صفحة جزء
[ ص: 188 ]

الثانية : لا تكليف على النائم والناسي والسكران الذي لا يعقل ، لعدم الفهم . وما ثبت من أحكامهم ، كغرامة ، ونفوذ طلاق ، فسببي ، كما سبق . فأما لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فيجب تأويله ، إما على معنى : لا تسكروا ثم تقربوا الصلاة ، أو على من وجد منه مبادي النشاط والطرب ولم يزل عقله ، جمعا بين الأدلة .


تكليف النائم والناسي والسكران :

قوله : " الثانية " ، أي : المسألة الثانية من مسائل شروط المكلف ، " لا تكليف على النائم والناسي والسكران الذي لا يعقل ، لعدم الفهم " يعني : لعدم فهمهم للخطاب ، كالصبي والمجنون بجامع عدم الفهم ، وإن افترقوا في بعض الأحكام ، مثل أن الصبي والمجنون ، لا يستدركان ما تركا من العبادات ، بخلاف الثلاثة الأول ، فإنهم يقضون ما فاتهم منها ، لسبق الوجوب عليهم .

تنبيه : عدم الفهم في هؤلاء الجماعة مختلف ، فالصبي والمجنون ، لا يدركان معنى كلام الشرع ، أما الصبي فبالأصالة ، لأن عقله الذي يفهم ذلك به لم يكمل بحيث يقوى على الإدراك ، وأما المجنون ، فبعارض قوي قهري ، وهو الجنون ، وكذلك السكران ، عدم فهمه لعارض ، لكنه اختياري ، فلذلك اختلف فيه اختلافا كثيرا ، هل هو كالصاحي أو كالمجنون ؟ والنائم ، عدم فهمه لعارض طبيعي ، وهو النوم ، أما الناسي ، فيخالف هؤلاء كلهم في السبب والمسبب ، أما السبب ، فلأن سبب عدم فهمه عارض ضروري خفيف أخف من جميع الأسباب ، لأنه يذكر بكلمة ، فيذكر ، بخلاف النائم والسكران . وأما في المسبب - وهو عدم الفهم - [ ص: 189 ] فلأن المراد به في غيره عدم الإدراك ، بحيث لو خوطب أحدهم بخطاب الشرع لم يفهم ، والمراد به في الناسي ، انقطاع اتصال ذكره للتكليف فقط ، بحيث لو سها عن الصلاة ، فقيل له : صل ، أو أقم الصلاة ونحوه ، سمع وفهم وتذكر ، وهذا هو القدر المشترك بين المسقطات للتكليف ، وهو الكافي منها ، وذلك لأن شرط توجيه التكليف ، ذكر الإنسان كونه مكلفا .

وشرط الشيء ، يجب دوامه واتصاله ، كاستصحاب حكم النية في الوضوء ونحوه ، فمتى انقطع اتصاله في وقت من الأوقات ، زال التكليف لزوال شرطه ، كما لو انقطعت نية الوضوء أو الصلاة أو الصوم في أثنائها ، أو زال قبض المرتهن للرهن في وقت ما ، زال لزومه الذي القبض شرط له . فهذا هو التحقيق في هذا المقام .

أما قول من قال : هؤلاء لا يكلفون ، لأنهم لا يفهمون ، فهو ملاحظة لأمر تقديري ، وهو أن خطاب الشارع في تقدير التجدد عند بلوغ كل مكلف ، وعند تكليفه بكل حكم شرعي ، لأن أسباب الأحكام المتكررة هي قائمة مقام الخطاب بمسبباتها ، على ما أشرنا إليه في خطاب الوضع ، وسنقرره هناك إن شاء الله تعالى .

فالمكلف كل يوم ، هو مخاطب في التقدير بخمس صلوات . عند كل صلاة منها بخطاب مقدر متجدد ، والأمور التقديرية كثيرة في الشريعة ، فبالنظر إلى هذا التقدير ، قالوا : إن هؤلاء لا يفهمون الخطاب ، أي : لو أن هذا الخطاب المقدر خوطبوا به الآن تحقيقا ، لم يفهموه ، إلا الناسي بواسطة التذكر كما بيناه .

قوله : " وما ثبت من أحكامهم " يعني : أحكام النائم والناسي والسكران ، " كغرامة ، ونفوذ طلاق ، فسببي " . [ ص: 190 ]

هذا جواب عن سؤال مقدر ، تقديره : لو لم يكن هؤلاء مكلفين ، لما ثبتت أحكامهم ، كالغرامات عن الجنايات ، كالنائم ينقلب على مال فيتلفه ، أو إنسان فيقتله ، ونفوذ الطلاق ، ونحوه من الأحكام الثابتة في حقهم .

وجوابه : أن ذلك ليس من باب التكليف ، بل من باب ربط الحكم بالسبب ، " كما سبق " في الصبي والمجنون ، وقد قررنا ذلك .

تنبيه : الغرامة لازمة لهؤلاء الثلاثة فيما جنوه على الأموال ، وفيما يوجبها ، كقتل الخطأ ، تحقيقا للعدل كما سبق .

أما الطلاق ، فلا يقع من النائم ، لأن شرطه قصد الإيقاع ، ولا قصد للنائم ، بل كلامه في منامه ، ككلام المبرسم في برسامه .

أما الناسي والسكران ، ففي طلاقهما اختلاف بين العلماء ، وعن أحمد في الناسي قولان ، وفي السكران أقوال ، ثالثها الوقف ، والمشهور بين الأصحاب فيهما ، الوقوع ، والأشبه عدمه ، لأنهما غير مكلفين ، ولا عبادة لغير مكلف .

فإن جعلوا الوقوع فيهما سببا ، عارضهم في الناسي قوله - عليه السلام - : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ، وفي السكران - حيث قالوا : يقع طلاقه عقوبة له ، لأنه بسبب محرم حصل باختياره - أنهم قد عاقبوه بإيجاب الحد في الدنيا ، وجعله من [ ص: 191 ] أهل الوعيد في الآخرة ، والجناية شرعا لا يترتب عليها من جهة واحدة عقوبتان .

وقولنا : من جهة واحدة ، احتراز من قتل المحرم صيدا مملوكا ، فإنه تجب عليه الفدية ، لحق الله سبحانه وتعالى ، والقيمة لحق المالك ، فهما جهتان .

قوله : " فأما لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " [ النساء : 43 ] ، إلى آخره .

هذا جواب عن سؤال مقدر ، تقديره : إن قولكم : إن السكران غير مكلف ، يرده قوله سبحانه وتعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] وهو خطاب للسكارى ، ولا يخاطب الشارع إلا مكلفا ، فالسكران مكلف ، وجوابه ، أن هذه الآية ، تأويلها واجب ، ولها تأويلان :

أحدهما : أن معناه : " لا تسكروا ثم تقربوا الصلاة " ، كقوله تعالى : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ آل عمران : 102 ] ، أي : استمروا على الإسلام حتى يأتيكم الموت ، وقولنا : لا تقرب التهجد وأنت شبعان ، أي : استمر على خفة البدن ، حتى تقوم للتهجد ، فكذلك الآية المذكورة : استمروا على الصحو حتى تدخلوا الصلاة ، وتفرغوا منها ، ولا تدخلوها سكارى ، فتضطرب عليكم صلاتكم . وحاصل هذا ، أنهم خوطبوا في حال الصحو ، بأن لا تقربوا الصلاة سكارى ، لا أنهم خوطبوا حال السكر ، وهذا أوضح في الآية ، لأن قوله : وأنتم سكارى ، جملة حالية ، أي : في موضع نصب على الحال من قوله : لا تقربوا ، فالسكر متعلق بقربان الصلاة ، لا بخطاب الله سبحانه وتعالى للمصلين ، إذ لو كان كذلك ، لكان تقدير الآية : يا أيها [ ص: 192 ] الذين آمنوا وأنتم سكارى - أي أدعوكم وأخاطبكم وأنتم سكارى - لا تقربوا الصلاة ، ولم يقله أحد من علماء القرآن ، ولا يجوز ذلك ، لأنه خلاف ذلك ظاهر الكلام ، إن لم يكن خلاف صريحه ونصه القاطع .

قلت : وعلى هذا التقدير لا ينبغي أن يسمى هذا الوجه تأويلا ، بل هو منع .

وتقريره : لا نسلم أن الآية خطاب للسكارى ، بل للصحاة ، بأن لا تقربوا الصلاة سكارى ، وفي حال السكر ينقطع عنهم الخطاب .

ولئن سلمنا أنه خطاب للسكارى ، فالمراد منهم " من وجد منه مبادي النشاط والطرب ، ولم يزل عقله " ، وهذا هو التأويل الثاني " جمعا بين الأدلة " . أي : يجب تأويل الآية على ما ذكرناه جمعا ، أي : للجمع بين الأدلة ، وهي هذه الآية التي أشعرت بخطاب السكران ، وعدم الفهم ، الذي دل على عدم صحة خطابه ، وكان تأويل الآية وحملها على ما يوافقه متعينا لتعذر العكس ، إذ القاطع لا يقبل التأويل .

تنبيه : ما ذكرناه من الوجهين في جواب الآية ، كان باعتبار أول الإسلام حين كانت الخمر مباحة ، أما الآن ، فقد حرم قليلها وكثيرها ، والسكر منها ومباديه ، وإنما ذكرت هذا مع وضوحه ، لأنه ربما اشتبه على بعض النشأة ، حيث يرى الناس يتأولونها على من وجدت منه مبادي النشاط والطرب ، فيظن ذلك مباحا أو مختلفا فيه ، خصوصا إن كان قد سمع أن داود الظاهري يقول بطهارتها ، وأن بعض المتكلمين [ ص: 193 ] يرى إباحتها ، كما حكاه ابن قتيبة عنهم في كتاب " مختلف الحديث " ، فتقوى الشبهة في نفسه .

والنشاط : خفة في البدن تكون عند سرور النفس وانشراح الصدر .

والطرب : قال الجوهري وغيره : هو خفة تصيب الإنسان ، لشدة حزن أو سرور .

قلت : وهو في عرف العامة مختص بما كان عن سرور ، وهو مما حرفوه ، وكان عاما فخصوه ، كالمأتم : هو اسم لجمع النساء ، في فرح أو حزن ، فخصوه بالحزن .

التالي السابق


الخدمات العلمية