صفحة جزء
[ ص: 99 ] التاسعة : اتفاق الخلفاء الأربعة ليس إجماعا ; وكذا أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وأولى . والخلاف عن أحمد فيهما يفيد أنه حجة . وإجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين ليس بحجة خلافا لمالك .

لنا : العصمة للأمة لا للبعض ولا للمكان ; قال : يمتنع اتفاق الجم الغفير من أهل الاجتهاد على الخطأ عادة .

قلنا : باقي الأمة أكثر ، فالتمسك بهذا في حقهم أولى .


المسألة " التاسعة : اتفاق الخلفاء الأربعة " بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مع مخالفة غيرهم لهم " ليس إجماعا ، وكذا " اتفاق الشيخين " أبي بكر وعمر ، وأولى " أي : إذا لم يكن اتفاق الأربعة إجماعا ، فقول اثنين منهم أولى أن لا يكون إجماعا ودليل ذلك ما سبق من أن العصمة تثبت لمجموع الأمة ، وهؤلاء بعضها .

قوله : " والخلاف عن أحمد فيهما يفيد أنه حجة " يعني أن أحمد - رحمه الله - نقل عنه الخلاف في المسألتين ، فنقل عنه انعقاد الإجماع باتفاق الأربعة ، وباتفاق الشيخين فقط ، وهو قول القاضي أبي حازم في اتفاق الأربعة ، ويلزمه القول بذلك في الشيخين أيضا .

وحجة هذا القول قوله - صلى الله عليه وسلم - : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر [ ص: 100 ] وعمر ، ولو لم تقم الحجة بقولهم ، لما أمرنا باتباعهم .

والجواب : أن سنة الخلفاء الراشدين إن كانت هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا اختصاص لهم بها ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه دل على اعتبار قول جميع الأمة لا بعضها ، وإن كانت غير سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم تعتبر ، فكان الإجماع الذي دل عليه الدليل السمعي أولى بالاتباع ، وإن سلمنا اعتبار سنتهم ، فإما أن لا تعتبر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع سنتهم ، أو تعتبر معها ، فإن لم تعتبر ، لزم استقلال سنتهم بالصواب ، مع مخالفتها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو باطل بإجماع . وإن اعتبرت معها سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لم تستقل سنتهم بإصابة الحق ، لأن ما اعتبر له سببان ، أو علق على سببين ، لم يحصل بأحدهما .

أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : وسنة الخلفاء الراشدين ; فهو تعريف بصفة الخلافة مع الرشاد ، فلا يختص بالأربعة ولا بالشيخين ، بل يتناول كل خليفة راشد ، فيجب أن يضم في الاعتبار إلى قولهم قول كل من اتصف بذلك كعمر بن عبد العزيز ونحوه .

سلمنا أن المراد بالخلفاء الراشدين الأربعة المذكورون ، لكن الأمر باتباع سنتهم لا ينفي اعتبار بقية الأمة معهم ، إذ بقية الأمة مسكوت عنهم في الحديث . وقد دل دليل الإجماع على اعتبار قولهم ، فصار تقدير الحديث : [ ص: 101 ] عليكم بسنة الخلفاء الراشدين الموافقة لقول باقي أمتي ، وخص الخلفاء الراشدين بالذكر لأنهم رؤساء الأمة وخيرها وأفضلها .

سلمنا أن المراد اتباع سنتهم فقط ، لكن ليس ذلك نصا في أن اتفاقهم إجماع ، فيحمل على اتباعهم في الفتيا ، أو السياسة ، أو الرواية ، أو تفسير القرآن ، يقدم قولهم في ذلك ، لقدم عهدهم في الإسلام ، ورسوخهم فيه ، أو على أن قولهم حجة . وقد بينا أن ليس كل حجة إجماعا ، وعليه حمل ما دل عليه قول أحمد ، من أنه لا يخرج عنهم إلى قول غيرهم .

سلمنا أن المراد أن اتفاقهم إجماع ، لكن هاهنا ما يعارضه ، وهو أن اتفاقهم بمجرده ، لو كان إجماعا ، للزم أن يكون قول كل واحد أو اثنين منهم إجماعا ، ولا قائل به ، وإنما قلنا ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه . وقال عمر : وافقت ربي في ثلاث ، ونقل عن الصحابة أنهم قالوا : كنا نرى أن مع عمر ملكا يسدده ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث يرويه مشرح ابن هاعان : " لو كان نبي بعدي ينتظر ، لكان عمر " وقال في علي : اللهم [ ص: 102 ] أدر الحق معه حيثما دار . ولما بعثه إلى اليمن قاضيا ، قال : يا رسول الله ، إنه لا علم لي بالقضاء ، فقال : اذهب ، فإن الله سيهدي قلبك ، ويسدد لسانك ، قال : فما شككت في قضية بعد ، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن عمر مضروب بالحق على قلبه ولسانه ، وهو شهادة له بالعصمة من الخطأ ، ودعا لعلي بدوران الحق معه ، وأخبر أن الله سيهدي قلبه ، ويسدد لسانه حتى قال : أقضاكم علي وهو شهادة له أيضا بذلك ، فوجب لذلك أن يكون قولهما معا ، أو قول كل منهما حجة قاطعة . وإذا ثبت ذلك فيهما ، لزم ثبوته في أبي بكر ، لأنه أفضل من عمر ، وفي عثمان لأنه أفضل من علي عند الجمهور ، لكن القول بأن قول كل منهم حجة قاطعة ، لم يقل به أحد إلا الشيعة في علي ، لاعتقادهم عصمته .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر فالكلام عليه نحو من الكلام على الذي قبله ، ثم هما معارضان بقوله - صلى الله عليه وسلم - : أصحابي [ ص: 103 ] كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، وأيضا فلو قدر أن سائر الصحابة خالفوا الشيخين في حكم ; فالأخذ بالقولين وإلغاؤهما باطل ، وتقديم قولهما مع خلاف الأكثر لهما بعيد ، وهو مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم - : اتبعوا السواد الأعظم و يد الله على الجماعة ونحوه ، فبان بما ذكرناه ضعف القول بأن اتفاق الأربعة أو الشيخين إجماع ، وأن حمل ما نقل عن أحمد مما يدل على ذلك ; على أن قولهم حجة ظنية لا قاطعة متعين ، والله تعالى أعلم .

قوله : " وإجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين ليس بحجة ، خلافا لمالك " وحده ، فإن إجماعهم عنده حجة فيما طريقه التوقيف ، ومن أصحابه من قال : هو حجة مطلقا في نقل نقلوه ، أو في عمل عملوه .

" لنا : " أي : على أنه ليس بحجة على من خالفهم أن العصمة لمجموع الأمة ، وهم بعضها لا جميعها ، فلا تثبت العصمة لقولهم ، فلا يكون إجماعا ، بل يكون حجة ظنية يعمل به إذا خلا عن معارض راجح .

قوله : " ولا للمكان " إشارة إلى أن المدينة ورد في فضلها نصوص كثيرة ، فربما ظن ظان أن ذلك يدل على أن اتفاق أهلها إجماع ، وليس كذلك ، فأجاب بأن العصمة ليست للمكان ، وإلا لكانت مكة أولى بذلك من المدينة أو مساوية لها فيه ، لأنها أفضل من المدينة عند الأكثرين ، وإنما العصمة للأمة جميعها .

قوله : " قال : " يعني مالكا : احتج بأن أهل المدينة جم غفير ، شاهدوا [ ص: 104 ] التنزيل ، وعلموا التأويل ، وتناقل ذلك الأبناء عن الآباء ، والخلف عن السلف ، و " اتفاق الجم الغفير من أهل الاجتهاد على الخطأ " ممتنع في العادة ، فوجب أن يكون قولهم صوابا في العادة ، فيجب اتباعه .

قوله : " قلنا : باقي الأمة أكثر ، فالتمسك بهذا في حقهم أولى " . أي : إن دلت كثرة مجتهدي المدينة على صواب ما اتفقوا عليه ، فبقية الأمة أكثر منهم ، فلتكن أكثريتهم أدل على صواب قولهم من كثرة أهل المدينة على صواب قولهم .

ويتقرر هذا الجواب بطريق آخر ، منبه عليه بما ذكرته ، وهو أن يقال : لو قدر أن باقي الأمة خالفوا أهل المدينة في حكم ، فإما أن يؤخذ بقول الفريقين ، أو يترك قولهما ، وهما باطلان ، لما سبق في اعتبار قول العامي ، أو يقدم قول أهل المدينة مع أن باقي الأمة أكثر منهم ، وهو بعيد ، مخالف للأمر باتباع السواد الأكثر .

وقوله : " يمتنع اتفاق الجم الغفير من المجتهدين على الخطأ عادة " .

قلنا : بقية مجتهدي الأمة جم غفير ، فيمتنع عليهم الخطأ عادة ، ثم هو معارض بأهل الكوفة ، فإن عليا - رضي الله عنه - ، وابن مسعود ، وجماعة من أعيان الصحابة والتابعين ، كانوا بها ، كما روى أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي المروزي في كتاب " العلم " بإسناده عن ابن سيرين قال : [ ص: 105 ] قدمت الكوفة ، فوجدت فيها أربعمائة فقيه .

قلت : يعني من الصحابة والتابعين ، واتفاق مثل هؤلاء على الخطأ يمتنع عادة ، وبه احتج بعض الناس أظنهم أصحاب الرأي على أن إجماع أهل الكوفة حجة ، ومالك لا يقول به .

ومما احتج به المالكية وجهان آخران :

أحدهما : أن روايتهم مقدمة على رواية غيرهم ، وكذا اتفاقهم ، وليس ذلك بلازم ، لأن الاتفاق مستنده العصمة السمعية ، وليست مختصة بهم ، بخلاف الرواية .

الوجه الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والخطأ خبث ، فوجب نفيه عن أهلها .

والجواب من وجهين : أحدهما : أن هذا الحديث ورد على سبب ، وهو أن أعرابيا دخل المدينة ، وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأصابته فيها حمى ، فسأله إقالة البيعة ليخرج إلى البادية ، فلم يجبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك ، فخرج بغير إذنه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن المدينة كالكير تنفي خبثها ، ويتضيع طيبها .

[ ص: 106 ] وعند مالك : أن الاعتبار بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، كما سبق في باب العموم .

الوجه الثاني : أن الخبث في عرف اللغة لا يفيد الخطأ ، مطابقة ، ولا تضمنا ، ولا التزاما ، فكيف يستدل بالحديث على نفي الخطأ ، ولئن جاز للمالكية الاحتجاج بنفي الخبث عن المدينة ; على أن اتفاق أهلها حجة ، جاز للشيعة الاحتجاج بنفي الرجس عن أهل البيت ; على أن اتفاقهم حجة ، لأن دلالة الرجس على الخطأ لا تتقاصر عن دلالة الخبث عليه ، بل هو أدل على الخطأ من الخبث ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .

قلت : وبعد هذا كله ; في النفس إلى قول مالك في هذه المسألة طمأنينة ، وسكون قوي جدا ، فالتوقف فيها غير ملزم .

التالي السابق


الخدمات العلمية