صفحة جزء
[ ص: 242 ] أو بتعليق حكم نص الشارع عليه ، ولم يتعرض لعلته على وصف بالاجتهاد ، نحو : حرمت الخمر لإسكارها فالنبيذ حرام ، والربا في البر ؛ لأنه مكيل جنس فالأرز مثله ، ويسمى : تخريج المناط ، وهو الاجتهاد القياسي ، وأجاز أصحابنا التعبد به عقلا وشرعا ، وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين خلافا للظاهرية والنظام ، وقد أومأ إليه أحمد ، وحمل على قياس خالف نصا ، وقيل : هو في مظنة الجواز ، ولا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ، وهو واجب شرعا ، وهو قول بعض الشافعية وبعض المتكلمين .


وأما تخريج المناط ، وهو النوع الثالث من أنواع الاجتهاد في العلة الشرعية ، فالتخريج : هو الاستخراج والاستنباط ، وهو إضافة حكم لم يتعرض الشرع لعلته إلى وصف مناسب في نظر المجتهد بالسبر والتقسيم ، وإليه الإشارة في " المختصر " بقوله : " أو بتعليق حكم " ، أي : والاجتهاد في العلة إما ببيان القاعدة الكلية ، أو بإضافة العلة إلى بعض الأوصاف ، " أو بتعليق حكم نص الشارع عليه ، ولم يتعرض لعلته على وصف بالاجتهاد ، نحو : حرمت الخمر لإسكارها " ؛ لأنه الوصف المناسب لتحريمها ، " فالنبيذ حرام " لوجود الإسكار فيه ، وحرم " الربا في البر ؛ لأنه مكيل جنس " أو مطعوم جنس ، " فالأرز مثله " لأنه كذلك ، " ويسمى : تخريج المناط " ؛ لما ذكرنا من أنه استخراج علة الحكم بالاجتهاد .

ومن أمثلته أيضا أن يقال : وجب العشر في البر لكونه قوتا ، فتلحق به [ ص: 243 ] الأقوات ، أو لكونه نبات الأرض وفائدتها فتلحق به الخضراوات وأنواع النبات .

وتحرير الكلام هاهنا أنا إذا رأينا الشارع قد نص على حكم ولم يتعرض لعلته ، قلنا : هذا حكم حادث لا بد له بحق الأصل من سبب حادث ، فيجتهد المجتهد في استخراج ذلك السبب من محل الحكم ، فإذا ظفر بوصف مناسب له ، واجتهد ولم يجد غيره ، غلب على ظنه أن ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم .

قال البزدوي في " المقترح " : مثاله : تعليل حرمان القاتل من الميراث بمعارضته بنقيض مقصوده من تعجيل الإرث حتى يقيس عليه حيازة المبتوتة لميراثها معارضة للمطلق بنقيض مقصوده .

فائدة : هذه الأنواع الثلاثة : تحقيق المناط ، وتنقيحه ، وتخريجه يشتبه بعضها ببعض خصوصا على المبتدئ في النظر ، فتحقيق الفرق بينهم مهم ، وإن كان قد فهم مما قررناه .

فتحقيق المناط : بيان وجود علة الأصل في الفرع ، أو بيان وجود علة متفق عليها في محل النزاع ، كبيان وجود الطواف المتفق عليه في الهرة في الفأرة ونحوها .

وتنقيح المناط : تعيين وصف للتعليل من أوصاف مذكورة ، كتعيين وقاع المكلف لإيجاب الكفارة من الأوصاف المذكورة في حديث الأعرابي .

وتخريج المناط : هو استخراج العلة من أوصاف غير مذكورة ، كاستخراج الكيل من حديث الربا دون الطعم والاقتيات وهي أوصاف الأصل . كذلك حكي عن الحسكفي في " جدله " .

[ ص: 244 ] قلت : وفيه نظر ، إذ لا يلزم في تخريج المناط تعداد الأوصاف ، بل قد لا يكون في محل الحكم إلا وصف واحد هو العلة ، فتستخرج بالاجتهاد ، فالأولى أن يقال : هو استخراج العلة غير المذكورة بالاجتهاد .

وقال الآمدي : تحقيق المناط : هو النظر في وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها .

وتنقيح المناط : هو النظر في تعيين ما دل عليه النص على كونه علة من غير تعيين ، بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار من الأوصاف المقترنة به ، كما ذكر في قصة الأعرابي .

وتخريج المناط : هو النظر في إثبات علة حكم الأصل بالرأي والاجتهاد ، كالنظر في إثبات كون الشدة المطربة علة تحريم الخمر .

قال الشيخ رشيد الدين الحواري في " لباب القياس " : العلة في هذه المواضع كل ما جعله الشرع أمارة معرفة لثبوت الحكم ، ثم كونه معرفا في تحقيق المناط يعرف بنص أو إجماع ، وفي تنقيح المناط بالسبر والتقسيم ، وفي تخريج المناط بالاجتهاد .

وحكى القرافي : أن تنقيح المناط عند الغزالي هو إلغاء الفارق ، نحو : لا فارق بين الأمة والعبد في سراية العتق ، ولا فرق بين الذكر والأنثى في مفهوم الرق وتشطير الحد ، فوجب استواؤهما فيه ، وقد ورد النص بذلك في الإماء ونحو ذلك .

قلت : لا بأس بتسمية إلغاء الفارق تنقيحا ، إذ التنقيح هو التخليص والتصفية ، وبإلغاء الفارق يصفو الوصف ، ويخلص للعلية ، فلا يكون هذا قولا [ ص: 245 ] ثانيا في تنقيح المناط ، كما قال القرافي ، بل يكون إلغاء الفارق ضربا من تنقيح المناط .

قلت : فقد ذكرت لك جملة من كلام الفضلاء في هذا الباب بلفظه تارة ، وبمعناه أخرى ، ومعنى ذلك كله متحد أو متقارب ؛ لتقابل بين كلامهم ونتائج قرائحهم في ذلك ، فيتلخص لك المقصود إن شاء الله تعالى .

قوله : " وهو " يعني تخريج المناط هو " الاجتهاد القياسي " ، أي : القياس الذي وقع الخلاف فيه ، " وأجاز أصحابنا التعبد به عقلا وشرعا " ، أي : دل دليل العقل على جواز التعبد به ، " وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين ، خلافا للظاهرية والنظام ، وقد أومأ إليه أحمد " ، أي : إلى مذهب النظام في إنكار القياس ، فقال : يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين المجمل والقياس ، " وحمل " يعني إنكار أحمد له " على قياس خالف نصا " ، أي : على ما إذا كان القياس مع وجود النص مخالفا له ؛ لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار . كذلك تأوله القاضي ، وهو تأويل صحيح ؛ لما سنذكره إن شاء الله تعالى في آخر المسألة .

وممن أنكر جواز التعبد بالقياس عقلا الشيعة مع النظام ، ويحيى الإسكافي ، وجعفر بن مبشر ، وجعفر بن حرب من المعتزلة . ذكره الآمدي ، قال الغزالي : وبعض المعتزلة .

قلت : لعلهم هؤلاء .

" وقيل : هو " يعني القياس " في مظنة الجواز ، ولا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب " ، أي : لا يوجب العقل التعبد به ، ولا يحيله بل يجيز الأمرين .

[ ص: 246 ] قوله : " وهو " يعني التعبد بالقياس " واجب شرعا " عندنا ، وهو قول الشافعية وطائفة من المتكلمين .

قلت : قال الغزالي بعد حكاية ما حكاه من المذاهب في القياس : ففرق المبطلة ثلاثة : المحيل له عقلا ، والموجب له عقلا ، والحاظر له شرعا .

قلت : النزاع في التعبد بالقياس إما عقلا ، أو شرعا ، وعلى كل واحد من التقديرين ، فإما أن يكون النزاع في جوازه ، أو وجوبه ، أو امتناعه ، أو وقوعه ، فهي ثمانية أقوال قد ذهب إلى أكثرها ذاهبون ، فممن أوجب ورود التعبد به عقلا : القفال ، وأبو الحسين البصري ، وممن أحاله من سبق ذكره ، وأجازه الأكثرون عقلا وشرعا ، ثم اختلفوا في وقوعه ، فأثبته الأكثرون ، ومنعه داود بن علي الأصبهاني والقاشاني والنهرواني .

واختلف المثبتون لوقوعه ، هل هو بدليل العقل أو السمع ؟ وهل دليل السمع قطعي ؟ وهو مذهب الأكثرين ، أو ظني ؟ وهو قول أبي الحسين البصري والآمدي .

التالي السابق


الخدمات العلمية