صفحة جزء
[ ص: 259 ] الثالث : القياس اعتبار ، والاعتبار مأمور به ، فالقياس مأمور به .

أما الأولى ، فلغوية كما سبق .

وأما الثانية ، فلقوله تعالى : اعتبروا مع قطع النظر عما في سياقه .

الرابع : قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه - لما قال له : إن قبلت وأنا صائم : أرأيت لو تمضمضت ، أرأيت لو كان على أبيك دين ، لو كان على أحدكم دين فقضاه بالدرهم والدرهمين أكان يجزئ عنه ؟ قالوا : نعم ، قال : فالله أكرم ، وأجمع الصحابة على العمل به في الوقائع كتقديمهم أبا بكر في الإمامة العظمى قياسا على تقديمه في الصغرى ، وقياسه الزكاة على الصلاة في قتال الممتنع منها ، وتقديمهم عمر قياسا لعهد أبي بكر إليه على عقدهم إمامة أبي بكر في قضايا كثيرة ، وإجماعهم حجة ، لا يقال : هذه الأخبار آحاد لا يثبت بها أصل ؛ لأنا نقول : هي تواتر معنوي كسخاء حاتم ، وشجاعة علي .


الوجه " الثالث " من أدلة القياس المذكورة في " المختصر " : أن " القياس اعتبار ، والاعتبار مأمور به ، فالقياس مأمور به " .

" أما " المقدمة " الأولى " ، وهي أن القياس اعتبار فهي " لغوية " ، أي : طريق معرفتها اللغة " كما سبق " في أول الكلام على القياس ، وأنه التقدير والاعتبار ، وأيضا فإن الاعتبار مشتق من العبور ، وهو المجاوزة ، ومنه المعبر ؛ لأنه يجاوز بالناس من أحد جانبي البحر إلى الآخر ، وعابر المنام ؛ لأنه يعبر حال المنام إلى ما يشبهه في اليقظة ، وكذلك القياس يجاوز بحكم المنصوص إلى غيره ، ويعبر منه إليه ، فكان القياس اعتبارا بحكم الاشتقاق .

[ ص: 260 ] " وأما " المقدمة " الثانية " وهي أن الاعتبار مأمور به فلقوله تعالى : فاعتبروا ياأولي الأبصار [ الحشر : 2 ] ، أمر بالاعتبار ، والأمر للوجوب ، فيكون الاعتبار الذي منه القياس واجبا .

قوله : " مع قطع النظر عما في سياقه " . هذا دفع لسؤال مقدر ، وهو أن يقال : إن قوله تعالى : فاعتبروا هو في سياق قوله - عز وجل - في وصف الكفار ، وهم قريظة والنضير : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر إلى قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار [ الحشر : 2 ] ، ولا معنى لقول القائل : يخربون بيوتهم ، فقيسوا الأرز على البر في تحريم التفاضل .

ووجه دفع السؤال أن يقال : احتجاجنا بالأمر بالاعتبار مع قطع النظر عما في سياقه من تخريب الديار ، وهذا جواب دافع للسؤال المذكور .

لكن هناك سؤال آخر يفسد الاستدلال بالآية ، وتقريره : أن الأمر بالاعتبار في الآية فعل في سياق الإثبات ، والفعل في سياق الإثبات مطلق لا عموم فيه ، فالتقدير : اعتبروا اعتبارا ما ، وذلك يحصل بفرد من أفراد الاعتبار ، ولا يتعين القياس ، وإنما يصح الاستدلال بها لو كانت عامة ليندرج فيها محل النزاع ، وليس الأمر كذلك ، وغالب الأصوليين خصوصا المتأخرين يحتجون بالآية على إثبات القياس ، وعليها من الإشكال ما قد رأيت .

الوجه " الرابع : قوله " - عليه السلام - : أرأيت لو تمضمضت ؟ ، أرأيت [ ص: 261 ] لو كان على أبيك دين . . إلى آخره .

تقرير هذا الوجه أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - بعده دل على العمل بالقياس ، فروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ، هلكت ، قال : وما ذاك ؟ قال : قبلت وأنا صائم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا جناح أو لا بأس عليك ، أرأيت لو تمضمضت أكنت تفطر ؟ قال : لا ، قال : فمه . وهذا قياس لعدم الإفطار بالقبلة على عدم الإفطار بالمضمضة بجامع عدم حصول المؤثر في الصوم من الفعلين ، وذلك لأن مقصود القبلة المؤثر في الصوم هو خروج الخارج ، وهو المني ، كما أن المؤثر في المضمضة هو ولوج الوالج ، وهو الماء ، وكلاهما لم يحصل .

وكذلك لما قالت المرأة : يا رسول الله ، إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا كبيرا لا يستمسك على الراحلة ، أفيجزئه أن أحج عنه ؟ قال : نعم ، أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحق بالقضاء .

وروى سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين ، قال : أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضينه ؟ قالت : نعم ، قال : فالله أحق متفق عليه ، وصححه الترمذي ، وهذا قياس لدين الله تعالى على دين الآدمي في وجوب القضاء .

وكذلك يروى أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا : يا رسول الله ، يكون [ ص: 262 ] على أحدنا الأيام من رمضان ، أفيجزئه أن يصومها متفرقة ؟ قال : أرأيتم لو كان على أحدكم دين ، فقضاه بالدرهم والدرهمين ، أكان يجزئ عنه ؟ قالوا : نعم ، قال : فالله أكرم يعني بالمسامحة والتخفيف ، وهذا قياس لحق الله تعالى على حق الآدمي في إجزائه متفرقا .

" وأجمع الصحابة على العمل به " ، أي : بالقياس " في الوقائع كتقديمهم أبا بكر في الإمامة العظمى قياسا على تقديمه في الصغرى " ، حيث قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحراب ، فصلى بهم في مرضه ، فقالوا : رضيك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا ؟ !

فإن قيل : لا نسلم أن تقديمه في الخلافة كان بالقياس على تقديمه في الصلاة ، بل بالنص ، وهو قوله - عليه السلام : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر [ ص: 263 ] وعمر ، وقوله للمرأة التي قالت له : إن جئت فلم أجدك يا رسول الله ؟ قال : فائتي أبا بكر ، فهذا نص على إمامته ، ولا حاجة بنا إلى القياس .

قلنا : الجواب من وجهين :

أحدهما : أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه لما طعن ، قيل له : استخلف ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف . فلو كان لهذه الأحاديث أصل أو ثبوت ، لما خفيت عن عمر - رضي الله عنه - في العادة مع كثرة ملازمته رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وحرصه على العلم . ولما استجاز أن يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف ، مع وجود النص على زعمكم ، ولو سلمنا خفاء ذلك عن عمر - رضي الله عنه ، لكن خفاؤه عن الصحابة ممتنع عادة ، وقد كانت دواعيهم متوفرة على استخلاف عمر عليهم ، فلو ثبت النص ، لعرفوه ، ثم لصاروا إليه .

الوجه الثاني : سلمنا صحة الحديثين ، لكن لا دليل فيهما على الإمامة .

أما الأول ، فلأن قوله - عليه السلام : اقتدوا باللذين من بعدي أمر في سياق الإثبات ، فهو مطلق لا عموم له ، فلا يتعين للإمامة ، وقد حصل الوفاء بمطلق الحديث باقتدائهم بهما في الفتاوى والآراء في الحروب وغيرها ، ولعل هذا هو كان المراد بالقدوة ، ولو أراد الاقتداء في الإمامة ، لصرح به ، وإلا كان إيهاما وتلبيسا وتعريضا للأمة بعد للخلاف والاضطراب وفساد الاعتقاد فيمن يكون الخليفة .

[ ص: 264 ] وأما الحديث الثاني ; فقوله : ائتي أبا بكر فليس نصا في الخلافة ، ولو سلمنا أنه نص ، لكنه خبر لا إنشاء تولية ، ولا أمر بها ، وقد يخبر الإنسان بما لا يرضاه ولا يأمر به ، ومن الجائز أنه - عليه السلام - كشف له بوحي أو إلهام أن الخليفة بعده أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - بحكم المقدور السابق ، ولم يوص بالتغيير عليهما بذلك ، ولا يلزم من ذلك رضاه ، كما أنه كشف له في حياته عن قتل الحسين وموت الحسن مسموما ونحو ذلك ، ولم يدل على رضاه ، وأيضا فلو صح هذا الحديث ونحوه ودل على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه ، لما عدل عنه يوم السقيفة إلى الأدلة العامة ، نحو قوله : " الأئمة من قريش " وشبه ذلك مما احتج به ، بل كان صدعهم بالنص الجلي ، وإذا ثبت أنه لا نص على إمامته ، فما ثبت إلا بالقياس .

ومن ذلك قياس أبي بكر - رضي الله عنه " الزكاة على الصلاة في قتال الممتنع منها " بجامع كونهما عبادتين من أركان الإسلام حيث قال : لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، وكذلك " تقديمهم عمر " - رضي الله عنه - للإمامة بعهد أبي بكر " قياسا لعهد أبي بكر - رضي الله عنه - إليه على عقدهم إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - في قضايا كثيرة " مشهورة استعملوا فيها [ ص: 265 ] القياس ، " لا يقال : هذه الأخبار آحاد لا يثبت بها " مثل هذا الأصل الكبير ، " لأنا نقول : هي " وإن كانت آحادا بالنظر إلى أفرادها ، فهي بالنظر إلى مجموعها " تواتر معنوي ، كسخاء حاتم ، وشجاعة علي " ، كما تقرر في باب الإجماع في مثل هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية