صفحة جزء
[ ص: 266 ] الخامس : لولا القياس لخلت حوادث كثيرة عن حكم لكثرتها وقلة النصوص ، لا يقال : يمكن النص على المقدمات الكلية ، وتستخرج الجزئية بتحقيق المناط . نحو : كل مطعوم ربوي ، ثم ينظر : هل هذا مطعوم أو لا ؟ لأنا نقول : مجرد الجواز لا يكفي والوقوع منتف ، إذ أكثر الحوادث لم ينص على مقدماتها ، فاقتضى العقل طريقا لتعميم الحوادث بالأحكام ، وهي ما ذكرنا .

السادس : قول معاذ : أجتهد رأيي ، فصوب لا يقال : رواته مجهولون ، ثم المراد تنقيح المناط ؛ لأنا نقول : روي من طريق جيد وتلقي بالقبول ، والاجتهاد أعم مما ذكرتم .


الوجه " الخامس : لولا القياس ، لخلت حوادث كثيرة عن " أحكام ؛ لكثرة الحوادث ، " وقلة النصوص " ، فلا يوجد في كل حادثة نص يخصها ، ويبين حكمها ، فاحتيج إلى إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه بطريق ظني أو قطعي صيانة لبعض الوقائع عن التعطيل عن حكم شرعي ، " لا يقال : يمكن النص على المقدمات الكلية ، وتستخرج " منها الأحكام " الجزئية بتحقيق المناط " كما سبق في النوع الأول منه ، " نحو " قولنا : " كل مطعوم ربوي ، ثم ينظر هل هذا " الأرز والذرة " مطعوم " فيثبت الحكم فيه ، أو لا فلا ، ونحو : قدر الكفاية واجب ، ثم ينظر هل هذا الرطل قدر الكفاية أم لا ؟ [ ص: 267 ] " لأنا نقول " في جواب هذا السؤال : " مجرد " جواز ذلك ، أعني النص على القواعد الكلية " لا يكفي " في إثباته ، ووقوعه منتف ، " إذ أكثر الحوادث " والوقائع " لم ينص على مقدماتها " ، والجواز لا يستلزم الوقوع ، وحينئذ اقتضى العقل وحكمة الشرع وضع طريق " لتعميم الحوادث بالأحكام . وهي ما ذكرنا " من القياس .

الوجه " السادس : قول معاذ - رضي الله عنه : أجتهد رأيي ، فصوب " .

هذا إشارة إلى الاستدلال بحديث معاذ وهو ما روى شعبة عن أبي عون الثقفي ، عن الحارث بن عمرو وهو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن رجال من أصحاب معاذ - رضي الله عنه - ، وفي رواية عن أناس من أهل حمص عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذا إلى اليمن ، فقال : كيف تقضي ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي ، قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله . رواه أبو داود والترمذي ، وقال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس هو عندي بمتصل .

ووجه الاستدلال به أن معاذا - رضي الله عنه - ذكر أنه يحكم بالقياس ، فصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أي : أخبر بتصويبه وتوفيقه في ذلك ، والنبي - عليه السلام - لا يصوب إلا صوابا ، ولا يقر إلا على حق .

قوله : " لا يقال " ، هذا اعتراض على الحديث بوجهين :

أحدهما : أن " رواته مجهولون " ، وهم رجال من أصحاب معاذ ، أو أناس من أهل حمص ، ورواية المجهول اختلف في العمل بها في جزئيات الفروع ، [ ص: 268 ] فكيف يعمل بها في إثبات هذا الأصل العظيم والقاعدة الكلية من قواعد الدين ؟

الوجه الثاني : أنه لو ثبت ، لم يكن فيه دلالة على استعمال القياس ؛ لأنه لم يصرح بلفظه ، وإنما أتى بلفظ الاجتهاد ، فقال : أجتهد رأيي ، و " المراد " به " تنقيح المناط " كما سبق بيانه .

قوله : " لأنا نقول " ، أي : الجواب عما ذكرتم :

أما عن الوجه الأول ، فلأنا نقول : قد " روي من طريق جيد " ، وهو من طريق عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، فزالت الجهالة عنه ، ولو سلمنا أنه لم يرو من غير طريقه المجهول ، لكن غايته أن يكون مرسلا ، لكن تلقته الأمة بالقبول ، فلا يضره الإرسال .

وأما عن الوجه الثاني : فنقول : لا يصح حمل اجتهاده رأيه على تنقيح المناط من وجهين :

أحدهما : أن الاجتهاد أعم من تنقيح المناط ، فحمله عليه تخصيص يحتاج إلى دليل .

الثاني : أن تنقيح المناط يستدعي أن يكون هناك نص يتنقح المناط فيه كما ذكر في حديث الأعرابي ، ومعاذ - رضي الله عنه - أخبر أنه يجتهد فيما ليس فيه نص كتاب ولا سنة .

واعلم أن هذا جواب قوي متين ، فإن ساعده ثبوت الحديث وصحته ، نهض بالدلالة وإلا فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية