صفحة جزء
[ ص: 169 ] الأصول المختلف فيها أربعة :

أحدها : شرع من قبلنا ما لم يرد نسخه - شرع لنا في أحد القولين ، اختاره التميمي والحنفية ، والثاني : لا ، وللشافعية كالقولين .

المثبت : إنا أنزلنا التوراة الآية ، ودلالتها من وجهين : فبهداهم اقتده ، اتبع ملة إبراهيم ، شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، وقال - صلى الله عليه وسلم : كتاب الله القصاص ، وليس في القرآن : السن بالسن إلا ما حكي فيه عن التوراة ، وراجع - صلى الله عليه وسلم - التوراة في رجم الزانيين ، واستدل بـ وأقم الصلاة لذكري على قضاء المنسية عند ذكرها .

وأجيب : بأن المراد من الآيات : التوحيد والأصول الكلية ، وهي مشتركة بين الشرائع ، و كتاب الله القصاص إشارة إلى عموم : فمن اعتدى ، أو ( والجروح قصاص ) على قراءة الرفع ، ومراجعته التوراة تحقيقا لكذبهم وإنما حكم بالقرآن ، وأقم الصلاة لذكري قياس أو تأكيد لدليله به ، أو علم عمومه له ، لا حكم بشرع موسى .


" الأصول المختلف فيها أربعة " :

لما فرغ من الكلام على الأصول المتفق عليها ، وهي : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، واستصحاب الحال ، أخذ في الكلام على الأصول المختلف فيها ، وهي أربعة أيضا : شرع من قبلنا ، وقول الصحابي ، والاستحسان ، والاستصلاح .

قوله : " أحدها " ، أي : أحد الأصول المذكورة : " شرع من قبلنا ما لم يرد نسخه - شرع لنا " . أي : شرع من قبلنا إن ورد ناسخه في شرعنا ، فليس شرعا [ ص: 170 ] لنا ، وإن لم يرد له ناسخ في شرعنا ، فهو شرع لنا " في أحد القولين " عن أحمد ، و " اختاره التميمي " من أصحابنا " والحنفية " .

قال الآمدي : هو المنقول عن بعض الشافعية وبعض الحنفية ، والقول " الثاني " ليس شرعا لنا ، " وللشافعية كالقولين " .

قال الآمدي : وهو مذهب الأشاعرة والمعتزلة ، واختاره .

قوله : " المثبت " أي : احتج المثبت لكونه شرعا لنا بوجوه :

أحدها : قوله - عز وجل : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا [ المائدة : 44 ] " ودلالتها من وجهين " :

أحدهما : أنه جعلها مستندا للمسلمين في الحكم ، وهو نص في المسألة .

الوجه الثاني : قوله - عز وجل - في آخرها : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] ، وهو عام في المسلمين وغيرهم .

الوجه الثاني من أدلة المسألة : قوله - سبحانه وتعالى - مخاطبا لنبينا - عليه السلام : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ] يعني أنبياء بني إسرائيل ، وأمره له بالاقتداء بهم يقتضي أن شرعهم شرع له قطعا .

الوجه الثالث : قوله تعالى : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا [ النحل : 123 ] ; أمره باتباع ملة إبراهيم ، وهي من شرع من قبله ، ثم أمره - سبحانه وتعالى - بالإخبار بذلك بقوله : [ ص: 171 ] قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ الأنعام : 161 ] ، وذلك يدل على أنه متعبد بشرع من قبله .

الوجه الرابع : قوله - سبحانه وتعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى [ الشورى : 13 ] الآية ، وهي تدل على أن الشرعين سواء ، وهو المراد بترجمة المسألة .

الوجه الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في قصة الربيع بالقصاص في السن ، " وقال : كتاب الله القصاص وليس في القرآن : السن بالسن إلا ما حكي فيه عن التوراة " بقوله - عز وجل : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس إلى قوله - عز وجل : والسن بالسن [ المائدة : 45 ] ، فدل على أنه - عليه السلام - قضى بحكم التوراة ، ولم يكن شرعا له ، لما قضى به .

الوجه السادس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " راجع التوراة في رجم الزانيين " من اليهود ، فلما وجد فيها أنهما يرجمان ، رجمهما ، وذلك يدل على ما قلناه .

الوجه السابع : أنه - عليه السلام - " استدل " على وجوب " قضاء المنسية عند ذكرها " بقوله - سبحانه وتعالى : إنني أنا الله لا إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [ طه : 14 ] ، وإنما الخطاب فيها لموسى - عليه السلام - على ما دل عليه سياق القرآن ، وذلك لما نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلا ، فنام فيه وأصحابه ، حتى فات وقت صلاة الصبح ، أمرهم ، فخرجوا عن الوادي ، ثم صلى بهم [ ص: 172 ] الصبح ، واستدل بالآية .

فهذه سبعة أوجه احتج بها من أثبت أن شرع من قبلنا شرع لنا .

قوله : " وأجيب " ، أي : أجاب النافون لذلك عن هذه الأوجه السبعة بأن قالوا : " إن المراد من الآيات " المذكورة في الأوجه الأربعة الأول إنما هو " التوحيد والأصول الكلية " المعروفة بأصول الدين ، وما يجوز على البارئ جل جلاله وما لا يجوز ، " وهي " أي : الأصول الكلية " مشتركة بين الشرائع " كلها ، وذلك مثل قولنا : الله واحد أحد أزلي باق سرمدي ، ليس كمثله شيء ، خالق للعالم ، مرسل للرسل ، فعال لما يريد ، ليس بجائر ولا ظالم ، ونحو ذلك ، لا أن شرع من قبلنا شرع لنا في فروع الدين ، بدليل ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - من أدلتنا على ذلك .

وأما قوله - عليه الصلاة والسلام : كتاب الله القصاص فليس إشارة إلى حكم التوراة ، بل إما إلى عموم قوله - سبحانه وتعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] ، وهو يتناول العدوان في السن وغيرها ، أو إلى عموم قوله - سبحانه وتعالى : والجروح قصاص [ المائدة : 45 ] على قراءة من قرأ : ( والجروح ) بالرفع على الاستئناف ، وهو ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ، وعلى ذلك يكون من كتابنا وشرعنا ، لا من التوراة وشرع من قبلنا .

[ ص: 173 ] وأما " مراجعته التوراة " في رجم الزانيين فليس على جهة استفادة الحكم منها بل تحقيقا لكذب اليهود ، فإنه رآهم سودوا وجوههما ، وطافوا بهما بين الناس ، فأنكر أن يكون ذلك من حكم الله تعالى في الزاني ، فاستدعى بالتوراة ، فاستخرج منها الحكم بالرجم " تحقيقا لكذبهم " على الله تعالى ، وتحريفهم الكتب المنزلة عليهم كما في موضع : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [ آل عمران : 93 ] ، " وإنما حكم بالقرآن " بقوله تعالى : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة " . وقد سبق أن هذا مما نسخ خطه ، وبقي حكمه .

قلت : لكن هذا يتوقف على ثبوت أن قصة اليهوديين كانت بعد نزول آية الرجم المذكورة ، والظاهر أنه كذلك .

وأما استدلاله - عليه الصلاة والسلام - بقوله - سبحانه وتعالى : وأقم الصلاة لذكري [ طه : 14 ] ، فهو إما " قياس " لنفسه على موسى في إقامة الصلاة لذكر الله - عز وجل ، أي : عند ذكره ، " أو تأكيد " من النبي - صلى الله عليه وسلم - " لدليله " على قضاء الصلاة بالآية المذكورة خطابا لموسى - عليه السلام ، أو أنه - عليه السلام - علم عموم الآية له ، " لا " أنه " حكم بشرع موسى " عليه السلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية