صفحة جزء
[ ص: 95 ] الثامنة : اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة إجماع عند أبي الخطاب والحنفية خلافا للقاضي وبعض الشافعية .

لنا : سبيل مؤمني عصر فينهض السمعي ، كاتفاق الصحابة على أحد قوليهم .

قالوا : فتيا بعض الأمة ، ولا يبطل مذهب الميت بموته .

قلنا : يلزم اختصاص الإجماع بالصحابة كقول داود ، وهو باطل باتفاق .


المسألة " الثامنة : اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة إجماع " أي : إذا اختلف الصحابة على قولين ، فاتفق التابعون على أحدهما ، كان ذلك إجماعا " عند أبي الخطاب والحنفية ، خلافا للقاضي وبعض الشافعية " حيث قالوا : ليس ذلك بإجماع .

قال القرافي : لنا وللشافعية فيه قولان مبنيان على أن إجماعهم على الخلاف يقتضي أنه الحق ، فيمتنع الاتفاق بعده ، أو هو مشروط بعدم الاتفاق ، وهو الصحيح .

قلت : واختار الآمدي امتناع الاتفاق بعد الخلاف ، وليس ذلك مخصوصا بالتابعين مع الصحابة ، بل أي عصر من الأعصار اختلف أهله ، فهل يصح اتفاق أهل العصر بعده على أحد القولين ؟ ولا نزاع في إمكان تصور ذلك عقلا ، بل في صحته شرعا .

" لنا : " أي : على صحة ذلك أن اتفاق أهل العصر الثاني " سبيل مؤمني عصر ، فينهض " الدليل " السمعي " على كونه معصوما ، بناء على ما سبق [ ص: 96 ] من أن إجماع كل عصر حجة ، وصار ذلك " كاتفاق الصحابة على أحد قوليهم " فإنه يكون إجماعا ، كذلك هذا .

قوله : " قالوا : " يعني المانعين لكون الاتفاق على أحد قولي أهل العصر الأول حجة ; قالوا : هذا الاتفاق هو " فتيا بعض الأمة " فلا يكون إجماعا ، لأن العصمة إنما تثبت لمجموع الأمة ، لا لبعضها ، والدليل على أنه فتيا بعض الأمة هو أن حكم القول الآخر من قولي أهل العصر الأول باق ، لأن القائلين به وإن ماتوا ; لكن قولهم لم يمت ، لأن مذهب الميت لا يبطل بموته ، بدليل أن أقوال أئمة السلف معمول بها ، معتمد عليها بعد موتهم إلى يومنا هذا فما بعده ، وإذا ثبت أن أحد قولي أهل العصر الأول لم يبطل بموت قائله ; كان اتفاق أهل العصر الثاني على القول الآخر اتفاقا على فتيا بعض الأمة ، وذلك ليس بإجماع .

قوله : " قلنا : يلزم اختصاص الإجماع بالصحابة ، كقول داود ، وهو باطل باتفاق " .

توجيه هذا الجواب أن يقال : القول بأن اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول لا يكون إجماعا ، لما ذكرتموه من أنه فتيا بعض الأمة لا كلها ، يلزم منه اختصاص الإجماع بالصحابة ، بأن لا يصح انعقاد الإجماع إلا منهم ، ولا يصح ممن بعدهم ، لأنهم وإن ماتوا ، فأقوالهم لم تبطل بموتهم ، فكل من اتفق بعدهم على حكم ، فقوله فتيا بعض الأمة لا فتيا [ ص: 97 ] كلها ; فلا يتصور انعقاد الإجماع بعدهم ، كما ذهب إليه داود الظاهري ، لكن اختصاص الإجماع بالصحابة باطل ، باتفاق منا ومن الخصم في هذه المسألة ، فيبطل ملزومه ، وهو أن اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول ، ليس بإجماع فيصح ما قلناه من أنه إجماع .

تنبيه : أما اتفاق أهل العصر الواحد بعد اختلافهم ، فجائز ، خلافا للصيرفي ، ودليل الجواز الوقوع ، فإن الصحابة اختلفوا في أحكام كثيرة ، ثم اتفقوا ، وقد سبقت أمثلته في مسألة انقراض العصر ، ولعل الصيرفي يحتج بأن اختلافهم على قولين فأكثر ; إجماع منهم على تسويغ الخلاف في المسألة والأخذ بكل واحد من الأقوال فيها بالاجتهاد ، فاتفاقهم بعد ذلك على أحد الأقوال رفع لذلك الإجماع ، ومعارضة للإجماع الأول بالثاني ، وهو باطل .

والجواب : أن اتفاقهم على أحد قوليهم سبيل المؤمنين فيجب اتباعه ، وأما كون اختلافهم إجماعا على تسويغ الأخذ بكل من القولين ، فممنوع ، وإن سلم ، لكن ذلك الإجماع مشروط بعدم الإجماع الثاني على أحد القولين .

فإن قيل : لو جاز أن يكون الإجماع على تسويغ الخلاف المذكور مشروطا بعدم الإجماع الثاني ، لجاز أن يكون إجماعهم على قول واحد مشروطا بعدم إجماع ثان ، لكن ذلك يوجب أن لا يستقر إجماع أصلا ، وأن يجوز نقض الإجماع بالإجماع أبدا ، وهو باطل ، فالمفضي إليه باطل .

فالجواب : أن ذلك غير لازم ، لأن الإجماع على قول واحد تعينت فيه المصلحة ووجه الحق ، فاستقرت له العصمة ، بخلاف الاختلاف على [ ص: 98 ] قولين ، فإن جهة المصلحة لم تتعين في أحدهما ، فلم تستقر العصمة في الإجماع على تسويغ الأخذ بكل منهما ، فكان استقراره مشروطا بعدم ما هو أقوى منه ، فإذا وجد ، زال الإجماع الأول لزوال شرطه ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية