعدمها ، وما ذكر قبل ، فإنما يتجه بعد استقرار المذاهب ، أما قبل ذلك ، فالحاكم كالمفتين في ذلك .

تنبيه : القاعدة بمقتضى العقل واللغة أن لا ينسب إلى ساكت قول ، إلا بدليل يدل على أن سكوته كالقول ، حكما أو حقيقة ، لأن السكوت عدم محض ، والأحكام لا تترتب على العدم ، ولا يستفاد منه الأقوال .

فلهذا لو أتلف إنسان مال غيره ، وهو ساكت لم يمنعه ، ولم ينكر عليه ضمن المتلف ، ولا يجعل سكوت المالك إذنا فيه .

ولو ادعي على شخص دعوى ، فلم يجب بنفي ولا إثبات ، لم يجعل [ ص: 85 ] مقرا بالحق بسكوته ، بل يقول له الحاكم : إن أجبت ، وإلا جعلتك ناكلا ، وقضيت عليك ، فإذا لم يجب ، قضى لوجود شرط القضاء ، وهو عدم إجابته ، تنزيلا له منزلة الإقرار ، لظهوره فيه ، لا أنه إقرار حقيقة . وهذا من المواضع المستثناة التي ينسب فيها إلى الساكت قول بدليل ، ولو قيل له : أطلقت امرأتك ؟ أو أعتقت رقيقك ؟ أو زوجت ابنتك فلانا ؟ أو بعته ؟ أو رهنته ؟ أو وهبته هذه العين ؟ أو لفلان عندك كذا ؟ فسكت ، لم يكن إقرارا .

أما إن قام دليل شرعي أو عقلي على نسبة القول أو مقتضاه إلى الساكت ، عمل به ، كقوله - عليه السلام - في البكر : إذنها صماتها ، وكذلك ضحكها وبكاؤها يعني في تزويجها ، وكقولنا : إن إقرار النبي - عليه السلام - على قول أو فعل ، مع علمه به ، وقدرته على إنكاره حجة ، وإن الإجماع السكوتي حجة ، وكقولنا : إن من أقر بأحد ولدين ولدتهما امرأته في بطن واحد ، وسكت عن توأمه ، لحقه نسبه ، ولم يكن له نفيه ، لاستلزام إقراره بتوأمه الإقرار به عقلا ، إذ لا يتصور كون أحدهما منه والآخر من غيره ، وكذلك لو هنئ بولده ، فسكت ، أو أمن على الدعاء له ، أو أخر نفيه مع إمكانه ، والعلم بأن له نفيه ; لحقه نسبه ، لقيام الدليل على أن السكوت هاهنا كالقول ، ولو حلق [ ص: 86 ] حلال رأس محرم ، وقدر على الامتناع ، فلم يمتنع ، ولم يكن منه إذن ، فهل الفدية عليه أو على الحالق ؟ فيه وجهان ، لأن سكوته هاهنا قوي ، لاقترانه بالقدرة على المنع ، فصار مترددا بين الإذن المحض ، والسكوت المحض ، وسكوت أحد المتناظرين عن الجواب لا يعد انقطاعا في التحقيق ، إلا بإقرار منه ، أو قرينة حال ظاهرة ، مثل أن يعرف بحب المناظرة ، وقهر الخصوم ، وتوفر الدواعي على ذلك ، فهذا سكوته في مجرى العادة لا يكون إلا عن انقطاع .

أما لو انتفت القرينة ، لم يدل سكوته على الانقطاع ، لتردده بين استحضار الدليل ، وترفعه عن الخصم لظهور بلادته ، أو تعظيمه ، وإجلاله عن انقطاعه معه ، أو إفضاء المناظرة إلى الرياء ، وسوء القصد ، فيحب السلامة بالسكوت ، ونحو ذلك من الاحتمالات ، ولذلك اشتهر بين العامة ، إذا قرروا شخصا بأمر ، فسكت ، قالوا : سكوته إقراره ، وليس ذلك مطلقا ، بل إن ظهرت قرائن الإقرار ، دل سكوته عليه ، وإلا فلا .

ومن هذا الباب وقع النزاع بين العلماء في بيع المعاطاة ، نحو : خذ ، وأعطني ، أو يتعاطيان بلا قول أصلا من إيجاب وقبول ، فالمشهور عن الشافعي : لا يصح ، لأن مال الغير حرام إلا بالتراضي وهو خفي في النفس ، [ ص: 87 ] يحتاج إلى قول يدل عليه ، لأن الساكت لا ينسب إليه قول ، والصحيح الأكثر عن العلماء صحته ، لدلالة السكوت مع قرائن الأحوال على الرضا قطعا ، ولاصطلاح الناس عليه في كل عصر من غير نكير ، فكان إجماعيا مما نحن فيه ، ويتخرج على هذه القاعدة كل ما أشبه هذه المسائل .

والسر فيه ، أن العبارات ليست مقصودة لذاتها ، بل لدلالتها على ما في النفوس من الإرادات والمعاني ، فإذا حصلت الدلالة على ذلك بدون الألفاظ ، صارت فضلة لا حاجة إليها ، كما لا يحتاج الطائر في صعوده السطح إلى نصب سلم ، لاستغنائه عنه بالجناح ، ولهذا وقع الحذف كثيرا في كلام العرب ، لحصول مقصود اللفظ المحذوف بالقرائن ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية