صفحة جزء
[ ص: 136 ] ومنكر حكم الإجماع الظني لا يكفر ، وفي القطعي النفي والإثبات ، والثالث يكفر بإنكار مثل الصلوات الخمس دون غيرها ، وارتداد الأمة جائز عقلا لا سمعا في الأصح لعصمتها من الخطأ ، والردة أعظمه .


قوله : " ومنكر حكم الإجماع الظني لا يكفر ، وفي القطعي النفي والإثبات ، والثالث : يكفر بإنكار مثل الصلوات الخمس دون غيرها " .

اعلم أن الإجماع إما ظني ، أو قطعي :

فالظني كالسكوتي تواترا أو آحادا ، وكالنطقي آحادا ، فهذا لا يكفر منكر حكمه ، أي : إذا ثبت بمثل هذا الإجماع حكم ، فأنكره منكر لا يكفر ، لأنه مظنون ، فلم يكفر منكر حكمه ، كالعموم ، وخبر الواحد ، والقياس ، وسنزيد ذلك تقريرا إن شاء الله تعالى .

والقطعي : هو النطقي المتواتر المستكمل الشروط ، كما سبق ، ففيه أقوال :

أحدها : لا يكفر منكر حكمه ، لما سيقرر بعد إن شاء الله تعالى .

وثانيها : أنه يكفر ، لأنه خالف القاطع ، فأشبه ما لو خالف العقلي القاطع بإثبات الصانع ، وتوحيده ، وإرسال الرسل .

[ ص: 137 ] وثالثها : أن ما ثبت بالإجماع كونه من الدين ضرورة ، كالصلوات الخمس ، والأركان الخمسة ونحوها ، كفر منكره ، وما ليس كذلك لا يكفر بإنكاره .

والفرق : أن الأول يتحقق تكذيبه لصاحب الشريعة ، دون الثاني ، لجواز كون ما أنكره يخفى عليه ، بخلاف مثل الصلوات الخمس ، فإن وجوبها لا يخفى على مسلم ، بل الكفار يعلمون وجوبها على أهلها .

وقال الآمدي : إن كان حكم الإجماع داخلا في مسمى الإسلام كالرسالة ، كفر منكر حكمه ، وإلا فلا .

قلت : هذا أخص من الذي قبله ، والذي قبله أولى منه ، لأنه تكذيب صاحب الشريعة ، وما لزمه مستقل بالتكفير ، فلا حاجة لنا إلى تخصيصه بما كان داخلا في مسمى الإسلام ، إذ لو سوغ ذلك ، لأفضى إلى تكذيب صاحب الشرع في أمور كثيرة بدون تكفير ذلك المكذب ، وهو إهمال لحرمة الشرع ، وتضييع لناموسه .

قلت : المختار أن منكر حكم الإجماع إن كان عاميا ، كفر مطلقا ، ظنيا كان الإجماع أو قطعيا ، إذا كان قد اشتهر الإجماع عليه ، وعلمه المنكر ، واعتقد تحريم إنكاره ، وإن كان عالما ، يفرق بين أنواع الإجماع ، ويتصرف في الأدلة ، لم يكفر إلا بإنكار مثل الأركان الخمسة ، والصلوات الخمس ، لجواز أن يقوم الدليل عنده على عدم وجوب ما أنكره .

وقال القرافي : إذا قلنا بتكفير مخالف الإجماع ، فهو مشروط بأن يكون [ ص: 138 ] المجمع عليه ضروريا من الدين .

قلت : هذا يدل على أنه لا يكفر بمخالفة ما ليس ضروريا قولا واحدا ، ولعله مذهبه أو اختياره ، وإلا فالخلاف الذي حكيناه مطلقا ثابت .

قلت : مأخذ الخلاف في تكفير منكر حكم الإجماع : هو أن الإجماع ظني أو قطعي ؟ فمن قال : إنه ظني ، قال : لا يكفر كالقياس وخبر الواحد ، وحجته أن مستند أصل الإجماع هو ما سبق من ظواهر الآيات والأخبار التي لا تفيد إلا الظن ، وما استند إلى الظن أولى أن يكون ظنيا .

ومن قال : إنه قطعي ، قال : إن مستند الإجماع قاطع ، وما استند إلى القاطع ، فهو قاطع .

وإنما قلنا : إنه مستند إلى قاطع ، لأن جزئيات أدلته لو استقرئت استقراء تاما ، لاجتمع منها الدليل القاطع على أن الإجماع حجة ، لكن استقراءها الاستقراء التام بحيث لا يشذ منها شيء متعذر ، كما أن استقراء الحكايات الجزئية الدالة على سخاء حاتم استقراء تاما متعذر ، فلذلك نبه العلماء في كتبهم بأدلة جزئية على تلك الأدلة الحاصلة من الاستقراء التام لو أمكن .

قال : والغفلة عن هذا التقرير هي الموجب لأسئلة وردت على [ ص: 139 ] الإجماع ، لكونه ظنيا ، وكون مخالفه لا يكفر ، وهي مندفعة بهذا التقرير .

قلت : هذا التقرير ضعيف من جهة أن الإجماع أقوى أصول الإسلام ، ولذلك قدم على النص والقياس ، فهو لعلو رتبته في أدلة الشريعة يقتضي توفر دواعي الأمة على ضبط أدلته ، وحفظ مستنده ، إذ من الممتنع عادة تضييع مثل ذلك ، وذلك يدل على أنه ليس للإجماع دليل إلا ما ذكره العلماء في كتبهم . وقد سبق ذكره وبيان ضعف الدلالة منه .

وأما ما ذكر من حكايات حاتم ، فلا نسلم أنه يتعذر استقراؤها أو استقراء ما يحصل به تواتر سخائه منها ، إذ كلها أو أكثرها منقولة مدونة في ديوان حاتم وغيره من كتب التواريخ وغيرها ، لكن علماء الشرع لعدم اهتمامهم بها لم يعتنوا بها حتى تتواتر بينهم وتشتهر ، وقد اشتهرت عند الإخباريين العلماء بأيام العرب .

أما أحاديث الإجماع وأدلته ، فهم بالضرورة معتنون بها ، مهتمون غاية الاهتمام ، فالمانع لهم من نقلها عادة ليس إلا عدمها ، وأنا ذاكر لك إن شاء الله - سبحانه وتعالى - فصلا ذكرته في " القواعد الصغرى " في هذا الباب يحقق كون الإجماع ظنيا ، وهو أني قلت هناك : ومن العدل الترجيح ، وهو العمل بأقوى الدليلين ، وإلغاء الضعيف . وهذا كثير في ترجيحات الأصول والفروع ، كترجيح القاطع على الظني ، والخبر الأصح على الصحيح ، والصحيح على الضعيف ، ومن ذلك أن مخالف الإجماع ومنكر حكمه لا يكفر ، ما لم [ ص: 140 ] ينكر ضروريا من الدين كما سبق وقرر ذلك : بأن جريان حكم الإسلام عليه محقق مقطوع به ، فلا يرفع بالإجماع المحتمل ، وبيان احتماله : أن الإجماع مبني على مقدمات محتملة ، والمبني على المحتمل محتمل .

أما المقدمات ، فهي ظواهر الكتاب ، نحو : ومن يشاقق الرسول [ النساء : 115 ] الآية ، وأحاديث السنة .

أما ظواهر الكتاب ، فإنها إنما صح التمسك بها بالإجماع ، فلو ثبت الإجماع بها ، لزم الدور .

وأما السنة ، فليست متواترة تواترا حقيقيا بالاتفاق ، وكونه تواترا معنويا ، كشجاعة علي ، وسخاء حاتم ، وبين قوله - عليه السلام - : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، أمتي لا تجتمع على ضلالة ونحوهما ، وإن الأول أقوى من الثاني ، وحيث الأول تواتر ; فالثاني ليس بتواتر ، فهو آحاد . وقد اختلف الناس في العمل بخبر الواحد على مذاهب مختلفة ، وغايته أن يكون مستفيضا ، والمستفيض لا يفيد العلم الذي يقوى على رفع عصمة الدماء .

وقولهم : تلقته الأمة بالقبول ، وهي معصومة ، إثبات الإجماع بالإجماع ، لأن معنى كون الإجماع حجة ، هو كونه صادرا عن الأمة المعصومة ، وحينئذ يصير تقدير الكلام : أن الإجماع صدر عن الأمة المعصومة ، لأن [ ص: 141 ] هذه الأمة المعصومة تلقت أدلته بالقبول ، وهو إثبات الشيء بنفسه ، وهو محال .

سلمنا أن الخبر متواتر ، لكن النزاع في دلالته .

فقوله : ما رآه المسلمون ، اللام إما للعهد ، وهم قوم معهودون بينه - عليه السلام - وبين من خاطبه ، فلا يدل على الإجماع ، أو للاستغراق ; فهو عام ، ودلالة العام ظنية ، ثم قد خص بمن قبل عصر الإجماع وبعده ، وبالصبيان ، والمجانين ، والعامة عند الأكثرين ، فصار عاما مخصوصا ، وفي كونه حجة ، أو غير حجة ، وحقيقة في الباقي ، أو مجازا ، خلاف مشهور سبق ، ثم قوله : " حسنا " يحتمل الواجب والمندوب ، وهو فيه أظهر ، ولا دلالة له على الإجماع أصلا ، فإنما يدل على الاستحسان ، به احتج أبو حنيفة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وهو بلفظه أشبه ، إذ هو من مادته لفظا .

وأما قوله : لا تجتمع أمتي على ضلالة يحتمل أنه أراد بالضلالة : الكفر ، ويكون شهادة لها بالأمن من الارتداد بالكلية ، وليس في ذلك دلالة على أن الإجماع قاطع ، ثم صرنا إلى نفس الإجماع ، فنقول : نازع قوم في تصوره وإمكانه ، ثم في كونه حجة ، ثم في أنه مختص بالصحابة ، أو صحيح من غيرها أيضا ، ثم في أن العصمة لهيئة الأمة الاجتماعية ، فتعتبر [ ص: 142 ] العامة أو لا ، وفي غير ذلك من أحكامه مما سبق في السكوتي ، وقد سبق معناه ، فقيل : حجة وإجماع ، وقيل : لا حجة ولا إجماع ، وقيل : حجة فقط ، وقيل : إجماع بشرط انقراض العصر ، وقيل : إن كان فتيا لا حكما .

ثم قولكم : هو حجة قاطعة ، ما المراد به ؟ إن أردتم القطع العقلي ، وهو ما لا يحتمل النقيض ، فهو مع هذا الخلاف العظيم في مقدماته ممتنع ، وإن أردتم أنه موجب للعمل ، فذلك إنما يوجب تعصية مخالفه ومنكر حكمه .

أما الحكم بكفره مع القطع بجريان حكم الإسلام عليه بدليل في مقدمات هذا النزاع ، فهو دفع للأقوى بالأضعف ، وهو مناف للعدل .

واعلم أن القول بتكفيره مطلقا أحوط للشريعة ، وبعدمه مطلقا ، أو بالتفصيل السابق أحوط للدماء .

وأن النزاع إنما هو في التكفير ، أما قتله حدا باجتهاد إمام ، أو مجتهد ، أو بفعل أو بترك ما يوجبه كالزاني المحصن ، أو تارك الصلاة تهاونا لا جحودا ، فلا نزاع في جوازه .

واعلم أني إنما ذكرت لك هذا الفصل ، وإن كانت أكثر أحكامه قد سبقت لفائدتين :

إحداهما : ترجيح ما اخترته من كون الإجماع ظنيا .

والثانية : أني جعلته لك دستورا للإجماع ، تطرية لذهن الناظر به ، [ ص: 143 ] وتذكيرا ، ليتذكر به آخرا ما سبق منه أولا ، وإنما لم أفعل ذلك في آخر كل باب ، لعدم المقتضي لذكره ، بخلاف هاهنا ، فإنه عرض ما اقتضى ذكر ذلك .

وعلى القول بتكفير منكر حكم الإجماع بالجملة سؤال ، وهو : كيف تكفرون منكر حكم الإجماع ، ولم تكفروا منكر أصل الإجماع ، كالنظام والشيعة والخوارج ؟

وأجيب عنه : بأن منكر أصل الإجماع لم يستقر عنده كونه حجة ، فلا يتحقق منه تكذيب صاحب الشريعة ، بخلاف منكر حكمه بعد اعترافه بكونه حجة ، فإنه يتحقق منه ذلك ، فأخذ بإقراره ، والله أعلم .

قوله : " وارتداد الأمة جائز عقلا لا سمعا في الأصح " أي : ارتداد الأمة الإسلامية كفرة ، في عصر من الأعصار " جائز عقلا " أي : ممكن في العقل غير ممتنع ، لأنه لو فرض تصوره لم يلزم منه محال لذاته .

أما جوازه من حيث السمع ، أي : من حيث دلالة الدليل السمعي عليه ، فاختلف فيه ، فالأصح كما ذكر في " المختصر " أنه لا يجوز ، وهو اختيار الآمدي ، لأنها معصومة من الخطأ بأدلة الإجماع السابقة ، والردة أعظم الخطأ ، فتكون معصومة منها ، فلا يجوز عليها ، وثم أحاديث أخر تؤكد ذلك .

منها : ما روى معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا فسد أهل الشام ، فلا خير فيكم ، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من [ ص: 144 ] خذلهم حتى تقوم الساعة رواه ابن ماجه والترمذي وصححه .

وفي الصحيحين معناه من حديث المغيرة .

ولمسلم من حديث ثوبان : لا تزال طائفة من أمتي الحديث .

وله من حديث سعد : لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة .

ولأبي داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها .

وهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها من جنسها تدل على استمرار الدين إلى قيام الساعة ، ويلزم من ذلك عدم ارتداد الأمة جميعها في وقت ما ، وهو المطلوب .

واحتج الآخرون بما روي عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله . رواه الترمذي وقال : [ ص: 145 ] حديث حسن ، ومسلم ولفظه : لا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله .

ولمسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى لكن هذا لا يدل على ارتداد جميع الأمة ، بل يصدق مضمونه بردة بعضها ، وعبادته اللات والعزى ، وإنما الحجة في حديث أنس - رضي الله عنه - ، لأن ارتداد الأمة يلزمه قطعا ، وإلا لو قامت الساعة على من يقول : الله الله ، ولو واحدا ، فلا يصدق الحديث إذن .

قلت : أحسن ما جمع به بين هذه الأحاديث : أن تحمل الأحاديث الأول على استمرار الدين إلى قبيل الساعة بمدة يسيرة ، ثم ترتد الأمة ، أو تنقرض ، ويخلفها من لا يذكر الله ، ولا يعرفه ، فتقوم الساعة عليه .

على أن انقراض الأمة لا يتجه ، لأنها آخر الأمم ، وعليها تقوم الساعة ، لكنها ترتد لكثرة الفتن ، وطول العهد ، كما كفرت بنو إسرائيل بعد طول عهدها بأنبيائها وكتبها ، وارتدادها قبل قيام الساعة بمدة يسيرة ; لا يقدح في صحة قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة لأن الزمان اليسير يغتفر في الأحكام والأخبار ، والله [ ص: 146 ] سبحانه وتعالى أعلم .

تنبيه : اختلف الأصوليون في أن الأمة هل يتصور اشتراكها في الجهل بدليل لا معارض له ، والأصح أنه إن قدر عملها على وفق ذلك الدليل ، جاز اشتراكها في عدم العلم به ، لأنه حينئذ يصير كالوسيلة مع المقصد ، وإن قدر عملها على خلافه ، لم يجز ، لعصمتها من الإجماع على الخطأ ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية