صفحة جزء
[ ص: 282 ] قالوا : لو أراد الشارع تعميم المحال بالأحكام لعمها نصا ، نحو : الربا في كل مكيل ويترك التطويل .

قلنا : هذا تحكم عليه كقول من حرم الملاذ : وفعلها لا يضره ، ثم لعله أبقى للمجتهدين ما يثابون بالاجتهاد فيه .

قالوا : كيف يثبت حكم الفرع بغير طريق ثبوته في الأصل .

قلنا : من يثبت الحكم في محل النص بالعلة لا يرد هذا عليه ، ومن يثبته بالنص يقول : القصد الحكم ، لا تعيين طريقه ، فإذا ظن وجوده اتبع بأي طريق كان .

قالوا : غاية العلة أن تكون منصوصة ، وهو لا يوجب الإلحاق ، نحو : أعتقت غانما لسواده ، لا يقتضي عتق كل أسود من عبيده .

قلنا : وكذا لو صرح ، فقال : قيسوا عليه كل أسود ، فليس بوارد ، بخلاف قول الشارع : حرمت الخمر لشدتها فقيسوا عليه كل مسكر ، ثم بين الشارع وغيره فرق يدرك بالنظر .


الحجة الرابعة : " قالوا : لو أراد الشارع تعميم المحال بالأحكام ، لعمها نصا ، نحو " قوله : " الربا في كل مكيل " أو في كل مطعوم أو مقتات . " ويترك التطويل " بأن ينص على تحريمه في ستة أشياء بدون بيان علته فيها ، ثم يوقع الناس بعده في الاختلاف الطويل العريض في استخراج علة الربا بتخريج المناط ، فلما لم ينص على تحريم تعميم المحال بأحكامها ، دل على أنه لم يرد تعميمها ، وإنما أراد منها ما نص عليه ، وأحال الباقي على تحقيق [ ص: 283 ] المناط ، أو على تنقيحه ، أو البقاء على النفي الأصلي .

والجواب : أن " هذا تحكم " على الشارع ، وتحجر عليه ، وهو شبيه بقول المباحية الذين قالوا : لا فائدة في تحريم الملاذ كالزنى والشرب ونحوه ، إذ " فعلها لا يضره " ، وهو ينفع الناس . وقد ثبت باتفاقنا أن في ذلك حكمة الامتحان والابتلاء ، فكذلك عدم تعميمه المحال بالأحكام تنصيصا له فيه حكمة ، فلعله أبقى للمجتهدين مجالا في الأحكام يثابون بالاجتهاد فيه ، ولو عم محال الأحكام بها ، لم يبق لهم مجال في ذلك ، إذ لو قال : كل مكيل ربوي ، لثبت الحكم في الأرز بالنص ، ولم يحتج فيه إلى اجتهاد المجتهد .

الحجة الخامسة : " قالوا : كيف يثبت حكم الفرع بغير طريق ثبوته في الأصل ؟ " وذلك لأن حكم الأصل ثابت بالنص ، كتحريم الخمر بالنص على تحريمها ، وحكم الفرع ثابت بالإلحاق كتحريم النبيذ ، فالحكم واحد ، والطريق مختلف ; فكيف يصح هذا ! .

والجواب : أن الناس اختلفوا في ثبوت الحكم في الأصل ، هل هو بالعلة التي هي المعنى المشار إليه من النص ، أو بنفس النص ؟ فمن أثبت " الحكم في محل النص بالعلة " لم يرد هذا السؤال عليه ؛ لأنه إنما أثبت الحكم في الفرع والأصل بطريق واحد ، وهو معنى الإسكار مثلا في الخمر والنبيذ . ومن أثبته في الأصل بالنص ، قال : المقصود ثبوت الحكم لا تعيين طريقه بكونه نصا أو قياسا ، أو نصا في الأصل قياسا في الفرع ؛ لأن الطريق وسيلة ، والحكم مقصد ، ومع حصول المقصد لو قدر عدم الوسائل ، لم يضر [ ص: 284 ] فضلا عن اختلافها . وهذا كمن قصد مكة - شرفها الله تعالى - أو غيرها من البلاد لا حرج عليه من أي جهة دخلها .

الحجة السادسة : " قالوا : غاية العلة أن تكون منصوصة ، وهو " يعني النص عليها " لا يوجب الإلحاق " ، يعني إلحاق الفرع بالأصل ، " نحو " قول القائل : " أعتقت غانما لسواده ، لا يقتضي عتق كل أسود من عبيده " ، وإذا لم يقتض النص على العلة الإلحاق فالإيماء والإشارة التي تستخرج العلة منها بالاستنباط وعليها مدار أكثر الأقيسة أولى أن لا يقتضيه .

والجواب : أن هذا لا ينفع الخصم ؛ لأنه لو صرح بالقياس في العتق ، لم يتعد الوصف ، فلو قال : أعتقت غانما لسواده ، و " قيسوا عليه كل أسود " ; لما جاز عتق السودان بالقياس ؛ لما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى . ولو قال : " حرمت الخمر لشدتها ، فقيسوا عليه كل مسكر " ; لصح الإلحاق والتعدية ، واتجهت التسوية عند أكثر منكري القياس ، وهم القاشانية والنهروانية ، وإذ بين البابين هذا الفرق ، فكيف يصح إلزام أحدهما على الآخر ، على أن من العلماء من ذهب إلى أنه إذا قال : أعتقت هذا العبد لسواده ، يصح الإلحاق ، فيعتق عليه كل أسود .

نعم اختلفوا في اشتراط نية العتق مع ذلك ، وعلى هذا التقدير فالسؤال غير وارد ، والحكم ملتزم في البابين ، وهذا هو مقتضى اللغة ، فإنه لو قال : لا تأكل هذه الحشيشة لأنها سم ، أو : لا تأكل الإهليلج ؛ لأنه مسهل ، أو : لا تجالس فلانا ؛ لأنه مبتدع ; فهم من ذلك التعدية ، واجتناب كل سم ومسهل ومبتدع ، وإنما منع من طرد ذلك في حقوق الآدميين عند الأكثرين التعبد ، ثم إن الخصم مناقض لنفسه ، إذ احتجابه هاهنا بالقياس ؛ لأنه قاس بطلان [ ص: 285 ] القياس في أحكام الشرع على بطلانه في حقوق الآدميين ، فإن صح احتجاجه بالقياس هاهنا ، فلم لا يصح الاحتجاج به مطلقا ؟ وإن لم يصح احتجاجه به ، لم يقدح في احتجاجنا بالقياس ، وأيضا إذا اعتقد الخصم صحة الاحتجاج في أصل كبير وهو بطلان القياس ، فلم لا يصح احتجاجنا في الفروع اليسيرة الخطب ؟ .

قوله : " ثم بين الشارع وغيره فرق يدرك بالنظر " : بيان هذا الفرق أن أحكام الشرع مناط ثبوتها الظن توسيعا لمجاري التكليف ، وحقوق الآدميين لا تنقل عنهم إلا بطريق قاطع ; إما احتياطا لحقوقهم لما اختصوا به من الحاجة والفقر الموجب لتضييق الأمر في حقوقهم ، أو لأن حقوقهم في الأصل ملك لله - عز وجل ، فتعبد في زوالها بالطريق القاطع ، وأثبت التكاليف الشرعية بالطرق المظنونة ، ولله - سبحانه وتعالى - أن يفعل في ملكه ما يشاء .

ومن الفرق بين البابين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل بحضرته شيء ، فأقر عليه ، استفيد من ذلك رضاه به بشرطه لحصول الظن بذلك ، ولو أن شخصا باع مال إنسان بحضرته بأضعاف قيمته ، فسكت ، ولم ينكر ، بل أظهر الاستبشار والفرح ; لم يصح البيع حتى يصرح بالإيجاب ، أو يعلم رضاه أو يوكل فيه ، فعلم بذلك أن الشرع في حقوق المخلوقين ضيق غاية التضييق بخلاف أحكام الشرع .

فإن قيل : هذا يلزمكم في بيع المعاطاة ، فإن التراضي في البيع شرط بالنص ، وهو أمر باطن خفي ، ولم تعتبروا له صيغة الإيجاب والقبول ، كما قاله الشافعي - رحمه الله تعالى - فهذا حق آدمي قد أزلتموه عنه بغير طريق [ ص: 286 ] قاطع .

فالجواب : لا نسلم أنه غير قاطع ، بل المعاطاة تقترن بها قرائن تدل على الرضا قطعا ، وهي ثابتة بين الأمة على توالي الأعصار في سائر الأقطار .

التالي السابق


الخدمات العلمية