صفحة جزء
[ ص: 88 ] السابعة : إذا اختلفوا على قولين ، امتنع إحداث ثالث خلافا لبعض الحنفية والظاهرية .

لنا : هو مخالفة سبيل المؤمنين ونسبة للأمة إلى تضييع الحق .

قالوا : لم يصرحوا بتحريم الثالث ، فجاز كما لو علل أو استدل بغير علتهم ودليلهم ، وكما لو نفى بعض في مسألتين وأثبت بعض ، فنفى الثالث في إحداهما وأثبت في الأخرى .

قلنا : وسكتوا عن الثاني ، ولم يجز إحداثه ، والعلة والدليل يجوز تعددهما ولم يتعبدوا به ، والواحد منهما يكفي ، والنافي في إحدى المسألتين دون الأخرى لم يخرج عن سبيل المؤمنين ، ومن ثم جاز انقسام الأمة إلى فرقتين تصيب كل واحدة في إحدى المسألتين وتخطئ في الأخرى على الأصح فيه ، إذ الممتنع خطأ الجميع في كلتيهما لا في بعض بالتركيب .

وقيل : إن رفع الثالث الإجماع امتنع ، وإلا فلا ، وهو أولى .


المسألة " السابعة : إذا اختلفوا " يعني أهل العصر " على قولين ، امتنع على من بعدهم " إحداث " قول " ثالث " عند الجمهور " خلافا لبعض الحنفية ، والظاهرية " والشيعة .

قوله : " لنا : " أي : على امتناع إحداث القول الثالث وجهان :

أحدهما : أن ذلك " مخالفة سبيل المؤمنين " فيمتنع ، أما أنه خلاف سبيل المؤمنين ، فلأن اختلافهم على قولين حصر للحق فيهما فلا [ ص: 89 ] يتجاوزهما ، فالقول الثالث خارج عن سبيل المؤمنين ، وعن الحق المحصور فيه ، وأما أن خلاف سبيل المؤمنين ، ممتنع بالأدلة للإجماع السابقة .

الوجه الثاني : أن ذلك يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق ، وهو غير جائز ، وما أفضى إلى غير الجائز لا يجوز .

أما أنه يوجب نسبة الأمة إلى ما ذكرنا ، فلما تقدم من أن اختلافهم على قولين اقتضى حصر الحق فيهما ، فلو كان القول الثالث حقا ، لكانت الأمة قد ضيعته . وأما أن نسبتها إلى تضييع الحق لا يجوز ، فلأن ذلك ينافي العصمة ، وقد دل الدليل على عصمتها ، وما نافى مقتضى الدليل لا يجوز ، وأما أن ما أفضى إلى غير الجائز لا يجوز ، فلأن وسيلة الممنوع ممنوعة ، ومن كليات القواعد : أن الوسائل تتبع المقاصد .

قلت : ويرد على الوجهين منع أن اختلافهم على قولين حصر للحق فيهما ، بل إنما أجمعوا على جواز القولين ، لا على نفي الثالث ، وأن الإجماع على القولين مشروط بعدم حدوث الثالث ، فلما حدث الثالث ، تبين أن اتفاقهم على القولين ، لم يكن إجماعا .

قوله : " قالوا : " يعني المجوزين لإحداث قول ثالث ، احتجوا بأن المختلفين على قولين " لم يصرحوا بتحريم " القول " الثالث ، فجاز " إحداثه ، كما لو عللوا أو استدلوا بعلة أو دليل ، فعلل من بعدهم ، أو استدل بغير تلك العلة وذلك الدليل ، فإن ذلك جائز ، فكذا إحداث القول الثالث ، وكذا لو [ ص: 90 ] نفى بعض أهل العصر الحكم في مسألتين ، وأثبته بعضهم فيهما " فنفى الثالث في إحداهما ، وأثبت في الأخرى " جاز .

كما لو قال قائل : إذا أودع الصبي المميز والعبد مالا ، فأتلفاه ، ضمناه ، وقال قائل : لا يضمنان ، فقال الثالث : يضمن العبد دون الصبي .

وكما لو قال قائل : لا يطهر جلد الكلب ، ولا الخنزير بالدباغ . وقال آخر : يطهران ، فقال ثالث : يطهر جلد الكلب دون الخنزير ، وأشباه ذلك ، فكذا إحداث القول الثالث .

قوله : " قلنا : وسكتوا عن الثاني ، ولم يجز إحداثه " . هذا نقض لقولهم : إن المختلفين على قولين لم يصرحوا بنفي الثالث ، فيجوز إحداثه ، وإلزام لهم على اعتلالهم فيه ما لا يقولون به .

وتوجيه النقض المذكور : أنهم كما لم يصرحوا بنفي الثالث ; كذلك إذا اتفقوا على قول واحد ، لم يصرحوا بنفي قول ثان ، بل سكتوا عنه ، ولم يجز إحداثه باتفاق ، فإن كان عدم تصريحهم بالثالث لا يمنع من إحداثه ، فليكن عدم تصريحهم بالثاني غير مانع من إحداثه ، ولم يقولوا به .

قوله : " والعلة والدليل " إلى آخره . هذا فرق بين إحداث القول الثالث ، وبين التعليل أو الاستدلال بغير ما استدل به أهل العصر .

وتقرير الفرق : أن " العلة والدليل يجوز تعددهما " أي : ثبوت الحكم بعلتين ، أو دليلين ، يخفى أحدهما عن أهل العصر الأول ، ويظهر لأهل العصر الثاني ، وليسوا متعبدين بالاطلاع على جميع العلل والأدلة ، إذ [ ص: 91 ] المقصود معرفة الحكم ، وذلك بالعلة الواحدة والدليل الواحد ، فالعلل والأدلة وسائل لا مقاصد ، بخلاف الحكم ، فإنه لا يجوز تعدده في المحل الواحد ، فيكون منفيا مثبتا ، أو واجبا محرما من جهة واحدة ، وهو متعبد به ، مقصود لذاته ، فإحداثه بعد الاتفاق على غيره خلاف لسبيل المؤمنين المقصود ، ونسبة لهم إلى تضييع الحق وإهماله ، بخلاف العلة ، والدليل .

قوله : " والنافي " إلى آخره . هذا جواب عن قياسهم على ما لو نفى البعض في مسألتين ، وأثبت البعض الآخر فيهما ، فنفى الثالث في إحداهما .

وتقريره : أن " النافي في إحدى المسألتين دون الأخرى لم يخرج عن سبيل المؤمنين " ألا تراه في المثال المذكور وافق بعضهم في تضمين العبد ، والبعض الآخر في عدم تضمين الصبي ، بخلاف من أحدث قولا ثالثا ، فإنه خرج عن سبيل المؤمنين خروجا كليا .

قوله : " ومن ثم " أي : ومن جهة أن الممتنع إنما هو الخروج الكلي عن سبيل المؤمنين ، لا الخروج الجزئي ; " جاز " أن تنقسم " الأمة إلى فرقتين ، تصيب كل واحدة " منهما " في إحدى المسألتين ، وتخطئ في الأخرى على الأصح " في ذلك .

مثاله : خطأ الحنابلة في تقديم بينة الخارج ، وإصابة الشافعية في [ ص: 92 ] تقديم بينة الداخل ، وخطأ الشافعية في إباحة البنت المخلوقة من الزنى ، وكراهة الماء المشمس ، وإصابة الحنابلة في تحريمها وعدم كراهته .

وأمثال هذا كثير ، لأن الممتنع خطأ جميع الأمة في كلتا المسألتين " لا في بعض بالتركيب " أي : ليس الممتنع خطأ الأمة في بعض المسائل خطأ مركبا ، بأن تخطئ هذه الطائفة في هذه المسألة ، وهذه الطائفة في تلك المسألة الأخرى ، لأن الخطأ المركب جزئي ، ولا دليل على عصمتها منه ، إنما دل الدليل السمعي على نفي الخطأ الكلي ; وهو أن يخطئ مجموع الطائفتين في كل واحدة من المسألتين ; بخلاف الخطأ المركب ، لأنها إن كانت فيه مخطئة من وجه ، فهي مصيبة من وجه .

واعلم أن خطأ كل فرقة في مسألة هو واسطة بين طرفين ، فلهذا خرج الخلاف فيه ، وذلك لأن القسمة تقضي أنه إما أن تخطئ كل واحدة من الفرقتين ، في كل واحدة من المسألتين ، أو تصيب كل واحدة من الفرقتين ، في كل واحدة من المسألتين ، أو تصيب كل واحدة في مسألة ، وتخطئ في الأخرى ، فالأول ممتنع ، لأنه خطأ كلي ، والثاني جائز حسن ، لأنه إصابة كلية ، والثالث واسطة ، لأنه خطأ من وجه دون وجه ، فبالنظر إلى ما فيه من الخطأ ألحق بالطرف الأول ، وهو الخطأ الكلي في الامتناع ، وبالنظر إلى ما فيه من الصواب ألحق بالطرف الثاني ، وهو الصواب الكلي في الجواز .

قوله : " وقيل : إن رفع الثالث الإجماع امتنع ، وإلا فلا ، وهو أولى " هذا [ ص: 93 ] قول ثالث في المسألة ، وهو أن إحداث القول الثالث إن رفع الإجماع الأول على القولين الأولين ، لم يجز ، وإن لم يرفعه ، جاز . وهذا التفصيل اختيار الإمام فخر الدين في " المحصول " والآمدي في " منتهى السول " .

مثال الرافع لما اتفق عليه القولان الأولان : أن الوالد لا يقتل بولده عند الأكثرين مطلقا ، وقال مالك : يقتل إذا تعمد قتله ، مثل أن يذبحه ذبحا ونحوه ، لا أن حذفه بسيف ونحوه ; لاحتمال أنه أراد تأديبه ، فأتى على نفسه خطأ . فلو قال قائل آخر : يقتل بولده مطلقا ، كان رافعا للإجماع الأول .

وكذا لو قال بعض الأمة باعتبار النية في كل طهارة ، وقال البعض الآخر : باعتبارها في بعض الطهارات دون بعض ، كقول أبي حنيفة : يعتبر للتيمم دون الوضوء ، فالنافي لاعتبارها في جميع العبادات مطلقا ; يكون رافعا للإجماع الأول .

وكذا لو قال بعض الأمة : الجد يسقط الإخوة ، ويأخذ المال دونهم ، وهو قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقال بعضهم : يقاسمهم كأخ وهو قول زيد بن ثابت على تفصيل فيه ، فلو قال قائل : إن الإخوة يحوزون المال كله ; كان رافعا للإجماع . على أن القرافي حكى عن ابن حزم في " المحلى " أن بعض الناس قال : المال كله للإخوة ، تغليبا للبنوة على الأبوة ، [ ص: 94 ] فعلى هذا لا يصح هذا المثال ، لكون القول الثالث ليس رافعا للإجماع ، وإنما الرافع للإجماع أن يقدر قول قائل بأن الجد يقاسم الإخوة نصفين ; قلوا أو كثروا ، أو يفصل بين أن يكونوا لأبوين ، فيحوزونه أو يقاسمون ، أو لأب ، فينفرد به عنهم ، ونحو ذلك من التقديرات التي لم يقل بها قائل .

ومثال ما ليس رافعا للإجماع : ما سبق من النفي في إحدى المسألتين دون الأخرى ، وكما لو اختلفوا في اعتبار النية في الطهارات نفيا وإثباتا ، فالقول بإثباتها في البعض دون البعض لا يمتنع ، لأنه لم يرفع الإجماع الأول ، بل وافق كل فريق في بعض ما ذهب إليه ، وذلك لا يتحقق به مخالفة سبيل المؤمنين ، فلا يكون باطلا ، لأن الدليل السمعي إنما دل على تحريم مخالفة سبيل المؤمنين ، فسبيل بعضهم لا يتناوله دليل السمع ، وإلا لانعقد الإجماع بقول بعضهم ، وهو باطل ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية