صفحة جزء
[ ص: 247 ] لنا : وجوه :

الأول : القياس يتضمن دفع ضرر مظنون ، وهو واجب عقلا ، فالقياس واجب عقلا ، والوجوب يستلزم الجواز .

أما الأولى : فلأنا إذا ظننا أن الحكم في محل النص معلل بكذا وظننا وجود العلة في محل آخر ، ظننا أن الحكم فيه كذا ، فظننا بأننا إن اتبعناه سلمنا من العقاب ، وإن خالفناه عوقبنا ، ففي اتباعه دفع ضرر مظنون .

وأما الثانية : فلقوله تعالى : واتقوا النار ونحوه .

الثاني : قوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها ، ضرب لكم مثلا من أنفسكم ونحوه قياس في العقليات ففي الظنيات أجوز .


قوله : " لنا : " ، يعني على جواز التعبد بالقياس عقلا ووقوعه شرعا ، " وجوه " :

قوله : الوجه " الأول " : أن " القياس يتضمن دفع ضرر مظنون " ، ودفع الضرر المظنون " واجب عقلا ، فالقياس واجب عقلا ، والوجوب يستلزم الجواز " ؛ لأن الوجوب أخص من الجواز ، فيلزم من وجوده وجود الأعم ، والغرض من هذا أن الدليل المذكور يدل على جواز القياس ووجوبه عقلا .

" أما الأولى " : يعني أما المقدمة الأولى من مقدمتي هذا الدليل ، وهي أن " القياس يتضمن دفع ضرر مظنون " ، أي : يظن وقوعه ; " فلأنا إذا ظننا أن الحكم في محل النص معلل بكذا " ، أي : بوصف ما ; " وظننا وجود العلة في [ ص: 248 ] محل آخر ; ظننا " ، أي : حصل لنا الظن " بأن الحكم " في هذا المحل كالحكم في محل النص .

مثاله : إذا ظننا أن تحريم الخمر معلل بالإسكار ، وظننا وجود الإسكار في النبيذ ، غلب على ظننا أن حكمه حكم الخمر في التحريم . وحينئذ يحصل لنا الظن بأنا إن اتبعنا الظن الحاصل لنا من القياس باجتناب النبيذ مثلا ، " سلمنا من العقاب ، وإن خالفناه " ، فشربنا النبيذ ، " عوقبنا " ، فتحقق بهذا التقرير أن في اتباع القياس " دفع ضرر مظنون " .

" وأما الثانية " : يعني المقدمة الثانية من مقدمتي الدليل ، وهو أن دفع الضرر المظنون واجب عقلا وشرعا .

أما عقلا ، فلأن العاقل إذا غلب على ظنه بقرينة ، أو بخبر ثقة أنه إن سلك هذا الطريق ، أكله السبع ، أو أخذ اللصوص ماله ; وإن لم يسلكه أو سلك غيره ، سلم من ذلك ، فالعقل يضطره إلى اجتناب ذلك الطريق المخوف .

وأما شرعا ; " فلقوله تعالى : واتقوا النار التي أعدت للكافرين [ آل عمران : 131 ] ، ونحوه " من الوعيد الشرعي ، واتقاء النار إنما يحصل باجتناب المعاصي مقطوعها ومظنونها .

الوجه " الثاني : قوله " - سبحانه وتعالى - : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ يس : 79 ] ، وقوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء [ الروم : 28 ] الآية ، ونحو ذلك مما سنذكره في أثناء هذا الدليل إن شاء الله [ ص: 249 ] تعالى ، هو " قياس في العقليات " القطعية ، وهو إثبات التوحيد والمعاد ، فثبوت القياس في السمعيات الظنية " أجوز " ، أي : أولى بالجواز ، والمقدمتان ظاهرتان .

واعلم أن الكفار عليهم لعنة الله أنكروا الشريعة ، ومما أنكروه منها أصول مهمة كبار ، وهي وجود الصانع وتوحيده والمعاد ، وحجهم الله تعالى في جميع ذلك بالقياس العقلي .

أما الذين أنكروا وجود الصانع ، وهم معطلة العرب وغيرهم ، فاحتج الله - سبحانه وتعالى - عليهم بحجج تضمنها قوله - عز وجل : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون [ الطور : 35 - 36 ] ، وغير ذلك من آي القرآن ، وفي هذه الآية حجتان :

إحداهما : أن هؤلاء الكفار المنكرين للصانع موجودون فلا يخلو إما أن يكونوا قدماء لا أول لهم ، أو محدثين ، والأول باطل يعترفون ببطلانه ، فإنهم وجدوا بعد أن لم يكونوا ، فتعين الثاني ، وهو أنهم محدثون . وحينئذ فإما أن يكونوا خلقوا من غير شيء ، أي : من غير خالق أوجدهم ، أو أنهم خلقوا أنفسهم ، أو أن خالقا غيرهم خلقهم ، والأول باطل ، إذ لا يعقل في الشاهد فعل لا فاعل له ، ولا محدث لا محدث له ، والثاني باطل ، إذ لا يصح ولا يعقل في الشاهد ولا في غيره أن شيئا يوجد نفسه لاستلزام ذلك كونه موجودا معدوما في زمن واحد ، وهو محال ، فتعين الثالث وهو أن خالقا غيرهم خلقهم ، وهو الصانع القديم - سبحانه وتعالى - ، إذ لو لم يكن قديما ، للزم الدور أو التسلسل بدليله الكلامي .

[ ص: 250 ] الحجة الثانية : أن هؤلاء المنكرين للصانع لم يخلقوا السماوات والأرض قطعا ، وهم يعترفون بذلك أيضا ، وحينئذ فإما أن تكونا قديمتين ، أو محدثتين ، والأول باطل لقيام سمات الحدوث بهما من الحركات ، والسكنات ، والألوان ، والأكوان ، وإلى ذلك أشار إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بقوله : لا أحب الآفلين [ الأنعام : 76 ] . وإذا ثبت أن السماوات والأرض محدثتان ; فإما أن يكونا خلقتا من غير خالق ، أو خلقتا أنفسهما ، أو خلقهما غيرهما ، والأول والثاني باطل بما سبق ، فتعين الثالث كما مر ، وليس هؤلاء هم الذين قيل في حقهم : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ لقمان : 25 ] ؛ لأن هؤلاء مثبتة للصانع ، لكنهم يشركون ، والذين نحن في تقرير الحجة عليهم معطلة ، وكلا الطائفتين كانتا في العرب على ما حكاه الشهرستاني في " الملل والنحل " وعلى هؤلاء وغيرهم حجج كثيرة في القرآن يطول استيفاؤها .

وأما الذين أنكروا التوحيد ; فمنهم من ادعى الشريك ، ومنهم من ادعى الولد .

فأما الذين اعتقدوا الشريك ، فاحتج الله تعالى عليهم بوجوه :

أحدها : دليل التمانع ، وقد ذكره الله تعالى في آيتين : إحداهما : قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] . الثانية : قوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ المؤمنون : 91 ] .

[ ص: 251 ] وتقرير الدليل من وجهين :

أحدهما : أنه لو كان مع الله تعالى إله غيره ، لقضت العادة في الشاهد أن يقتتلا أو يختلفا على عادات الملوك إذا تنازعوا الملك ، فكان يفسد العالم باختلافهما .

الثاني : لو كان ثم إله آخر ، لكان خالقا لبعض العالم ، فكان كل واحد من الإلهين ينحاز بمخلوقه ، ثم يطلب أحدهما العلو على الآخر ، وكان ذلك يظهر للأبصار أو البصائر ، لكن لم يكن شيء من ذلك ، فدل على بطلان الدعوى .

وثم وجه ثالث ، لكنه ليس من باب قياس الشاهد ، بل من باب اجتماع الضدين ، وهو أنه لو كان ثم إله آخر ، لكان كل واحد منهما كامل القدرة والإرادة ، وإلا لم يكن إلها . وحينئذ فلو قدر أن أحدهما أراد تسكين جسم ، والآخر تحريكه ، أو أراد أحدهما إعدامه ، والآخر إيجاده ، فإن لم يتم مرادهما جميعا ، فهما عاجزان ، وليس أحدهما بإله ، وإن تم مرادهما جميعا ، لزم اجتماع النقيضين ، وإن تم مراد أحدهما ، فهو الإله ، والعاجز عن تمام مراده ليس بإله .

الوجه الثاني : من الاحتجاج على منكري التوحيد قوله - سبحانه وتعالى :

قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ الإسراء : 42 ] ; ردا لزعم الكفار في قولهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ الزمر : 3 ] ، وعلى هذا التقدير يكون هذا الوجه مغايرا لما قبله من كل وجه .

[ ص: 252 ] الوجه الثالث : من الاحتجاج على معتقدي الشريك قوله - سبحانه وتعالى - : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم [ الروم : 28 ] . وتقرير الدليل من الآية ، كما أنه ليس لكم من عبيدكم شركاء في أموالكم وأملاككم ; كذلك يجب أن لا يكون لله - سبحانه وتعالى - شركاء من خلقه ، وكيف ترضون لله - سبحانه وتعالى - بما تأنفون منه لأنفسكم . فهذه أدلة نفي الشريك التي اخترنا ذكرها ، وفي القرآن غيرها .

وأما الذين ادعوا الولد ، فاحتج عليهم - سبحانه وتعالى - بآيات : منها قوله - عز وجل : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به [ النحل : 57 - 59 ] ، ومنها قوله تعالى : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا إلى قوله تعالى : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ الزخرف : 16 - 18 ] ، ومنها قوله - عز وجل - : أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون [ الصافات : 153 - 154 ] ، أم له البنات ولكم البنون [ الطور : 39 ] ، ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ النجم : 21 - 22 ] .

وتقرير الدليل من هذه الآيات ونحوها : أنكم أيها الكفار تستحيون من حصول البنات لكم ، حتى أن أحدكم إذا بشر بأنه قد ولد له بنت اربد وجهه ، ونكس رأسه ، وحزن ، وخجل ، وذهب فوأدها ، أي : دفنها حية لئلا يلحقه العار ببقائها ، فكيف ترضون لله - عز وجل - ما تكرهونه لأنفسكم هذه الكراهة ؟ وهل هذا إلا من المستقبحات الضرورية في الشاهد ، إذ هو من باب قول الشاعر : [ ص: 253 ]

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم



وأيضا فإن أحدكم يستقبح أن يخاصم عدوه بجبان ألكن عري عن البيان ، فكيف ترضون إثبات من له هذه الصفات لله تعالى ! وإليه الإشارة بقوله - عز وجل : أومن ينشأ في الحلية الآية . وأيضا فإن اختياركم لأنفسكم ذكور الولد ، ولله - سبحانه وتعالى - إناثهم قسمة ضيزى ، أي : جائرة ، والقسمة الجائرة قبيحة عقلا وشاهدا ، فكيف ترضونها لأنفسكم ! .

وأما الذين أنكروا المعاد ، فاحتج الله - سبحانه وتعالى - عليهم بطرق من القياس العقلي :

أحدهما : قياس إعادة الخلق على ابتدائه بجامع إمكان ذلك ، وقدرته تعالى على جميع الممكنات ، وذكر الله تعالى ذلك في آيات :

منها : قوله - عز وجل : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة إلى قوله - عز وجل : قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ يس : 77 - 79 ] . ومنها : قوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ الروم : 27 ] ، أي : بالنسبة إلى المخلوقين الذين تتفاوت الممكنات عندهم سهولة وصعوبة . ومنها : قوله تعالى : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده [ النمل : 64 ] . ومنها قوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده [ الأنبياء : 104 ] ، كما بدأكم تعودون [ الأعراف : 29 ] ومنها : قوله تعالى : [ ص: 254 ] أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه [ القيامة : 3 - 4 ] ، ثم برهن على هذه الدعوى في آخر السورة بقوله - عز وجل : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله - عز وجل : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ القيامة : 40 ] .

ووجه كون الإعادة أهون من الإبداء : هو أن الإعادة مبنية على الإبداء ؛ لأن المعاد له أصل في الوجود والحياة ، والإبداء ليس مبنيا إلا على مجرد القدرة الباهرة لا على سبب سابق .

ومن هذا الباب زعم بعضهم أن معجز موسى أعظم من معجز عيسى عليهما السلام ؛ لأن الموتى لهم أصل في الحياة سابق ، والعصا ليست كذلك .

الطريق الثاني : من طرق القياس العقلي في إثبات المعاد قوله - سبحانه وتعالى : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [ يس : 81 ] ، يعني مثل الكفار ، أي : يعيدهم إلى مثل حالهم الأولى في الابتداء بدليل قوله - سبحانه وتعالى - في الآية الأخرى : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ الأحقاف : 33 ] . فهذا قياس لإحياء الموتى على خلق السماوات والأرض بجامع عظمة الفعلين في العقول أو إمكانهما في المعقول ، وهذا الطريق والذي قبله من باب قياس التنبيه ، وهو أن يكون الحكم في الفرع أجلى وأظهر منه في الأصل ، كقوله - عز وجل : فلا تقل لهما أف [ الإسراء : 23 ] ، إذ كان تحريم الضرب أظهر من تحريم التأفيف ، فكذلك الإعادة أيسر من الإبداء ، وإحياء الموتى أيسر من خلق [ ص: 255 ] السماوات والأرض بدليل قوله - سبحانه وتعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ غافر : 57 ] ابتداء كان على خلقهم إعادة أقدر ، فانظر إلى هذا التقدير ما أبينه وأظهره .

الطريق الثالث من طرق القياس العقلي في إثبات المعاد : قياس إخراج الموتى من الأرض أحياء على إخراج الحب الميت من الأرض حيا ، أو نقول : قياس إعادة الموتى بعد تلاشيهم واستهلاكهم على إعادة الحب بعد تلاشيه واستهلاكه ، وذكر الله - سبحانه وتعالى - ذلك في مواضع كثيرة من القرآن : منها في الأعراف : وهو الذي يرسل الرياح إلى قوله - عز وجل : كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ الأعراف : 57 ] ، وفي سورة ق : أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد إلى قوله - سبحانه وتعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها إلى قوله - عز وجل : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد إلى قوله - عز وجل : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ ق : 3 - 11 ] ، وفي سورة الحج : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب إلى قوله - عز وجل : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير [ الحج : 5 - 6 ] ، فتضمنت هذه الآية قياس الإعادة على ابتداء الخلق ، وعلى إحياء الأرض بالنبات . وفي سورة حم السجدة : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ فصلت : 39 ] ، وفي الم السجدة : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ السجدة : 27 ] ، فقرر الأصل ، ثم نبه [ ص: 256 ] على إلحاق الفرع به بقوله تعالى : ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين [ السجدة : 28 ] ، يعني فتح المؤمنين ونصرهم على الكفار في القيامة ، وذلك مستلزم للمعاد ، وفي أول سورة الروم : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى قوله تعالى : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ الروم : 17 - 19 ] ، وفي آخرها : الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء إلى قوله تعالى : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى ) [ الروم : 48 - 50 ] ، وفي سورة فاطر : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور [ فاطر : 9 ] .

وقد تضمن هذا الطريق نوعين من القياس :

أحدهما : قياس شبهي ، وهو قياس إحياء الأبدان بالأرواح على إحياء الأرض بخضرتها وزهرتها بعد يبسها ومحولها ، والجامع بينهما أن الخضرة والنضارة للأرض تشبه الروح للجسد ، وهذا جامع شبهي لا شك فيه ، وهو مجازي أيضا ؛ لأن الموت حقيقة في الأجسام الحيوانية أو في الذوات الحية ، واستعماله في الأرض والبلد نحو قولنا : أرض ميتة وبلد ميت ، مجاز لما ذكرنا .

النوع الثاني : القياس في معنى الأصل ، وهو قياس جمع الأجسام بعد استهلاكها في الأرض ، وإحيائها بإعادة الأرواح فيها على جمع أجزاء الحب بعد استهلاكه في الأرض ، وإحيائه بإعادة النبات فيه .

واعلم أن الحب إذا صار في الأرض لا يتلاشى بحيث يصير عدما محضا ، [ ص: 257 ] بل ذاته باقية ، لكنها اختلطت بأجزاء الأرض حتى عاد بحيث يتعذر في العادة جمعه على القوة البشرية ، ثم يعرض له بعد ذلك عفن وفساد مزاج ، فإذا أصابه الماء وحرارة الأرض العارضة ، تهيأ للنبات والصلاح بقدرة فالق الإصباح .

أما الأجسام الحيوانية ، فاختلف فيها بناء على الخلاف في الجوهر الفرد ، وهو الجزء الذي لا يتجزأ ، فمن نفاه زعم أن الأجسام تتلاشى ، وتصير عدما محضا ونفيا صرفا ، ومن أثبته وهو قول الأكثرين قال : إن الأجسام تنحل إلى الجواهر المفردة ، ثم عند البعث تلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض ، ثم تعود أجساما كما كانت ، وهذا هو الصحيح المختار ، حتى سمعت بعض مشايخنا يحكي عن بعض مشايخه أنه كان يقول : إن ثبت القول بالجوهر الفرد ، أمكن القول بالمعاد وبعث الأجساد ، وإلا فلا .

قلت : فبهذا يتحقق أن هذا القياس في معنى الأصل ؛ لأن الجسد يفسد مزاجه ، وتتفرق أجزاؤه في الأرض ، ثم يعود حيا حياته التي تليق به ، وهو مستعد لها ، كما أن الحبة في الأرض يفسد مزاجها ، وتتفرق أجزاؤها ، ثم تعود حية حياتها التي تليق بها ، وهي مستعدة لها .

وبالجملة فغالب ما احتج الله - سبحانه وتعالى - به على خلقه ، والأنبياء عليهم السلام على أممهم بالبراهين الجلية والأقيسة العقلية ، وذلك في أصول الديانات التي الخطأ فيها كفر ، فكيف يمتنع القياس في الفروع [ ص: 258 ] التي المخطئ فيها مأجور ! .

ومن نظر فيما نبهت عليه من الأقيسة العقلية في هذه المسائل المذكورة ، ثم أنكر القياس ; فهو إما جاهل أو معاند .

التالي السابق


الخدمات العلمية