صفحة جزء
[ ص: 118 ] العاشرة : لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند قياس أو غيره ، وقيل : لا يتصور عن قياس ، وقيل : يتصور ، وليس بحجة .

لنا : لا يمتنع مع مدارك الظن كإلحاق النبيذ بالخمر في التحريم .

قالوا : القياس مختلف فيه ولا إجماع مع الخلاف .

قلنا : نفرضه قبل الخلاف فيه ، أو يستند المخالف فيه إلى مدرك لا يعتقده قياسا ، أو يظن القياس غير قياس كالعكس .

قالوا : ظني ، فلا يثبت أصلا أقوى منه .

قلنا : باطل بالعموم وخبر الواحد ، وإذا تصور كان حجة بأدلة الإجماع .


المسألة " العاشرة : لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند قياس أو غيره " إلى آخره ، أي : لا بد للإجماع من دليل يستند إليه ، وأجازه قوم بمجرد الاتفاق والتبحيث ، أي : لا يستندون فيه إلى حجة ، بل متى اتفقت الأمة على قول ، لزم أن يوافق ذلك الصواب ، لما ثبت لها من العصمة .

حجة الجمهور : أن القول بغير حجة اتباع للهوى ، واتباع الهوى باطل ، فالقول بغير حجة وإن كان من جميع الأمة باطل .

أما أن القول بغير حجة اتباع للهوى ; فلأن بدون الحجة يستوي الإثبات والنفي ، فالقول بأحدهما بلا دليل ترجيح من غير مرجح ، وما ذلك إلا بالهوى والتشهي .

[ ص: 119 ] وأما أن اتباع الهوى باطل ; فظاهر متفق عليه ، فثبت بذلك أن القول بغير حجة باطل .

حجة المجوزين : أن الأمة معصومة من الخطأ في الدين ، والمعصوم لا يصدر عنه إلا الصواب ، لأجل أنه معصوم لا لاستناد إلى حجة وشبهة ، والمقدمتان ظاهرتان ، وقد سبق تقريرهما .

وأجابوا عن قول الأولين : إن القول بغير حجة اتباع للهوى ، بأن قالوا : اتباع الهوى من آحاد الأمة أو من جميعها ؟ الأول مسلم ، والثاني ممنوع .

قولهم " لأنه بدون الحجة يستوي النفي والإثبات .

قلنا : نعم .

قولهم : فالقول بأحدهما بلا دليل ترجيح من غير مرجح .

قلنا : لا نسلم ، بل المرجح هاهنا العصمة الإلهية ، الثابتة لهذه الأمة بقوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة ، وسائر أدلة الإجماع . وحينئذ متى اتفقوا على شيء ، كان حقا وصوابا ، لأن الله - سبحانه وتعالى - لا يلهمهم سواه ، ولا يجري على ألسنتهم إلا إياه .

قلت : هذا المذهب سهل متجه ، أما سهولته ، فظاهرة من جهة استراحة المجتهدين من النظر ، والنزاع فيه قبل الاتفاق ، وأما اتجاهه ، فبما ذكر ، ويذكر إن شاء الله تعالى .

ومما يقرب منه ، ويجعل نظيرا له ، صلاة الاستخارة ، فإن في [ ص: 120 ] الحديث : ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار وفيه : من سعادة ابن آدم استخارة الله - عز وجل - ، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله - عز وجل - روى معناه الترمذي ، ثم قد رأينا بعض الناس عوده الله منه عادة جميلة ; وهو أنه متى استخاره في أمر ، وفوض إليه فيه ، لا يختار له إلا الأصلح فيه ، ولا يوفقه وييسره إلا له . بمقتضى دعاء الاستخارة المشهور ، وتظهر المصلحة لذلك الشخص فيما يختار له عاجلا أو آجلا ، وإنما ذلك وفاء بقوله - عز وجل - : ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره [ الطلاق : 3 ] ، فكذا الأمة لا يوفقها ، ويجري على أذهانها وألسنتها فيما تتفق عليه إلا الصواب وفاء بعصمته لها .

واعلم أن الطائفتين في المسألة اعتبروا الدليل في الإجماع ، لكن الأولون اعتبروا الدليل الخاص بكل فرد من أفراد الإجماع في آحاد المسائل ، والآخرون اكتفوا بالدليل العام على كون الإجماع حجة .

ويشبه أن يتفرع اختلافهم على أصل ، فإن لم يتفرع عليه ، فهو مشبه له ، وهو أن الأصوليين اختلفوا في التفويض إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بأن يقال له : احكم برأيك ، فإنك لا تحكم إلا بحق ; هل يصح أم لا ؟ فصححه بعضهم [ ص: 121 ] بناء على عصمته ، فكذا هاهنا تحكم الأمة برأيها بدليل وغير دليل ، ولا تحكم إلا بحق بناء على عصمتها ، وإن لم يجز ذلك في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لم يجز في الأمة ، لأنهم فرع عليه ، وعصمتهم فرع على عصمته والله تعالى أعلم .

ثم اختلف الجمهور وهم القائلون : لا إجماع إلا عن مستند في مستند الإجماع .

فقال بعضهم : يجوز أن يكون مستنده قياسا وغيره من دليل ، أو أمارة ، أو حجة ، أو شبهة .

وقال بعضهم : " لا يتصور " الإجماع " عن قياس " .

وقال آخرون : " يتصور " عن القياس ، لكن لا يكون حجة .

وقال آخرون : يصح عن القياس الجلي دون الخفي .

قوله : " لنا : " أي : على انعقاده عن قياس وغيره : هو أنه لا يمتنع اتفاقهم على حصول ظن الحكم بالقياس ، فإن القياس محصل للظن ، وإذا حصل الظن ، جاز الاتفاق على موجبه حسا وشرعا .

أما حسا ، فكما أن أهل الأرض إذا شاهدوا الغيم الرطب ، اشتركوا في ظن وقوع المطر .

وأما شرعا ، فكما إذا علم الناس أن النبيذ مسكر كالخمر ، غلب على ظنهم أنه حرام كالخمر ، بجامع الإسكار ، والاتفاق على موجب هذا الظن غير ممتنع .

قوله : " قالوا : " يعني المانعين بانعقاده عن القياس احتجوا بأن " القياس [ ص: 122 ] مختلف فيه ، ولا إجماع مع الخلاف " أي : الإجماع فرع مستنده ، وإذا كان المستند مختلفا فيه ، فكيف يكون المستند إليه متفقا عليه ؟ وكيف يختلف في الأصل ، ويتفق على الفرع ، والفروع تابعة لأصولها ؟

قوله : " قلنا : " أي : الجواب عن ذلك أنا إذا فرضنا الكلام قبل وقوع الخلاف في القياس ، وذلك في زمن الصحابة ، فإنهم كانوا متفقين عليه ، لم يرد ما ذكرتم ، بل يكون الإجماع مستندا إلى دليل لا خلاف فيه ، وهو القياس .

وإن فرضناه بعد حدوث الخلاف في القياس ، قلنا : يستند أهل القياس إليه ، و " يستند المخالف فيه إلى مدرك " من مدارك الاجتهاد " لا يعتقده قياسا " وهو في الحقيقة قياس ، وذلك متصور واقع ، فإن كثيرا من منكري القياس استندوا إليه في مواضع ، وسموه بغير اسمه ، كالتنبيه ، وتنقيح المناط ، فبعضهم يقول : لا يقضي القاضي وهو جائع ، وهو في الحقيقة قياس على الغضب بالجامع المعروف ، ويقولون : نبه بحالة الغضب على حالة الجوع وغيرها من الأحوال ، والحنفية مع قولهم : لا قياس في الكفارات ، أوجبوا الكفارة على الصائم بالأكل والشرب ، وهو في الحقيقة قياس على الوطء ، بجامع الإفساد ، وقالوا : هذا تنقيح المناط اعتبارا من حديث الأعرابي ، لعموم الإفساد ، لا لخصوص الجماع ، فهكذا يجوز أن يستند المخالف في القياس عند الإجماع على ما لا يعتقده قياسا ، وهو قياس ، فيتحد المستند ، ويتفرع عليه الإجماع ، أو نفرض أن المخالف " يظن القياس غير قياس [ ص: 123 ] كالعكس " أي : كما يجوز أن يظن غير القياس قياسا كالتنقيح ، والتنبيه ، ومفهوم الموافقة ، كذلك يجوز أن يظن القياس غير قياس ، فيستند إليه في الإجماع .

واعلم أنه هكذا وقع في " المختصر " : " أو يظن القياس غير قياس " بأو ، وهو يفيد أن ظن القياس غير قياس مغاير للاستناد إلى مدرك لا يعتقده قياسا ، وهو قياس في الحقيقة ، وليسا متغايرين ، بل هما واحد ، فإن أريد تصحيحه على ما في " الروضة " قيل : بالواو ، هكذا : " إلى مدرك لا يعتقده قياسا ، ويظن القياس غير قياس كالعكس " لكن الظاهر أني وقت الاختصار قصدت الزيادة على ما في " الروضة " بأن المخالف في القياس يجوز أن يستند إلى القياس ، ولا يظنه قياسا ، أو يستند إلى مدرك لا يعتقده قياسا ، ولا هو في الحقيقة قياس ، ولا يضر اختلاف مدرك الإجماع في نوعه ، والشيخ أبو محمد كأنه حافظ على اتحاد نوع المستند ، فلم يفرض إلا أن المخالف استند إلى قياس ، واعتقده غير قياس كالعكس ، والله سبحانه أعلم .

قوله : " قالوا : ظني " أي : احتج المانعون لانعقاد الإجماع عن القياس بوجه آخر ، وهو أن القياس " ظني " والإجماع قاطع ، فلا يثبت بالقياس ، لأن الضعيف لا يثبت أقوى منه .

قوله : " قلنا : " أي : في الجواب : إن هذا " باطل بالعموم وخبر الواحد " وهما ظنيان ، ويثبت بهما الإجماع ، ثم يقال : ما المراد بقولكم : القياس ظني ؟ إن عنيتم أنه لا يفيد إلا الظن ، فالإجماع كذلك ، لما سبق من أن المراد [ ص: 124 ] بالقطع فيه ليس المانع من النقيض عقلا ، وإن عنيتم أن مستند القياس ظني ، وهو النظر في أركانه : الأصل ، والفرع ، والعلة ، والحكم ، فمستند الإجماع كذلك ، وهو ظواهر الكتاب ، وأخبار الآحاد كما سبق ، وإن عنيتم أن الإجماع لا يجوز بخلاف القياس ، فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن الفرق ممنوع في القياس الجلي ، فإنه يفيد القطع ، فلا يجوز خلافه .

الثاني : أن عدم جواز الخلاف إنما حصل في الإجماع من قبل ثبوت العصمة للأمة ، لا من جهة كونه دليلا ، وذلك أمر خارج عما نحن فيه .

قوله : " وإذا تصور ، كان حجة بأدلة الإجماع " . هذا جواب القائلين : إن الإجماع يتصور عن القياس ولا يكون حجة .

وتقريره : أنه إذا تصور الاتفاق عن القياس ، كان حجة بأدلة الإجماع السابقة ، لأنه سبيل المؤمنين ، فيحرم خلافه ، وبقوله - عليه السلام - : أمتي لا تجتمع على ضلالة ونحوه ، ووجه الفرق بين القياس الجلي والخفي في انعقاد الإجماع ظاهر ، وهو جيد مناسب ، والله أعلم .

تنبيه : القائلون بجواز انعقاد الإجماع عن الرأي والاجتهاد اختلفوا في وقوعه ، فالمثبتون لوقوعه زعموا أن إمامة أبي بكر ، وقتال مانعي الزكاة ، وتحريم شحم الخنزير ، وحد شارب الخمر ثمانين ، وجزاء الصيد ، وأروش الجنايات ، ونفقة الأقارب ثبتت بالرأي والاجتهاد .

[ ص: 125 ] والمانعون للوقوع احتجوا بما سبق ، من أن الإجماع دليل قاطع ، فلا يجوز استناده إلى الاجتهاد الظني ، وانتفاء الجواز يدل على انتفاء الوقوع دلالة انتفاء اللازم على انتفاء الملزوم ، وأما الصور المذكورة ، فهي مستفادة من النصوص ، فإمامة أبي بكر بقوله - عليه السلام - : اقتدوا باللذين من بعدي ، وقوله للمرأة : إن لم تجديني ، فائتي أبا بكر . قال ابن حزم : وشحم الخنزير حرم بقوله - عز وجل - : فإنه رجس [ الأنعام : 145 ] ، والضمير راجع إلى الخنزير في قوله تعالى : أو لحم خنزير [ المائدة : 3 ] ، وهو أقرب إلى الضمير .

قلت : وهو استدلال ضعيف ، وأما حد شارب الخمر ثمانين ، فبما سبق من قول علي : وكل سنة ، وعلته ما ذكر هناك . وكذلك تكلفوا لبقية الصور ، والأشبه الأول ، وهو الوقوع .

ثم القائلون بوقوعه عن اجتهاد ، اختلفوا في جواز مخالفته ، والأشبه عدم جوازها ، لأنه سبيل الأمة ، فأشبه المنعقد عن قاطع ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية