صفحة جزء
[ ص: 126 ] خاتمة :

الإجماع إما نطقي من الكل ، أو سكوتي ، وكلاهما تواتر ، أو آحاد ، والكل حجة ، ومراتبها متفاوتة .

فأقواها : النطقي تواترا ، ثم آحادا ، ثم السكوتي كذلك فيهما .

وقيل : لا يثبت الإجماع بخبر الواحد ، لأنه ظني ، فلا يثبت قاطعا .

لنا : نقل الخبر الظني موجب للعمل ، فنقل الإجماع القطعي أولى ، ولأن الظن متبع في الشرع ، وهو حاصل بما ذكرنا ، ثم مستند الإجماع بالجملة ظني ، إذ هو ظواهر النص .


" خاتمة " يعني لكتاب الإجماع .

قوله : " الإجماع إما نطقي " إلى آخره . هذا ذكر لأقسام الإجماع .

وتقريره : أن " الإجماع إما نطقي ، أو سكوتي " وكل واحد منهما : إما " تواتر أو آحاد " .

فالنطقي : ما كان اتفاق مجتهدي الأمة جميعهم عليه نطقا ، بمعنى أن كل واحد منهم نطق بصريح الحكم في الواقعة ، نفيا أو إثباتا . وهذا معنى قوله : " إما نطقي من الكل " .

والسكوتي : ما نطق به البعض ، وسكت البعض . وقد سبق مع تفصيل فيه ، وكل واحد من هذين إما أن ينقل تواترا أو آحادا ، أي : ينقل بالتواتر أو [ ص: 127 ] الآحاد أن جميع المجتهدين نطقوا بصريح الحكم ، أو ينقل بالتواتر أو الآحاد أن بعض المجتهدين أفتى ، وبعضهم سكت . هذه القسمة التي وقع عليها الاختيار .

أما الشيخ أبو محمد ، فقال : الإجماع إما مقطوع أو مظنون ، فالمقطوع ما وجد فيه جميع الشروط التي لا يختلف فيه مع وجودها ، ونقل تواترا ، والمظنون ما اختل فيه أحد القيدين ، بأن يوجد على وجه مختلف فيه متواترا ، ومتفقا عليه آحادا .

مثال المختلف فيه : أن يتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول ، أو يؤخذ بقول البعض وسكوت البعض ، أو يوجد الاتفاق في بعض العصر ، ولم ينقرض حتى خولف ، أو يجمع الصحابة بدون التابعي المعاصر ، وبالجملة فكل إجماع غير إجماع الصحابة مختلف فيه ، والخلاف فيه مع الظاهرية كما سبق .

ومثال المتفق عليه آحادا : أن ينقل إجماع الصحابة بشروطه المتفق عليها بطريق الآحاد .

قوله : " والكل حجة " أي : أقسام الإجماع الأربعة التي ذكرناها حجة ، لتناول دليل الإجماع العام ، وأدلته الخاصة لها .

قوله : " ومراتبها " أي : مراتب أقسام الإجماع " متفاوتة " في القوة والضعف ، وأقواها النطقي المتواتر ، ثم النطقي المنقول آحادا ، لضعف الآحاد عن التواتر ، ثم السكوتي المتواتر ، ثم السكوتي المنقول آحادا .

[ ص: 128 ] وهذا معنى قوله : " ثم السكوتي كذلك فيهما " أي : في تقديم تواتره على آحاده ، وإنما أخر السكوتي عن النطقي لقوته ، وضعف السكوتي عنه ضعف الآحاد عن التواتر . فهذه أربع مراتب ، طرفان وواسطتان ، لأنها إما نطقي متواتر ، أو سكوتي آحاد ، هذان طرفان ، في كل واحد منهما جهتا قوة أو ضعف ، أو نطقي آحاد ، أو سكوتي متواتر ، هذان واسطتان ، في كل واحدة منهما جهة قوة وجهة ضعف ، وذلك ظاهر ، فإن أردنا الترجيح بين الواسطتين ، فالنطقي الآحاد أولى بالرجحان ، لأن الاحتمالات القادحة في السكوتي أكثر وأقوى منها في الآحاد .

قوله : " وقيل : لا يثبت الإجماع بخبر الواحد " .

اعلم أن العلماء اختلفوا في ثبوت الإجماع بخبر الواحد .

قال الآمدي : فأجازه الحنابلة ، وبعض الشافعية ، وبعض الحنفية ، وأنكره الباقون .

وقال القرافي : الإجماع المروي بأخبار الآحاد حجة ، يعني عند مالك ، خلافا لأكثر الناس .

قلت : احتج المانعون بأنه - يعني خبر الواحد - " ظني " أي : إنما يفيد الظن : " فلا يثبت قاطعا " وهو الإجماع ، وحاصله أن الإجماع قاطع ، وخبر الواحد ظني ، فلا يثبت القاطع بالظني ، لأن الضعيف لا يكون مستندا للقوي .

قوله : " لنا : " أي : على أن الإجماع المروي آحادا حجة وجهان :

أحدهما : أن " نقل الخبر الظني " آحادا يوجب العمل " فنقل الإجماع القطعي " آحادا " أولى " أن يوجب العمل ، لأن الظن واقع في ذات خبر الواحد [ ص: 129 ] وطريقه ، والإجماع إنما وقع الظن في طريقه لا في ذاته ، وإذا وجب العمل بالأول ، كان بالثاني أوجب .

الوجه الثاني : أن " الظن متبع في الشرع " وهو مناط العمل ، كما تقرر في غير موضع " وهو - يعني الظن - حاصل بما ذكرنا " يعني الإجماع المنقول آحادا .

قوله : " ثم مستند الإجماع بالجملة ظني " إلى آخره . هذا جواب عن قولهم : " لأنه ظني ، فلا يثبت قاطعا " .

وتقريره : أن مستند الإجماع العام بالجملة ظني ، لأن مستنده ظواهر النصوص ، وأخبار الآحاد ضعيفة الدلالة ، أو السند ، أو هما ، فلئن ضعف خبر الواحد عن أن يكون مستندا للقاطع ، فلتضعف هذه الظواهر أن تكون مستندا للقاطع ، ويلزم من ذلك تعطيل الإجماع من أصله .

وأيضا فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل قاطع في حق من شافهه به ، كما أن الإجماع في نفسه قاطع ، ثم إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نقل آحادا ، كان حجة ; كذلك الإجماع إذا نقل آحادا ، كان حجة ، ولا فرق .

ومما احتج به المانعون : أن إجماع الأمة من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها ; بخلاف وقائع أخبار الآحاد ، فحيث لم ينقل [ ص: 130 ] إجماعهم إلا آحادا ، دل على وهاء ذلك النقل ; وأنه لا أصل له .

وأجيب عنه : بأن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مما تتوفر الدواعي على نقله ، والصحيح قبوله برواية الآحاد ، وهو ينقض الاستدلال المذكور .

وللخصم أن يفرق بينهما ; بأن توفر الدواعي على نقل الإجماع أشد منه على نقل ما تعم به البلوى من الأخبار قطعا ، فاحتمل فيه من القول آحادا ما لا يحتمل في الإجماع .

قال الآمدي : المسألة دائرة على وجوب اشتراط القاطع في الأصول ، وعدم اشتراطه .

قلت : يعني : أنه إن اشترط القاطع في مسائل الأصول ، لم يقبل الإجماع المنقول آحادا ، وإلا قبل ، وهو صحيح . وقد ظهر ذلك من إيراد الدليل من الجانبين .

التالي السابق


الخدمات العلمية