صفحة جزء
[ ص: 237 ] أو بإضافة العلية إلى بعض الأوصاف المقارنة للحكم عند صدوره من الشارع وإلغاء ما عداها عن درجة الاعتبار ، كجعل علة وجوب كفارة رمضان وقاع مكلف أعرابي لاطم في صدره في زوجة في ذلك الشهر بعينه ، فيلحق به من ليس أعرابيا ولا لاطما ، والزاني ، ومن وطئ في رمضان آخر .

وقد يختلف في بعض الأوصاف نحو : هل العلة خصوص الجماع أو عموم الإفساد فتلزم الآكل والشارب ؟ ويسمى : تنقيح المناط ، وقال به أكثر منكري القياس .


وأما تنقيح المناط وهو النوع الثاني من أنواع الاجتهاد في العلة الشرعية فالمناط قد عرف ما هو لغة واصطلاحا .

أما التنقيح ، فهو في اللغة : التخليص ، والتهذيب ، يقال : نقحت العظم ، إذا استخرجت مخه . وأما تنقيح المناط في الاصطلاح ، فهو إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف الشارع الحكم إليها لعدم صلاحيتها للاعتبار في العلة ، وإليه الإشارة بقوله في " المختصر " : " أو بإضافة العلية إلى بعض الأوصاف المقارنة للحكم عند صدوره من الشارع ، وإلغاء ما عداها عن درجة الاعتبار ، كجعل علة وجوب كفارة رمضان وقاع مكلف " ، أي : وقاع إنسان مكلف " أعرابي لاطم في صدره في زوجة في ذلك الشهر بعينه ، فيلحق به من ليس أعرابيا ، ولا لاطما ، والزاني ، ومن وطئ في رمضان آخر " .

ومعنى هذا ما روى أبو هريرة قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : هلكت [ ص: 238 ] يا رسول الله ، قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، قال : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا . الحديث ، وهو صحيح ، وعوام الفقهاء يذكرون أن هذا الرجل كان أعرابيا ، وأنه جاء يلطم وجهه وصدره ، وينعي نفسه ، فإن لم يكن قد جاء بهذه الأوصاف أثر ، فلعلهم أخذوها من قوله : هلكت ، وفي بعض الروايات : وأهلكت ، لكن قال الخطابي : هذه اللفظة يعني أهلكت ليست موجودة في شيء من روايات هذا الحديث ، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه ، إنما ذكروا قوله : هلكت ، فحسب .

قلت : وقد أخرج الشافعي من مراسيل سعيد بن المسيب قال : أتى أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتف شعره ، ويضرب نحره ، ويقول : هلك الأبعد ، الحديث .

ويقال : إن الرجل : هو سلمة بن صخر البياضي صاحب قصة الظهار ، وخليق أن يكون هو لأنه يذكر أنه كان مولعا بالجماع ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالكفارة في جواب قوله : واقعت أهلي في رمضان مع مجيئه على الصفات المذكورة ، فربما خيل للسامع أن مجموع الصفات المذكورة مع الوقاع في رمضان هي مناط وجوب الكفارة وعلته ، لكن من جملتها ما ليس بمناسب لكونه علة ولا جزء علة ، فاحتيج إلى إلغائه ، وتنقيح العلة وتخليصها بالسبر والتقسيم ، فيقال [ ص: 239 ] حينئذ : كون هذا الرجل أعرابيا لا أثر له ، فيلحق به من ليس أعرابيا ، كالتركي والعجمي وغيرهما من أصناف الناس ، وكونه لاطما وجهه وصدره لا أثر له ، فيلحق به من جاء بسكينة ووقار وثبات ، وكون الوطء في زوجة لا أثر له ، فيلحق به الوطء في ذكر ، أو أنثى ، أو أمة ، أو أجنبية ، أو بهيمة ، في قبل أو دبر ، اعتبارا لصورة الوقاع ، وكونه ذلك الشهر المعين لا أثر له ، فيلحق به من وطئ في رمضان آخر .

وإنما قلنا : إن هذه الأوصاف لا أثر لها لعدم مناسبتها ؛ إذ الوصف الذي تظهر مناسبته كونه وقاع مكلف هتكت به حرمة عبادة الصوم المفروض أداء ، وما سوى ذلك من التعيينات والأوصاف لاغ .

واعلم أن في تقليل أوصاف العلة تكثيرا لأحكامها لكثرة وقوعها وسهولته لقلة أوصافها .

مثاله : أنا لو جعلنا عين ذلك الأعرابي جزءا لعلة وجوب الكفارة ، لما وجبت على غيره ، وكانت تكون علة قاصرة على محلها ، كالنقدية في النقدين ، وكذا إذا اعتبرنا عين ذلك الشهر ، أو عين تلك المرأة ، ولو اعتبرنا وصف الأعرابية ، أو كون الموطوءة زوجة ، لما وجبت الكفارة على عجمي ، ولا على أعرابي وطئ أمة أو أجنبية ، فقد بان بهذا أن في تقليل الأوصاف تكثير الأحكام .

قوله : " وقد يختلف في بعض الأوصاف ، نحو : هل العلة خصوص الجماع ، أو عموم الإفساد ، فتلزم " يعني الكفارة " الآكل والشارب " ؟ .

[ ص: 240 ] اعلم أن أوصاف العلة على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما اتفق على مناسبته للحكم كوقاع المكلف هاهنا .

الثاني : ما اتفق على طرديته وعدم مناسبته ككون الواطئ أعرابيا لزوجة في ذلك الشهر .

الثالث : ما اختلف في مناسبته لتردده بين الطردي والمناسب ، أو لكونه مناسبا من وجه دون وجه ، ككون الفعل إفسادا للصوم ، وهو وصف عام ، أو جماعا وهو خاص .

ولهذا وقع النزاع بين الأئمة في وجوب الكفارة بالأكل والشرب في نهار رمضان ، فقال به أبو حنيفة ومالك ، وخالف به الشافعي وأحمد ، فقالوا ، لا كفارة إلا بخصوص الجماع .

حجة الأولين أن إفساد الصوم جناية على العبادة ، فناسب وجوب الكفارة زجرا وردعا ، والجماع آلة للإفساد وسبب له فيلحق به الأكل والشرب ، كما أن مناط القصاص ; لما كان هو إزهاق النفس المحترمة ، والسيف آلة له ، لم يختص الحكم به ، بل تعدى إلى السكين والخنجر والرمح وسائر المحددات ، وإلى المثقل كالحجر ونحوه عند بعض الناس ، كذلك هاهنا .

وقرر بعض المالكية ذلك بأن الكفارة إذا وجبت بالجماع ، كان وجوبها بالأكل والشرب أولى ؛ لأنهما مادة الجماع وسببه المقوي عليه ، ووسيلته المتوصل بها إليه ؛ إذ الجائع لا يستطيعه ، والشبعان ينشط له ، فكان إيجاب الكفارة بالأكل والشرب من باب سد الذرائع وحسم مواد الفساد .

[ ص: 241 ] حجة الآخرين أن الجماع اختص بما يناسب اختصاصه بالكفارة من جهة أن النفس لا تنزجر عنه عند هيجان شهوته بمجرد الوازع الديني ، فاحتيج فيه إلى زيادة في الوازع ، وهي الكفارة ، بخلاف الأكل والشرب في ذلك . فقد ثبت بذلك مناسبة خصوص الجماع لاختصاصه بوجوب الكفارة ، فإلغاء هذه المناسبة لا يجوز .

قلت : ومما يقوي هذا أن أوصاف العلل في القياس المعقول كالأخبار في النص المنقول . ثم إنه إذا اجتمع خبران عام وخاص ; قدم الخاص ، فكذلك إذا اجتمع معنا وصفان عام وخاص ; وجب أن يقدم الوصف الخاص ، وهو الجماع هاهنا . وأيضا فإن اعتبار خصوص الجماع موافق للأصل ؛ إذ الأصل أن ما رتب عليه الحكم يكون بمجموعه علة ، فإلغاء بعض الأوصاف على خلاف الأصل .

وقد يعارض هذا بأن اعتبار خصوص الجماع تكثير لأوصاف العلة ، وهو خلاف الأصل . وبالجملة فالمسألة في محل الاجتهاد ، وهي متجاذبة .

قوله : " ويسمى : تنقيح المناط " يعني هذا النوع وقد بينا ذلك .

قوله : " وقال به أكثر منكري القياس " ، أي : أكثر منكري القياس استعملوا هذا النوع من الاجتهاد في العلة الشرعية ، وهو تنقيح المناط ، حتى إن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - ينكر القياس في الكفارات ، وقد استعمل تنقيح المناط فيها ، وسماه استدلالا ، وإنما الممتنع عنده فيها تحقيق المناط وتخريجه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية