صفحة جزء
[ ص: 204 ] الرابع : الاستصلاح : وهو اتباع المصلحة المرسلة .

والمصلحة : جلب نفع أو دفع ضر ، ثم إن شهد الشرع باعتبارها كاقتباس الحكم من معقول دليل شرعي ، فقياس ، أو ببطلانها كتعين الصوم في كفارة رمضان على الموسر كالملك ونحوه ، فلغو ، إذ هو تغيير للشرع بالرأي ، وإن لم يشهد لها ببطلان ولا اعتبار معين فهي :

إما تحسيني ، كصيانة المرأة عن مباشرة عقد نكاحها المشعر بما لا يليق بالمروءة بتولي الولي ذلك .

أو حاجي ، أي : في رتبة الحاجة ، كتسليط الولي على تزويج الصغيرة لحاجة تقييد الكفء خيفة فواته ، ولا يصح التمسك بمجرد هذين من غير أصل . وإلا لكان وضعا للشرع بالرأي . ولاستوى العالم والعامي لمعرفة كل مصلحته .


" الرابع " : أي : من الأصول المختلف فيها : " الاستصلاح " ، وهو استفعال من صلح يصلح ، " وهو اتباع المصلحة المرسلة " ، فإن الشرع أو المجتهد يطلب صلاح المكلفين باتباع المصلحة المذكورة ومراعاتها .

قوله : " والمصلحة جلب نفع ، أو دفع ضر " .

لما ذكر أن الاستصلاح اتباع المصلحة المرسلة ، احتيج إلى بيان حقيقة المصلحة ، وهي كما ذكر جلب نفع ، أو دفع ضرر ؛ لأن قوام الإنسان في دينه ودنياه ، وفي معاشه ومعاده بحصول الخير واندفاع الشر ، وإن شئت ، قلت : بحصول الملائم واندفاع المنافي .

[ ص: 205 ] مثاله أن الإنسان لما كان يؤذيه غلبة الحر والبرد ، احتاج في الصيف إلى رقيق اللباس ، والتعرض للهواء البارد بالجلوس في أماكنه ، وتبريدها بالماء ونحو ذلك . ليحصل له الروح الموافق ، ويندفع عنه الكرب المنافي ، وفي الشتاء على العكس من ذلك ، والأمثلة كثيرة .

قوله : " ثم إن شهد الشرع باعتبارها " ، إلى آخره . هذا بيان لأنواع المصلحة وأقسامها ، وهي ثلاثة :

القسم الأول : هذا ، وهو ما شهد الشرع باعتباره ، " كاقتباس الحكم " ، أي : استفادته وتحصيله " من معقول دليل شرعي " ، كالنص والإجماع ، فهو " قياس " ، كاستفادتنا تحريم شحم الخنزير من تحريم لحمه المنصوص عليه بالكتاب ، واستفادتنا تحريم النبيذ المسكر من تحريم الخمر المنصوص عليه بالكتاب والسنة ، مع أن النبيذ منصوص على تحريمه مع غيره بقوله - عليه الصلاة والسلام : كل مسكر خمر ، وكقولنا : يجب الحد بوطء ذات المحرم بعقد النكاح قياسا على وطئها بالزنى ، وهو محل إجماع ، وأشباه ذلك .

القسم الثاني : ما شهد الشرع ببطلانه من المصالح ، أي : لم يعتبره كقول من يقول : إن الموسر كالملك ونحوه يتعين عليه الصوم في كفارة الوطء في رمضان ، ولا يخير بينه وبين العتق والإطعام ؛ لأن فائدة الكفارة الزجر عن الجناية على العبادة ، ومثل هذا لا يزجره العتق والإطعام لكثرة ماله ، فيسهل عليه أن يعتق رقابا في قضاء شهوته ، وقد لا يسهل عليه صوم ساعة ، فيكون [ ص: 206 ] الصوم أزجر له ، فيتعين .

فهذا وأمثاله ملغى غير معتبر ؛ لأنه تغيير للشرع بالرأي وهو غير جائز ، ولو أراد الشرع ذلك ، لبينه أو نبه عليه في حديث الأعرابي أو غيره ، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإيهام التسوية بين الأشخاص في الأحكام مع افتراقهم فيها لا يجوز .

القسم الثالث من المصالح : ما لم يشهد له الشرع " ببطلان ولا اعتبار معين " ، فهو ، أي : هذا القسم ، على ثلاثة أضرب :

أحدها : " التحسيني " الواقع موقع التحسين والتزيين ، ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات ، وحسن الأدب في السيرة بين الناس ، " كصيانة المرأة عن مباشرة عقد نكاحها " بإقامة الولي مباشرا لذلك ؛ لأن المرأة لو باشرت عقد نكاحها ، لكان ذلك منها مشعرا " بما لا يليق بالمروءة " من غلبة القحة ، وقلة الحياء ، وتوقان نفسها إلى الرجال ، فمنعت من ذلك حملا للخلق على أحسن المناهج وأجمل السير ، وقد ضرب المثل في هذا الباب بأم خارجة ، وهي امرأة كانت في الجاهلية نكحت نحو سبعين من الرجال وتطلقهم ، فكان الرجل يأتيها ، فيقول : خطب ، فتقول هي : نكح ، أي : يقول لها : أنا خاطب لك ، فتقول هي : قد أنكحتك نفسي ، فجاءها بعض الأيام رجل خاطب وهي على بعير فخطبها ، فأنكحته نفسها ، ثم أعجلت البعير أن يبرك ، فوثبت عنه وهو قائم لتجتمع بزوجها ، فاندقت عنقها ، فقيل : أسرع من نكاح أم خارجة ، يضرب مثلا لكل من يبالغ في العجلة .

الضرب الثاني من هذا القسم من المصالح هو " الحاجي ، أي " : الواقع [ ص: 207 ] " في رتبة الحاجة " ، أي : تدعو إليه الحاجة ، " كتسليط الولي على تزويج الصغيرة ؛ لحاجة تقييد الكفء " خشية أن يفوت ، فإن ذلك مما يحتاج إليه ويحصل بحصوله نفع ، ويلحق بفواته ضرر ; وإن لم يكن ضروريا قاطعا ، ونسبة الضرب الأول إلى هذا نسبة كتاب " الزينة " من الطب إلى باقي كتبه على ما عرف فيه .

قوله : " ولا يصح التمسك بمجرد هذين " ، يعني الضربين المذكورين من المصلحة وهما التحسيني والحاجي " من غير أصل " يشهد لهما بالاعتبار ، أي : لا يجوز للمجتهد أنه كلما لاح له مصلحة تحسينية أو حاجية اعتبرها ، ورتب عليها الأحكام حتى يجد لاعتبارها شاهدا من جنسها ، ولو لم يعتبر للتمسك بهذه المصلحة وجود أصل يشهد لها ، للزم منه محذورات :

أحدها : أن ذلك يكون " وضعا للشرع بالرأي " ؛ لأن حكم الشرع هو ما استفيد من دليل شرعي : إجماع ، أو نص ، أو معقول نص ، وهذه المصلحة لا تستند إلى شيء من ذلك ، فيكون رأيا مجردا .

الثاني : لو جاز ذلك ، " لاستوى العالم والعامي " ؛ لأن كل أحد يعرف مصلحة نفسه الواقعة موقع التحسين أو الحاجة ، وإنما الفرق بين العالم والعامي معرفة أدلة الشرع واستخراج الأحكام منها .

الثالث : لو جاز ذلك ، لاستغني عن بعثة الرسل وصار الناس براهمة [ ص: 208 ] لنحو ذلك ؛ لأنهم قالوا : لا حاجة لنا إلى الرسل ؛ لأن العقل كاف لنا في التأديب ومعرفة الأحكام ، إذ ما حسنه العقل ، أتيناه ، وما قبحه ، اجتنبناه ، وما لم يقض فيه بحسن ولا قبح ، فعلنا منه الضروري ، وتركنا الباقي احتياطا ، فالتمسك بهذين الضربين من المصالح من غير شاهد لهما بالاعتبار يؤدي إلى مثل ذلك ونحوه ، فيكون باطلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية