صفحة جزء
[ ص: 185 ] الثاني : قول صحابي لم يظهر له مخالف : حجة ، يقدم على القياس ، ويخص به العام ، وهو قول مالك وبعض الحنفية خلافا لأبي الخطاب وجديد الشافعي وعامة المتكلمين ، وقيل : الحجة قول الخلفاء الراشدين ، وقيل : أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - للحديثين المشهورين .

لنا على العموم : أصحابي كالنجوم وخص في الصحابي بدليل .

قالوا : غير معصوم فالعام والقياس أولى .

قلنا : كذا المجتهد ويترجح الصحابي بحضور التنزيل ومعرفة التأويل ، وقوله أخص من العموم فيقدم .

وإذا اختلف الصحابة لم يجز للمجتهد الأخذ بقول بعضهم من غير دليل ، وأجازه بعض الحنفية والمتكلمين بشرط أن لا ينكر على القائل قوله .

لنا : القياس على تعارض دليلي الكتاب والسنة ، ولأن أحدهما خطأ قطعا .

قالوا : اختلافهم تسويغ للأخذ بكل منهما ، ورجع عمر إلى قول معاذ - رضي الله عنهما - في ترك رجم المرأة .

قلنا : إنما سوغوا الأخذ بالأرجح ، ورجوع عمر لظهور رجحان قول معاذ عنده .


قوله : " الثاني " ، أي : الأصل الثاني من الأصول المختلف فيها " قول صحابي لم يظهر له مخالف " هو " حجة يقدم على القياس ، ويخص به العام " عند " مالك وبعض الحنفية ، خلافا لأبي الخطاب وجديد " قولي " الشافعي وعامة المتكلمين " حيث قالوا : ليس بحجة ، وعن أحمد ما يدل عليه ، وهو مذهب الأشاعرة والمعتزلة والكرخي . وقال قوم : إن خالف القياس - يعني قول [ ص: 186 ] الصحابي - فهو حجة ، وإلا فلا ؛ لأنه إذا خالف القياس ، دل على أنه توقيف من صاحب الشرع ، فيكون حجة لا لذاته ، بل لدلالته على الحجة عند هذا القائل ، وإذا لم يخالفه ، احتمل أنه عن اجتهاد ، فيكون كاجتهاد غير الصحابي .

وقال بعضهم : " الحجة قول الخلفاء الراشدين " ؛ لقوله - عليه السلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي [ " وقيل : أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ؛ لقوله - عليه السلام : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ] ومفهومه أن غيرهما ليس كذلك ، وهذان هما الحديثان المشهوران المشار إليهما في " المختصر " .

قوله : " لنا على العموم " ، أي : على عموم كون قول الصحابي المذكور حجة من غير اختصاص بالشيخين ولا غيرهما قوله - عليه السلام : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وهو عام في جميعهم ، ودلالة الحديثين قبلهما على الاختصاص دلالة مفهوم ضعيف ، ثم مفهوم كل واحد منهما معارض بمفهوم الآخر .

قوله : " وخص في الصحابي بدليل " . هذا جواب سؤال مقدر .

وتقريره أن يقال : إن قوله - عليه السلام : بأيهم اقتديتم اهتديتم هو خطاب لعوام عصره ، وإذن لهم في تقليد الصحابة في الفتيا ، لا أن قول الصحابي حجة على [ ص: 187 ] المجتهدين ، بدليل أن الصحابي غير داخل في مقتضى الحديث ، إذ لو كان كذلك لكان مقتضاه أن قول الصحابي حجة على صحابي مثله ، وهو باطل بالاتفاق ، على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس حجة على غيره من مجتهدي الصحابة ، إماما كان الصحابي ، أو حاكما ، أو مفتيا ، وإذا لم يكن الصحابي مرادا من الحديث دل على أن المراد به العوام وهو محل وفاق .

وجوابه : أن الحديث يقتضي عموم الاقتداء بكل صحابي ، ولكل صحابي ، لكن الصحابي خص من هذا العموم بدليل ، فبقي الحديث متناولا لغيره من مجتهدي التابعين فمن بعدهم ، والدليل الذي خص به الصحابي من عموم الحديث المذكور ، إما الإجماع ، أو قرينة كونه مأمورا بالاقتداء به ، فلا يكون هو مقتديا بغيره ؛ لئلا يكون المتبوع تابعا ، ولأن الصحابيين إن كانا مقلدين ، فحكمهما التقليد ، أو أحدهما مقلدا ، فحكمه كذلك ، وإن كانا مجتهدين ، لم يكن أحدهما بأولى بأن يقلد الآخر من العكس ، فيستقل كل منهما باجتهاده ، ولا يكون قول صاحبه حجة عليه ، وهو المطلوب .

قوله : " قالوا : غير معصوم " ، أي : احتج الخصم بأن الصحابي غير معصوم من الخطأ ، فيكون " العام والقياس أولى " من قوله ، وحينئذ لا يخص به العام ، ولا يترك به القياس ، وهو المعني بكونه ليس بحجة .

قوله : " قلنا : كذا المجتهد " ، أي : الجواب عما ذكرتموه أن المجتهد غير [ ص: 188 ] معصوم ، وقد وجب على العامي تقليده باتفاق ، ومجتهدو الأمة بالنسبة إلى مجتهدي الصحابة كالعامة مع العلماء ؛ لاختصاصهم " بحضور التنزيل ، ومعرفة التأويل " ، فيترجحون بذلك على سائر المجتهدين . " وقوله " أي : وقول الصحابي " أخص من العموم " وأقوى من القياس ، " فيقدم " عليهما ؛ لأن القاعدة تقديم الخاص على العام ، والقوي على الضعيف ، ودليل قوة قوله أنه أعلم بمواقع الأدلة لما ذكرنا ، فما خالف العام والقياس إلا عن حجة وبينة .

قوله : " وإذا اختلف الصحابة ، لم يجز للمجتهد الأخذ بقول بعضهم من غير دليل " ، إلى آخره . أي : إذا اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - على قولين فأكثر ، لم يجز للمجتهد من غيرهم الأخذ بأحد الأقوال من غير دليل ، وأجاز ذلك " بعض الحنفية و " بعض " المتكلمين ، بشرط أن لا ينكر " ذلك القول المأخوذ به على قائله .

" لنا " على المنع من ذلك وجهان :

أحدهما : " القياس على تعارض دليلي الكتاب والسنة " وأولى ، أي : إن قول الصحابي لا يزيد في القوة على الكتاب والسنة ، ولو تعارض دليلان منهما ، لم يجز الأخذ بأحدهما إلا بترجيح ونظر ، فكذلك أقوال الصحابة أولى .

الوجه الثاني : أن أحد القولين " خطأ قطعا " ؛ لاستحالة كون الصواب في نفس الأمر في جهات متعددة ، وإذا كان أحد قولي الصحابة خطأ ، فالطريق إلى تمييز الخطأ من الصواب ليس إلا الدليل .

قوله : " قالوا " ، إلى آخره . أي : احتج الخصم على جواز الأخذ بأحد [ ص: 189 ] القولين من غير دليل بوجهين :

أحدهما : أن اختلاف الصحابة على القولين " تسويغ للأخذ بكل " واحد " منهما " ، فيكون الأخذ بكل منهما جائزا باتفاق منهم ، وهو المطلوب .

الثاني : أن عمر - رضي الله عنه - رجع إلى قول معاذ - رضي الله عنه - في ترك رجم المرأة ، يعني أن عمر - رضي الله عنه - أراد أن يرجم امرأة حاملا لأجل الزنى ، فقال له معاذ بن جبل : إن كان لك سبيل عليها ; فليس لك سبيل على ما في بطنها ، فرجع عمر إلى قوله ، وأخرها حتى وضعت . فرجوعه إلى قول معاذ في هذه القضية بدون أن يستعلم رأي غيره فيها دليل على ما قلناه .

قوله : " قلنا " ، أي : الجواب عما ذكرتموه .

أما عن الوجه الأول : فإن الصحابة باختلافهم على قولين " إنما سوغوا الأخذ بالأرجح " منهما ، وذلك يستدعي ترجيحا واجتهادا ، لا أنهم سوغوا الأخذ بأحدهما تشهيا من غير حجة .

وأما عن الوجه الثاني ، فبأن " رجوع عمر " إلى قول معاذ - رضي الله عنهما - إنما كان " لظهور " رجحانه عنده ، لا أنه أخذ بقوله تقليدا وتشهيا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية