صفحة جزء
[ ص: 107 ] ولا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم ، خلافا للشيعة .

لنا : ما سبق .

قالوا : الخطأ رجس ، والرجس منفي عنهم .

قلنا : الآية وردت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ; ثم الرجس : الكفر ، أو العذاب ، أو النجاسة ، والخطأ الاجتهادي ليس واحدا منها ; ثم الرجس مفردا حلي باللام وهو غير مستغرق .

قالوا : كتاب الله وعترتي .

قلنا : المعلق على شيئين لا يوجد بأحدهما ، والكتاب يمنع ما ذكرتم ; ثم العترة لا تختص بأهل البيت .


قوله : " ولا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم ، خلافا للشيعة . لنا : ما سبق " يعني من أنهم ليسوا كل الأمة ، والعصمة إنما تثبت لجميعها ، فيكون قولهم حجة مع عدم المعارض الراجح ، لا إجماعا ، كما قلنا في اتفاق أهل المدينة .

قوله : " قالوا : " يعني الشيعة : " الخطأ رجس ، والرجس منفي " عن أهل البيت لقوله - عز وجل - : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا [ الأحزاب : 33 ] .

قوله : " قلنا : الآية وردت " . هذا جواب عن استدلال الشيعة ، وهو من وجوه :

أحدها : لا نسلم أن الآية في أهل البيت الذين تعنونهم ، بل إنما " وردت [ ص: 108 ] في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - " بدلالة السياق ، وهو قوله - عز وجل - : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة إلى قوله : يانساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن إلى قوله : وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن الآية [ الأحزاب : 32 - 34 ] .

فخطاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يكشف ما استدللتم به قبله وبعده ، فكن مرادات منه ولا بد ، فأما على الخصوص ، فلا حجة لكم في الآية أصلا ، أو مع أهل البيت الذين هم العترة ، فيلزم أن يعتبر معهم في الإجماع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لمشاركتهن لهم في إذهاب الرجس عنهم ، وهو باطل عندكم .

الوجه الثاني : أن الرجس يطلق على الكفر ، والعذاب ، والنجاسة ، فالمراد منه في الآية أحدها " والخطأ الاجتهادي ليس واحدا منها " فلا يلزم إذن من نفي الرجس عنهم نفي الخطأ .

الوجه الثالث : أن الرجس اسم مفرد حلي باللام ، وهو لا يقتضي الاستغراق ، فبتقدير أن الرجس هو الخطأ فليس في الآية ما يدل على نفي جميعه عنهم ، فلا يبقى في الآية دلالة .

واعلم أن هذه الوجوه قوية في جواب دليل الشيعة ، غير أن جوابهم عنها قوي متيسر أيضا .

فيقال : الجواب عن الأول أن أهل البيت خاص بمن سنذكره إن شاء الله - عز وجل - ، وليس نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرادات منه عموما ولا خصوصا ، وذلك لوجهين :

أحدهما : أنه - سبحانه وتعالى - خاطب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بضمير المؤنث ، [ ص: 109 ] نحو : قرن ولا تبرجن واذكرن حتى جاء إلى ذكر أهل البيت ، خاطبهم بضمير المذكر الكاف والميم حيث قال - سبحانه وتعالى - : إنما يريد الله ليذهب عنكم ، ولم يقل : عنكن ، فدل على أن المراد غير الزوجات ، وهم من نذكره إن شاء الله تعالى .

قلت : وقد أجيب عن هذا : بأن أهل البيت يتناول الذكور ، إذ هو موضوع للمذكر ، أعني : لفظ ( أهل ) ، فغلب جانب التذكير ، فجيء بضميره .

الوجه الثاني : ما روى عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نزلت في بيت أم سلمة ، فدعا فاطمة وعليا وحسنا وحسينا ، فجللهم بكساء ، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قالت أم سلمة : وأنا معهم يا رسول الله ؟ ، قال : أنت على مكانك وأنت على خير . رواه الترمذي وقال : هو غريب من حديث عطاء بن أبي رباح عن عمر ، ورواه من حديث أم سلمة ، وقال : حديث حسن .

وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، ثم يقول : الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [ الأحزاب : 33 ] الآية . رواه الترمذي ، وقال : حسن غريب .

[ ص: 110 ] وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أراد مباهلة نصارى نجران ، شمل هؤلاء المذكورين بكساء ، وجاء بهم ليباهل بهم ، وقال : هؤلاء أهل بيتي وذلك حين نزل قوله - عز وجل - : فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم [ آل عمران : 61 ] الآية ، فدل ذلك كله على أن أهل البيت هم هؤلاء لا غير ، وليس النساء مرادات منه ، وإلا لقال لأم سلمة : أنت منهم ولم يقل لها ذلك ، بل ظاهر كلامه نفي كونها منهم .

أما دلالة السياق على أنهن مرادات من الآية ، فإنها وإن كان فيها بعض التمسك ; لكن ذلك مع النصوص التي ذكرناها ، على أن أهل البيت خاص بهؤلاء ، فلا يفيد ، والقرآن وغيره من كلام العرب يقع فيه الفصل بين أجزاء الكلام بالأجنبي كقوله - عز وجل - : إن الملوك إذا دخلوا قرية إلى قوله - عز وجل - " أذلة [ النمل : 34 ] هذا حكاية قول بلقيس ، وكذلك يفعلون [ النمل : 34 ] كلام مبتدأ من الله - عز وجل - عند المفسرين . وقوله - عز وجل - : قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق إلى قوله : الصادقين [ يوسف : 51 ] هذا حكاية كلام المرأة ، ذلك ليعلم أني لم أخنه إلى قوله : غفور رحيم [ يوسف : 52 - 53 ] كلام يوسف عليه السلام . وقوله - سبحانه وتعالى - :

وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد [ آل عمران : 121 ] إلى قريب آخر السورة يوم أحد في معنى غزاتها ، وتذكير يوم بدر ونحوه ، ووقع الاعتراض بين ذلك بقوله - عز وجل - : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا إلى قوله - عز وجل - : ولا تهنوا ولا تحزنوا [ آل عمران : 130 - 139 ] .

[ ص: 111 ] وبالجملة فاعتراضات العربية ، والتخلصات من كلام إلى كلام كثيرة في القرآن على أبدع ما يكون ، حتى إن الإنسان يظن أن الجملتين المتواليتين منه في معنى واحد ، وكل واحد في معنى ، ومن استقرأ ذلك ، ونظر فيه ، عرفه ، وحينئذ قوله - عز وجل - : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وقع اعتراضا وفصلا بين أجزاء خطاب النسوة لما ذكرناه من السنة المبينة لذلك .

والجواب عن الثاني أن الرجس يتناول الخطأ لغة واستدلالا ، وذلك لأن الجوهري قال : الرجس : القذر ، قلنا : والقذر أعم مما يستقبحه الطبع كالنجاسات المتجسدة ، أو العقل كالنقائص العقلية ، وهي تتناول الخطأ . قال الجوهري : وقال الفراء في قوله تعالى : ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ يونس : 100 ] : إنه العقاب والغضب .

قلنا : فإن كان الرجس بهذا المعنى مرادا من الآية ، فقد نفى الله - عز وجل - عن أهل البيت العقاب والغضب ، والخطأ من أسبابهما ، فيلزم نفيه عنهم ، وإلا انتفى المسبب مع وجود سببه ، وهو باطل ، لأن السبب يقتضي وجود المسبب ، فلو فرضنا انتفاء المسبب مع ثبوت ما يقتضي وجوده ، لزم وجوده وعدمه في حال واحد ، وهو محال .

قلت : هذا الاستدلال لا ينهض ، لأن انتفاء المسبب مع وجود السبب غير ممتنع ، ووجود السبب وتخلف المسبب لمانع غير ممتنع أيضا ، واستدلالهم [ ص: 112 ] إنما هو بنفي الملزوم ، ولا يدل على انتفاء اللازم ولا عدمه ، وحينئذ جاز أن يخطئوا في اجتهادهم ، ويتخلف العقاب عنهم ، لقوله - عز وجل - ، أو للرخصة بكونه خطأ اجتهاديا فيه أجر واحد ، ومع الإصابة أجران .

قالوا : وذكر ابن عطية في " تفسيره " : أن الرجس اسم يقع على الإثم ، وعلى العذاب ، وعلى النجاسات والنقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت ، وذكر أيضا أن الجمهور ذهبوا إلى أن أهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين .

وإذا ثبت أن الرجس يقع على النقائص ، فالخطأ من أقبحها ، لا سيما في الاجتهاد الشرعي ، فيكون منفيا عن أهل البيت ، ويلزم من ذلك إصابتهم في الاجتهاد ، فيكون قولهم حجة قاطعة بهذه الأدلة السمعية ، وهي أدل في حقهم من أدلة الإجماع العام في حق جميع الأمة ، كما سبق ، وهو المطلوب .

والجواب عن الثالث من وجوه :

أحدها : لا نسلم أن المفرد المحلى باللام لا يستغرق ، بل قد ذهب إلى ذلك أكثر الفقهاء ، كما حكاه الإمام فخر الدين في " المعالم " .

الوجه الثاني : أن لفظ الرجس إن أفاد العموم ، استدللنا به ، وإن لم يفده ، استدللنا بقوله - عز وجل - : ويطهركم تطهيرا [ الأحزاب : 33 ] ودلالته من وجهين : [ ص: 113 ] أحدهما : أن اقتران لفظ التطهير بذكر الرجس يقتضي أن التطهير من ذلك الرجس ، وهو يقتضي عموم التطهير ، بدليل تأكيده بالمصدر .

الثاني : أنه لو لم يقترن بذكر الرجس ، لأفاد عموم التطهير بما ذكرناه ، والفرق بين الوجهين : أن الوجه الأول استدلال بمجموع لفظ الرجس والتطهير ، والثاني استدلال بلفظ التطهير المؤكد وحده .

الوجه الثالث : هب أن لفظ الرجس لا يقتضي العموم ، لكن وقوع النفي عليه يقتضي انتفاء ماهيته ، وهي لا تنتفي إلا بانتفاء جميع أفرادها ، فيلزم عموم النفي بهذا الطريق .

قالت الشيعة : فإن قيل : أنتم لا تقبلون رواية الصحابة ، فكيف قبلتموها في تخصيص أهل البيت بمن ذكرتم .

قلنا : نحن إنما أوردنا ذلك من طريق الصحابة إلزاما لكم برواية من لا تقدرون على اطراح روايته ، لا اعتمادا منا عليها ، وإنما اعتمدنا على تواتر ذلك عندنا من طريق أهل البيت ، ومن تقبل روايته ، لكنا لو استدللنا عليكم بذلك ، ربما منعتموناه ، فاحتججنا عليكم بما تقبلون ، وجعلنا ذلك مؤكدا لما عندنا ، لا مستقلا بالاعتماد عليه .

قوله : " قالوا : كتاب الله وعترتي " . هذا دليل آخر للشيعة .

وتقريره : أن جعفر بن محمد روى عن أبيه عن جابر قال : رأيت رسول [ ص: 114 ] الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي رواه الترمذي ، وقال : حسن غريب من هذا الوجه .

وعن زيد بن أرقم وأبي سعيد قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي ، أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما رواه مسلم والترمذي وقال : حسن غريب .

وجه الاستدلال بهذا النص : أنه أمر بالتمسك بالعترة ، وأخبر بعدم ضلال من تمسك بها ، ولو لم يكن قولهم حجة قاطعة لما أمر بذلك ، وهو المطلوب .

[ ص: 115 ] قوله : " قلنا : " إلى آخره ، أي : الجواب عما ذكرتموه أنه - عليه السلام - علق نفي الضلال على شيئين : الكتاب والعترة ، و " المعلق على شيئين لا يوجد بأحدهما " فنفي الضلال لا يوجد بالتمسك بالعترة وحدها ، دون الكتاب " والكتاب يمنع ما ذكرتم " من أن إجماعهم حجة لقوله - عز وجل - : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] ونحوه من النصوص الدالة على أن العصمة للأمة لا لبعضها .

" ثم " إن " العترة لا تختص بأهل البيت " بل هي في اللغة : نسل الرجل ورهطه الأدنون . كذا ذكره الجوهري ، ويروى أن أبا بكر الصديق قال : نحن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قلت : ولهم أن يجيبوا عن الأول بأنه - عليه السلام - أخبر أن كتاب الله وعترته لن يتفرقا ، وذلك يدل على أنهما لا يتنافيان . وقد دللنا على أن إجماع أهل البيت حجة بنفي الرجس عنهم ، فيلزم من ذلك موافقة الكتاب لإجماعهم ، وعدم منافاته له ، وأن ما ذكرتموه من دليل الإجماع العام لا يثبت ، وقد سبق ما فيه .

وعن الثاني : بأنه مردود بقوله : وعترتي أهل بيتي . وقد قام الدليل على أهل بيته من هم ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

قلت : وأورد القرافي على احتجاجهم بقوله : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس [ الأحزاب : 33 ] الآية ، أن الحصر متعذر في ذلك ، لأن إرادة الله - سبحانه وتعالى - شاملة لجميع أجزاء العالم ، فيتعين إبطال الحقيقة ، ووجوه المجاز غير منحصرة ، فيبقى مجملا ، فيسقط الاستدلال به .

[ ص: 116 ] قلت : يشير إلى أن إنما للحصر ، وهي هاهنا تقتضي حصر إرادة الله - عز وجل - في إذهاب الرجس عنهم ، وليست منحصرة في ذلك ، بل هي متعلقة بكل ممكن ، وتمام الكلام ظاهر .

قلت : ولهم أن يجيبوا بوجهين :

أحدهما : منع أن إنما للحصر ، بل للتأكيد كما سبق .

الثاني : بتقدير أنها للحصر لكن قد سبق أن الحصر تارة يعم ، وتارة يخص ، نحو : إنما الله إله واحد [ النساء : 171 ] ، إنما أنت منذر [ الرعد : 7 ] ، أي : بالنظر إلى المشركين والمنذرين ، وكذلك هو في الآية خاص باعتبار أهل البيت ، أو جهة ما من الجهات .

قلت : أقرب ما يسلك في الرد على الإمامية في هذه المسألة : ما سلكناه في الرد على أبي بكر في اعتبار العامي ; وعلى مالك في إجماع أهل المدينة ، وهو أن يقال : إذا خالف أهل البيت باقي الأمة في حكم ، فإما أن يعتبر القولان ، أو يلغيا جميعا ، وهو باطل باتفاق ، أو يقدم قول أهل البيت ، وهو ضعيف لوجهين :

أحدهما : أنه مخالف لقوله - عليه السلام - : اتبعوا السواد الأعظم ، فإنه من شذ ، شذ في النار .

الثاني : أن إصابة آحاد يسيرة ، وخطأ الجم الغفير بعيد جدا .

قلت : ولهم على هذا الطريق اعتراضات ، لا أطيل بذكرها .

[ ص: 117 ] قلت : وذكر ابن منده وابن أبي الدنيا في كتاب " الروح والنفس " ; قال : قال محمد بن نصر : ذهبت الشيعة في أهل البيت ما ذهب إليه النصارى في المسيح ، وذلك أنهم زعموا أن الله تعالى نفخ في آدم من روح ذاته ، ثم انتقل ذلك الروح في الأنبياء من ولده ، حتى انتهى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم من بعده إلى علي ، ثم إلى ولده ، فلذلك قالوا : إنهم بذلك الروح معصومون ، يعلمون المغيبات ، ويستغنون عن معلم في جميع الأحكام ، حتى أفضى الأمر ببعض الشيعة إلى أنهم اعتقدوا إلهية علي ، والأئمة من ولده .

هذا معنى كلامه ، وقد بعد عهدي به ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية