صفحة جزء
[ ص: 269 ] قالوا : ما فرطنا في الكتاب من شيء ، تبيانا لكل شيء فالحاجة إلى القياس رد له ، وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، فردوه إلى الله والرسول ولم يقل : الرأي .

قلنا : المراد تمهيد طرق الاعتبار ، والقياس منها ؛ للإجماع على أنه لم يصرح بأحكام جميع الجزئيات ، وقولكم : ما ليس فيه يبقى على النفي الأصلي يناقض استدلالكم بالعموم ، ثم المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، فلا حجة فيها أصلا . والحكم بالقياس رد إلى الله والرسول ، إذ عنهما تلقينا دليله .

قالوا : براءة الذمة معلومة فكيف ترفع بالدليل المظنون ؟ قلنا : لازم في العموم ، وخبر الواحد ، والشهادة .

قالوا : شأن شرعنا الفرق بين المتماثلات وعكسه ، نحو غسل بول الجارية دون بول الغلام ، والغسل من المني والحيض ، دون المذي والبول ، وإيجاب أربعة في الزنى دون القتل ، ونحوه كثير ; ومعتمد القياس الانتظام .

قلنا : لا نقيس إلا حيث يفهم المعنى ، والخلاف في فهم المعنى مسألة أخرى .


قوله : " قالوا : ما فرطنا في الكتاب من شيء " هذه حجج منكري القياس نذكرها ، وأجوبتها :

أحدها : أنهم قالوا : إثبات الحكم بالقياس مراغمة للقرآن ورد له ، لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] ، وذلك يقتضي أن في [ ص: 270 ] الكتاب كفاية وغناء عن القياس ، وإثبات " الحاجة إلى القياس رد " لذلك . وقال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ المائدة : 49 ] ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ، " ولم يقل " : احكم بينهم بالرأي ، ولا ردوه إلى " الرأي " .

قوله : " قلنا " : هذا جواب الدليل المذكور ، وتقريره أن " المراد " بقوله - عز وجل : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، و تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] من حيث الإجمال " تمهيد طرق الاعتبار " الكلية ، " والقياس " من تلك الطرق ؛ لأن الكتاب دل على الإجماع والسنة بما سبق في الإجماع ، وبقوله - سبحانه وتعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه [ الحشر : 7 ] ، وإجماع الصحابة فمن بعدهم ، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - دلا على القياس ، وإنما قلنا ذلك " للإجماع " منا ومن الخصم على أن الكتاب لم يصرح فيه " بأحكام جميع الجزئيات " على جهة التفصيل والتعيين ، فوجب حمل البيان الكلي فيه على ما ذكرناه من تمهيد طرق الاعتبار الكلية ، وإلا فأين في الكتاب مسألة الجد مع الإخوة ، ومسألة العول ، ومسألة الأكدرية وغيرها من مسائل الفرائض ، وأين فيه مسألة المبتوتة والمفوضة ، ونحوها ، وفي جميع ذلك [ ص: 271 ] لله تعالى حكم شرعي ، ثم إنكم أنتم قد حرمتم القياس ، ولا نص في الكتاب بتحريمه ، وإنما استخرجتموه من أدلة كلية عامة على زعمكم .

قوله : " وقولكم : ما ليس فيه يبقى على النفي الأصلي يناقض استدلالكم بالعموم " هذا إبطال لعذر لهم يعتذرون به عن دليلنا الخامس الذي سبق تقريره ، ولم نذكر هذا العذر في " المختصر " نصا ، لكني نبهت عليه هاهنا بذكر جوابه .

وتقرير ذلك أن منكري القياس لما قيل لهم : لولا القياس ، لتعطلت حوادث كثيرة عن أحكام ؛ لعدم وفاء النصوص القليلة بالحوادث الكثيرة ; أجابوا بما سبق عند تقرير هذا الدليل ، وبعذر آخر ، وهو المشار إليه هاهنا ، وهو أن قالوا : لا نسلم تعطل شيء من الحوادث عن الأحكام ، بل ما ليس منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة يبقى على النفي الأصلي أي : لا حكم له ؛ لأن الأصل عدم الأحكام .

وجوابه ما ذكرناه ، وهو أن هذا الاعتذار يناقض استدلالكم بعموم قوله - سبحانه وتعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء ، تبيانا لكل شيء ؛ لأن ذلك بمقتضى استدلالكم يوجب أن لا حادثة إلا ولها في الكتاب حكم ، فقولكم بعد هذا : " ما ليس فيه يبقى على النفي الأصلي " إثبات ؛ لأن من الحوادث ما لا حكم له في الكتاب ، وذلك عين التناقض .

قوله : " ثم المراد بالكتاب " ، يعني في قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء : " اللوح المحفوظ ، فلا حجة فيها " على محل النزاع " أصلا " ، [ ص: 272 ] لأن النزاع ليس في استيعاب اللوح المحفوظ لجزئيات الموجودات وكلياتها ، إنما النزاع في استيعاب القرآن لذلك ، بحيث يستغنى معه عن القياس ، وذكر ابن عطية في المراد بالكتاب في قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء قولين :

أحدهما : أنه اللوح المحفوظ كما ذكرنا فلا إشكال .

والثاني : أنه القرآن . قال : وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات . قال : وعلى هذا القول ، هو خاص في الأشياء التي فيها منافع المخاطبين وطريق هدايتهم . وذكر في قوله تعالى : تبيانا لكل شيء ، أي : مما يحتاج إليه في الشرع ، ولا بد منه في الملة ، كالحلال ، والحرام ، والدعاء إلى الله تعالى ، والتخويف من عذابه . قال : هذا حصر ما اقتضته عبارة المفسرين .

قلت : وفيه إشارة إلى ما قلناه ، وذلك لأن في جزئيات مسائل الفروع التي تثبت بالأقيسة ما لا ضرورة بتحقق الملة إليه ، بل يحصل اتباع الملة بدونها بل جميع مسائل الفروع تتحقق الملة بدونها ، إذ من أتى بالشهادتين مخلصا مع التزامه أحكام الملة اعتقادا ، ثم لم يأت بفرع من فروع الدين ، كان له حكم المسلمين في عدم الخلود في النار ، وغير ذلك مما يلحق المسلمين ، فدل ذلك على ما ذكرنا من أن المراد بالآية الخصوص .

قولهم : الحكم بالقياس ليس حكما بما أنزل الله ولا ردا إلى الله [ ص: 273 ] والرسول .

قلنا : لا نسلم ، بل " الحكم بالقياس " حكم بما أنزل الله تعالى و " رد إلى الله والرسول ، إذ عنهما تلقينا دليله " ، أي : دليل القياس ، كما سبق تقريره من دلائل الكتاب والسنة .

الحجة الثانية لهم : " قالوا : براءة الذمة " من التكاليف " معلومة " عملا بموجب النفي الأصلي ، والقياس مظنون لأنه إنما يفيد الظن ، " فكيف ترفع " البراءة المعلومة " بالدليل المظنون " ؟

والجواب : إن هذا " لازم " لكم " في العموم ، وخبر الواحد ، والشهادة " ، فإن هذه كلها إنما تفيد الظن ، وقد رفعنا بها البراءة الأصلية باتفاق . وهذا الجواب على جهة المناقضة الجدلية والإلزام . أما التحقيق في الجواب ، فهو أن العلم ليس مشروطا في التكاليف العملية ، بل حصول الظن فيه كاف ثبوتا وزوالا على ما تقرر في نسخ التواتر بالآحاد .

وحينئذ نقول : الكافي في البراءة الأصلية هو الظن ، وله رفع القياس المظنون وغيره من الأدلة المظنونة ، والزيادة على الظن غير معتبرة بوجه من الوجوه ، فوجودها كالعدم . وهذا كما قيل : إن المعتبر في العلل الشرعية هو الطرد دون العكس ، فوجوده كالعدم ، لكنه ترجح به عند التعارض .

الحجة الثالثة : " قالوا : شأن شرعنا الفرق بين المتماثلات وعكسه " يعني الجمع بين المختلفات " نحو : غسل بول الجارية دون بول الغلام ، والغسل من المني والحيض دون المذي والبول " مع استواء ذلك كله في كونه [ ص: 274 ] خارجا من الفرج نجسا ، وإن قلنا بطهارة المني ، قوي الإشكال ، إذ يجب الغسل بخروجه مع طهارته دون المذي والبول مع نجاستهما ، والقياس العكس ، " وإيجاب أربعة " شهود " في الزنى دون القتل " مع إفضائهما إلى القتل فيما إذا كان الزاني محصنا ، وإن كان بكرا قوي الإشكال ، إذ لا زهوق فيه . ومع ذلك يشترط فيه أربعة شهود ، والقتل الذي فيه الزهوق يكتفى فيه بشاهدين ، وكان القياس العكس احتياطا للدماء ، ونحو ذلك كثير ، ككونه فرق في حق الحائض بين قضاء الصوم والصلاة ، وكلاهما عبادة ، وأباح النظر إلى الأمة دون الحرة ، وكلتاهما امرأة محل للشهوة .

وجمع بين المختلفات ، فأوجب جزاء الصيد على من قتله عمدا أو خطأ ، وفرق في التطيب وحلق الشعر بين العمد والخطأ ، وكلها من محظورات الإحرام ، وأوجب الكفارة بالظهار والقتل والإفطار واليمين ، وهي أفعال مختلفة ، ثم غاير بين مقادير كفارتها ، وأوجب القتل على الزاني والقاتل وتارك الصلاة ، والكافر ، وجناياتهم مختلفة ، وقال لأبي بردة في التضحية بالعناق : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك . وقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، مع أن الجميع أناسي مكلفون .

" ومعتمد القياس : الانتظام " ، يعني : اتفاق المعنى في الأصل والفرع ، وإذا كان هذا التفاوت واقعا في الشرع لم نكن على ثقة من انتظام معاني الأصول والفروع حتى يلحق المسكوت عنه بالمنطوق .

[ ص: 275 ] قوله : " قلنا : لا نقيس إلا حيث يفهم المعنى ، والخلاف في فهم المعنى مسألة أخرى " . تقرير هذا أنا لا ننكر وقوع ما ذكرتم في الشرع ، لكنا ما ادعينا عموم وقوع القياس في كل صورة من صوره ، بل حيث فهمنا أن الحكم ثبت لمعنى من المعاني ، ألحقنا به ما وجد فيه ذلك المعنى من الفروع ، كالنبيذ مع الخمر ، والأرز مع البر . ولهذا قلنا : الأحكام إما غير معلل كالتعبدات ، أو معلل كالحجر على الصبي لضعف عقله حفظا لماله ، أو ما يتردد في كونه معللا أولا ، كقولنا : استعمال التراب في غسل ولوغ الكلب هل هو تعبد أم معلل ؟ وخرج على ذلك الخلاف في قيام الأشنان والصابون والغسلة الثامنة مقامه ; إن قلنا : هو تعبد ، لم يقم غيره مقامه ، وإن قلنا : معلل بإعانة الماء على إزالة أثر الولوغ ; قام ذلك مقامه لوجود معنى الإزالة ، وكذلك إن قلنا : هو تعبد ، كفى بالتراب مسماه وإن لم يعم أجزاء محل الولوغ ، وإن قلنا : هو معلل ، اشترط تعميمه به عملا بمقتضى التعليل ، وكذلك غسل اليد عند الوضوء وعند القيام من النوم إن قيل : هو عبادة ، وجبت له النية ، وإن قيل : نظافة ، لم يجب ، ونظائر هذا كثير .

وبالجملة لا نقيس إلا حيث فهمنا المعنى ووجدت شروط القياس ، فأما كون هذه المسألة الخاصة معللة أو غير معللة ; فتلك مسألة أخرى خارجة عما نحن فيه يثبت فيها من الحكم بالتعبد أو التعلل ما قام عليه الدليل .

واعلم أن الجواب المذكور عن الحجة المذكورة إجمالي ، والجواب التفصيلي أن الصور المذكورة فيها كلها أو جلها يمكن التخلص عنه إما بمنع [ ص: 276 ] الحكم من فرق أو جمع بناء على اختلاف المذاهب في ذلك ، أو بإبداء المناسب .

أما غسل بول الجارية دون بول الغلام ، فقد سوى الحسن بينهما في النضح ، وغيره في الغسل ، فلا نرد على ظاهر الخبر ، فقد تكلم العلماء في الفرق بينهما بوجوه :

أحدها : أن آلة بول الغلام بارزة عن سمت بدنه ، والناس أميل إلى حمله ، فيكثر بوله على الناس ، فيشق غسله عليهم ، بخلاف الجارية فإن بولها لا يجاوزها إلى غيرها .

الوجه الثاني : أن يقال : إنه اعتبر بولهما ، فوجد بول الجارية أثقل من بول الغلام ، وذلك مناسب للفرق ، ويؤكد هذا أن مزاج الذكر حار ، ومزاج الأنثى بارد ، فيضعف الهضم ، فتبقى الفضلة كثيفة ، ذات قوام كثيف ، فإذا تعلقت بالأجسام ، كان أثرها محتاجا إلى الغسل بخلاف ذلك في الغلام .

الوجه الثالث : أنه لما افترق مني الذكر والأنثى ناسب افتراق بولهما ، غير أن الأمر في البول عكسه في المني ، إذ مني الذكر غليظ أبيض ، ومني الأنثى رقيق أصفر ، وبول الأنثى أغلظ من بول الذكر ، وهذا تقرير شبهي ، وبالجملة فالحكم فرعي ، وهذه الأوصاف تصلح لتقريره وتقوى عليه .

وأما إيجاب أربعة شهود في الزنى دون القتل ، فقد قررته مبسوطا في " القواعد الصغرى " على وجه لا ينكره عاقل .

وأما الفرق في حق الحائض بين قضاء الصوم دون الصلاة فلكثرة الصلاة [ ص: 277 ] وتكررها ، فيشق قضاؤها دون الصوم ، إذ هو شهر في السنة ، وهذا معنى مناسب للفرق وكونهما عبادة لا يقتضي استواؤهما في ذلك .

وأما إباحة النظر إلى الأمة دون الحرة ، فهو على إطلاقه ممنوع ؛ إذ النظر إليهما بشهوة حرام إذا لم يكن زوجا أو سيدا . وأما لغير شهوة ، فيجوز من الأمة إلى ما يظهر منها غالبا في حال المهنة والخدمة ؛ لأن ذلك من شأنها ، فالتحرز من النظر إليه يشق ، كما قيل في وجه الحرة وكفيها لذلك ، والنظر إلى وجهها لحاجة الشهادة عليها ، وإلى غير وجهها أيضا لحاجة العلاج ؛ لأن اجتناب ذلك يورث مشقة منتفية شرعا ، وهو الفرق من باب الاستحسان الشرعي ، وإلا فالقياس عدم الفرق بين الحرة وغيرها ، لكن ما ذكرناه مناسب لثبوت هذا الاستحسان .

وأما قتل الصيد عمدا أو خطأ ; فمن العلماء من فرق بينهما ، وهو ظاهر النص والقياس ، فلا يرد ، ومنهم من سوى بينهما في وجوب الضمان تغليبا لمعنى إتلاف حق الآدمي فيه ، وذلك لا فرق فيه بين العمد والخطأ إقامة لرسم العدل كما سبق في أول الكتاب ، وذلك لأن قتل الصيد متردد بين حق الله تعالى ، وحق الآدمي ، فمن حيث إن قتله ارتكاب لما نهى الله - عز وجل - عنه هو حق له - سبحانه وتعالى ، ومن حيث إن جزاءه مصروف إلى الآدمي هو حق له ، وهذا هو المأخذ في الفرق والجمع في قتل الصيد ، ثم إن من قال بالفرق فيه ، لم يرد عليه الفرق في التطيب وحلق الشعر ؛ لأن الكل عنده سواء في الفرق بين العمد والخطأ ، ومن فرق بين التطيب والحلق دون قتل الصيد غلب فيه إتلاف حق الآدمي وفيهما حق الله - عز وجل - ، على أن [ ص: 278 ] جميع ذلك مختلف فيه بين القياسين ، والخلاف في القياس مع جميعهم ، فللمجتهد منهم أن يلتزم الفرق في الجميع ، أو التسوية في الجميع ، فيسقط عنه السؤال .

وأما إيجاب الكفارة بأسبابها المذكورة ، فأبو حنيفة - رحمه الله - منع جريان القياس فيها لاختلاف أسبابها ومقاديرها ، وأجازه في غيرها . ومن أجرى القياس في الكفارات ، فإنما أجراه حيث غلب على ظنه مناط الحكم ، ووجدت شروط القياس . وهذا هو الجواب الإجمالي الذي سبق ، مع أن الكفارة إما جبران أو عقوبة ، والظاهر أن الشارع علم أن كفارة كل واحد من هذه الأسباب يكافئه جبرا أو زجرا ، فشرعها فيه ؛ لأنه عدل ، وهذا من العدل ، وكذلك الكلام في وجوب قتل الزاني والقاتل ونحوه مع اختلاف جناياتهم ، فيحمل الأمر على أن مفسدة أدنى هذه الجنايات توجب القتل ، وسقط الزائد من المفسدة فيما فوقه من الجنايات تفضلا أو تعذرا ؛ إذ لا عقوبة وراء القتل ، مع أنا لا نسلم اتحاد كيفية القتل فيهم ، بل القاتل يفعل به كما فعل بموجب العدل الذي دلت عليه النصوص ، والزاني إن كان بكرا ، فلا قتل عليه ، بل عليه الجلد والتغريب ، فإن مات في الجلد ، فزهوقه غير مقصود للشرع ، وإن كان ثيبا ، فيجلد ، ويرجم حتى يموت ، وفي ذلك من الألم والتعذيب أضعاف ما في القتل بالسيف ؛ لأن جنايته أعظم من جناية القتل ، وجناية الكافر ، وإن كانت أعظم ; غير أن القتل بالكفر حق لله تعالى فيفضل بترك [ ص: 279 ] زيادة التعذيب والمثلة بالرجم ونحوه .

والقتل بالزنى ، إما حق الآدمي ؛ لأن الجناية عليه بهتك العرض ، وتضييع النسب ، أو أنه حق مشترك غلب فيه حق الآدمي لذلك فجعل كفئا لسببه .

وأما حديث أبي بردة - رضي الله عنه : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك فقد بينت وجهه عند ذكر الحديث في " مختصر " الترمذي ، ولم أنشط هاهنا لتقريره .

وأما قوله - سبحانه وتعالى : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، فإن فضيلة الأنبياء عليهم السلام على غيرهم معلومة بالاضطرار ، وذلك مناسب لتخصيصهم بما شاء الله - عز وجل - أن يكرمهم به ، وكونهم جميعا أناسي مكلفين لا يوجب التسوية بينهم في كل حكم ، ولا يمنع تفضيل بعضهم على بعض ، ولو ساغ ذلك ، للزم القدح في النبوات بأن يقال : كل الناس أناسي فكيف يختص بالمعجز النبي ؟ . وهذه شبهة الكفار حيث قالوا : ما أنتم إلا بشر مثلنا [ يس : 15 ] ، أبشرا منا واحدا نتبعه [ القمر : 24 ] ، ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ المؤمنون : 34 ] .

فإن قيل : المعجز والنبوة موهبة من الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام ، خصوا بها بحكم الإرادة الإلهية ، فإن قلتم في أحكام الشرع المختصة بمحالها دون نظائرها كذلك ، صح ما قلناه من بطلان القياس .

قلنا : النبوة موهبة لغير معنى أو لمعنى مناسب ، الأول ممنوع ، والثاني [ ص: 280 ] مسلم ، وبه يتم مقصودنا ، وذلك أن الله تعالى إنما وهب النبوة لأهلها لما اختصوا به على باقي العالم من زيادة الخير ، والصلاح ، والطاعة ، والعبادة ، وتزكية النفوس ، واكتساب الفضائل ، واجتناب الرذائل ، وإن كان ذلك بتوفيق الله - عز وجل - ، بدليل قوله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، [ الأنعام : 124 ] وسائر ما مدح به الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم .

وإذا ثبت أن اختصاصهم بالنبوة لمعنى مناسب له ، فكذلك الأحكام المذكورة ، خصت بأحكامها لمعنى مناسب .

فإن قيل : لكن أنتم تقولون : إذا فهمنا المعنى المناسب أو المؤثر غير المناسب ، ألحقنا به ما في معنى محله ، كإلحاق النبيذ بالخمر ، فهل نقول : إن المعنى المناسب للاختصاص بالنبوة في الأنبياء إذا وجدتموه في آحاد الناس تلحقونه في إثبات النبوة ؟ إن قلتم : نعم ، فلا قائل به ، وإن قلتم : لا ، فما الفرق ؟

قلنا : إن القياس مدرك ظني تثبت به الأحكام ، وإثبات النبوة حكم قطعي ، وهو أصل لقواطع الشرائع وظنياتها ، فلا يثبت بالقياس حتى لو كان أمر النبوة ظنيا ، أو كان القياس مدركا للنبوة قطعيا ، لأثبتناها به ، ولهذا لما كان المعجز بشروطه دليلا على ثبوت النبوة في شخص ما ، عدينا حكم الاستدلال به إلى غيره ، فمن ظهر المعجز على يده فقلنا مثلا : إنما ثبت كون موسى - عليه السلام - نبيا لظهور المعجز على يده ، وقد ظهر المعجز على يد عيسى [ ص: 281 ] ومحمد عليهما السلام ، فدل على صحة نبوتهما ، لما كان هذا الاستدلال قاطعا ثبت بمثله النبوة القاطعة .

ومما يورد من نظائر هذه الصور على القياس أن العجوز الشوهاء القبيحة المنظر تحصن من شاء الله تعالى من الأحرار على البدل ، ومن شاء الله من الإماء الحسان لا تحصن آدميا واحدا .

والجواب أن هذا ممنوع عند بعض العلماء ، منهم مالك - رحمه الله - وهو من القياسين ، فيسقط السؤال ، ومن التزمه أبدى فرقا مناسبا عنده ، وهو نقص الرق وكان شبهة في درء الحد وهو تكلف ، إذ ليس مؤثرا ، والصواب رأي مالك ، ولو لم يقل به مالك ، لجاز للمجتهد التزامه ، إذ لا نص في نفيه ولا إجماع .

ومن ذلك قولهم : لم قطع سارق القليل دون غاصب الكثير ، وهو أحوج إلى الردع ؟

والجواب : أن الغصب فعل ظاهر ، ولا يخلو كل إقليم عن سلطان يكف ظلم الظالم ، وينصف المظلوم ، إما تقربا إلى الله - عز وجل - بالعدل ، أو حياطة للملك وسياسة له ، وذلك دافع لمفسدة الغصب منعا أو قطعا ، بخلاف السرقة فإنها فعل خفي لا يطلع عليه السلطان ، فوضع له الشرع زاجر القطع ، إذ بدون ذلك لا تزول المفسدة ، والله تعالى أعلم .

وأما وجوب الغسل في خروج المني دون البول ، فذكر بعض الأطباء له معنى مناسبا إن تحقق ، ولا أستطيع الآن تحقيقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية