صفحة جزء
[ ص: 180 ]

أما الأول ، ففيه مسائل :

الأولى : من شروط المكلف : العقل ، وفهم الخطاب . فلا تكليف على صبي ولا مجنون ، لعدم المصحح للامتثال منهما ، وهو قصد الطاعة . ووجوب الزكاة والغرامات في ماليهما ، غير وارد ، إذ هو من قبيل ربط الأحكام بالأسباب ، كوجوب الضمان ببعض أفعال البهائم .


قوله : " أما الأول " يعني المتعلق من الشروط بالمكلف " ففيه مسائل " :

" الأولى : من شروط المكلف العقل وفهم الخطاب " ، أي : يكون عاقلا يفهم الخطاب ، ولا بد منهما جميعا ، إذ لا يلزم من العقل فهم الخطاب ، لجواز أن يكون عاقلا لا يفهم الخطاب ، كالصبي والناسي والسكران والمغمى عليه ، فإنهم في حكم العقلاء مطلقا ، أو من بعض الوجوه ، وهما لا يفهمان .

قوله : " فلا تكليف على صبي ولا مجنون " هذا تفريع على ما قبله ، أي : إذا كان العقل والفهم من شروط المكلف ، فلا تكليف على صبي ، لأنه لا يفهم ، ولا مجنون ، لأنه لا يعقل ، وهو معنى قوله : " لعدم المصحح للامتثال منهما ، وهو قصد الطاعة " . أي : إن مقتضى التكليف : الامتثال ، وهو قصد الطاعة بفعل المأمور وترك المنهي تحقيقا لامتحان المكلف ، كما قال سبحانه وتعالى : ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ هود : 7 ] .

وشرط كون الامتثال طاعة ، قصدها لله سبحانه وتعالى ، رغبة ورهبة فيما عنده من الوعد والوعيد ، فهذا القصد ، هو المصحح لكون الامتثال طاعة ، وهو [ ص: 181 ] مفقود في الصبي والمجنون ، لأنهما لا يفهمان ، ومن لا يفهم الخطاب ، لا يتصور منه قصد مقتضاه .

قوله : " ووجوب الزكاة والغرامات في مالهما ، غير وارد ، إذ هو من قبيل ربط الأحكام بالأسباب ، كوجوب الضمان ببعض أفعال البهائم " .

هذا جواب سؤال مقدر ، تقديره : أن الصبي والمجنون ، إذا كانا غير مكلفين فلم أوجبتم الزكاة ، وغرامة ما أتلفاه في مالهما ؟ والزكاة والغرامات إنما ثبتا بخطاب الشرع ، وقد ثبتا في حق الصبي والمجنون ، فوجب أن يكونا مخاطبين .

وتقرير الجواب المذكور عن هذا السؤال : أن وجوب الزكاة والغرامات في مالهما ليس من باب التكليف الخطابي لهما ، إنما هو من قبيل ربط الأحكام بأسبابها ، كما أن البهيمة إذا أتلفت زرعا بالليل أو بالنهار بتفريط صاحبها ، أو غير ذلك من صور الضمان بأفعال البهائم ، ضمن صاحبها ، مع أن البهيمة ليست مخاطبة ، ولا مكلفة بالإجماع .

ومعنى ربط الحكم بالسبب : أن الشرع وضع أسبابا تقتضي أحكاما تترتب عليها ، تحقيقا للعدل في خلقه ، ولمراعاة مصالحهم تفضلا منه ، لا يعتبر فيها تكليف ولا علم ، حتى كأن الشرع قال : إذا وقع الشيء الفلاني في الوجود ، فاعلموا أني حكمت بكذا ، كالموت مثلا ، إذ هو سبب انتقال مال الميت إلى وارثه ، سواء كان عاقلا أو غير عاقل ، عالما أو غير عالم ، مختارا أو غير مختار ، فينتقل الملك إليه قهرا حتى لو كان فيه ذا رحم محرم ، له عتق عليه ، ولو باع مال مورثه يعتقد حياته ، فبان أنه كان عند البيع ميتا ، صح البيع في أحد الوجهين ، وكذلك حولان الحول على [ ص: 182 ] اللقطة إذا عرفت سبب لملك الملتقط لها قهرا ، وتنصف المهر بعد قبض الزوجة له ، سبب لملك الزوج لنصفه قهرا ، كالإرث ، إذ لو كان الصداق باقيا نصفته على خلاف في هاتين الصورتين .

وشراء المضارب زوجة رب المال ، أو ذا رحم محرم منه ، سبب لفسخ النكاح والعتق ، وإن لم يعلم .

وإحبال الأمة سبب لصيرورتها أم ولد ، وإن كان الواطئ مجنونا .

وإعسار الزوج بالنفقة ، سبب لفسخ النكاح ، حيث يقال به ، وذلك كثير جدا .

وهو من باب خطاب الوضع ، الآتي ذكره قريبا إن شاء الله تعالى .

وكذلك مال الصبي والمجنون ، وضعه الشرع سببا لتعلق الزكاة به ، والمخاطب بالإخراج الولي . وكذلك إتلافاتهما سبب لتعلق الضمان بمالهما ، وإتلاف البهيمة لما أتلفته سبب لضمان مالكها ، وهو المخاطب .

تنبيه : مأخذ الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة في وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون ، هو تردد الزكاة بين كونها عبادة ، فلا تجب عليهما ، لعدم تكليفهما ، كالصلاة ، أو مؤنة مالية ، فتجب في مالهما ، كنفقة الأقارب والزوجات .

ولا شك أن فيها الشائبتين ، أما شائبة العبادة ، فبدليل أن النية تجب فيها ، [ ص: 183 ] حتى لو أخرجت بغير نية من المالك أو نائبه ، لم تقع الموقع ، وإذا أخذها الإمام قهرا من الممتنع منها ، أجزأت ظاهرا لا باطنا ، بمعنى أنه لا يرجع بها ثانيا ، لا بمعنى براءة عهدته مع الله تعالى .

وأما شائبة النفقة المالية ، فمن جهة أن الله سبحانه وتعالى جعل مصرفها للفقراء والمساكين وغيرهما من الأصناف ، فكأنه أوجب على الأغنياء نفقة الفقراء بقرابة الإسلام ، فلله سبحانه وتعالى في الزكاة حكمتان ظاهرتان :

إحداهما : في مصدرها ، وهم الأغنياء ، بالابتلاء ببذل المال المحبوب في طاعة علام الغيوب .

والثانية : في موردها ، وهم الفقراء ، بإقامة أودهم من جهة الأغنياء ، ولهذا يقال : الفقراء عيال الأغنياء .

وقال بعض الفضلاء : لما خلق الله سبحانه وتعالى خلقه على ضربين : غني وفقير ، فرض للفقراء كفايتهم في مال الأغنياء ، لكن الأغنياء ضيقوا على الفقراء ، إما بمنع ما يجب ، أو بأخذ ما لا يستحق .

وإذا ثبت تردد الزكاة بين العبادة والنفقة ، فأبو حنيفة غلب معنى العبادة ، وغيره غلب معنى النفقة ، وهو الأظهر ، لأنا نقول : بتقدير أن يكون الغالب في نظر [ ص: 184 ] الشارع فيها العبادة ، يتضرر الصبي بإيجابها في ماله ، إذ يوجب في ماله مال لا يلزمه .

وبتقدير أن يكون الغالب فيها النفقة ، يتضرر الفقراء بمنعهم ما يستحقونه ، وإذا تعارض الضرر ، فمراعاة جانب الفقراء أولى ، لأن ما يأخذونه جزء يسير من المال ، والباقي أكثر ، وقد راعى العلماء جانبهم في مسائل كثيرة من باب الزكاة ، كضم أنواع الجنس من المال في تكميل النصاب ، وفي الإخراج بالوزن أو بالقيمة ، وفي تقويم العروض بما هو أحظ لهم ونحو ذلك .

وأما وجوب الضمان بإتلافهما ، وإتلاف كل مخطئ ، وإتلاف البهيمة للأموال ، فأصله أن الشرع ورد بالتكليف والعدل ، وبابهما مختلف ، كما قررته في " القواعد الصغرى " .

ومن العدل ، ألا تذهب حقوق الناس المالية هدرا بوجه من الوجوه ، لما علم من وضع أمرهم على الفقر ، والحاجة إلى قوام المعاش ، فلذلك كانت هذه الأفعال سببا لاستدراك الضرر المالي ، وإن صدرت عن غير مكلف ، تحقيقا للعدل .

فإن قيل : القاعدة الشرعية ، أن العقوبات لا تناسب إلا من قصد انتهاك المحارم ، والمخطئ وغير المكلف لم ينتهك حرمة حتى يعاقب عليها بالغرامة ، فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذا ليس من باب العقوبة ، لأن العقوبة زاجر ، والضمان جابر ، ولهذا لم تتداخل ، بخلاف بعض الزواجر ، كالحدود ، فإنها تتداخل ، فعلى هذا وجوب القصاص في العمد ، زاجر ترتب على خطاب تكليفي ، ووجوب الدية في [ ص: 185 ] الخطأ ، جابر ترتب على خطاب وضعي سببي ، وكذلك الحد على الزنى بالمكرهة ، زاجر ، ووجوب المهر لها وللموطوءة بشبهة جابر ، ولذلك نظائر كثيرة .

الثاني : لو سلمنا أن الضمان عقوبة ، وأن عدم انتهاك الحرمة يقتضي دفعها ، غير أن هذا يعارضه ما يترتب على عدم الضمان من تضرر الإنسان ، لفوات عين ماله ، فرجح الشارع هذا المعارض ، وترك له القاعدة الشرعية في باب العقوبات ، وجعله عدلا عاما بين الخلق ، فإن الإنسان تارة يكون متلفا ، فيضمن ، وتارة يكون متلفا له ، فيأخذ ، وتارة تتلف دابته مال غيره فيضمن له ، وتارة تتلف دابة غيره ماله فيضمنه ، فكان هذا أولى من تضييع حقوق الناس ، لمراعاة قاعدة مناسبة لا يضر انخرامها لتحصيل مصلحة راجحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية