صفحة جزء
[ ص: 287 ] قالوا : لا قياس في الأصول ، فكذا في الفروع .

قلنا : ممنوع بل في كل منهما قياس بحسب مطلوبه قطعا في الأول وظنا في الثاني ، ثم هو قياس ، فإن صح صح مطلقه ، وثبت القياس ، وإلا بطل ما ذكرتم .

واعلم : أنه قد صح في ذم القياس والرأي والحث عليهما أحاديث كثيرة صحيحة صريحة ، وطريق الجمع بينهما حمل الذامة على حال وجود النص والحاثة على حال عدمه .


الحجة السابعة : " قالوا : لا قياس " ، أي : القياس ممتنع " في الأصول " ، فليكن ممتنعا " في الفروع " .

والجواب : أن هذا " ممنوع ، بل في كل منهما " ، أي : في كل واحد من أصول الدين وفروعه " قياس بحسب مطلوبه قطعا في الأول " يعني في الأصول " وظنا في الثاني " يعني في الفروع ؛ لأن المطلوب في الأصول القطع وفي الفروع الظن ، فيعتبر أن يكون القياس في الأصول قطعيا ، ويكفي أن يكون في الفروع ظنيا ، ثم إن هذا قياس منهم لامتناع القياس في الفروع على امتناعه في الأصول على زعمهم ، فإن صح استدلالهم بالقياس هاهنا وجب أن يصح مطلق القياس في سائر الأحكام ، وإن لم يصح قياسهم هاهنا ، بطل ما ذكروه من الاستدلال على إبطال القياس .

" واعلم أنه قد صح في ذم القياس والرأي والحث عليهما " ، أي : استعمال [ ص: 288 ] القياس والرأي ، " أحاديث كثيرة صحيحة صريحة ، وطريق الجمع بينهما " أي : بين قسمي أحاديث ذم القياس والحث عليه " حمل الذامة " ، أي : هو أن تحمل الأحاديث الدالة على ذم القياس على ما إذا كان هناك نص ، وتحمل الأحاديث الدالة على الحث عليه على ما إذا لم يكن هناك نص ، احترازا من تناقض الدليل الشرعي ، ويشبه هذا ما ورد في السنة من مدح الشاهد قبل أن يستشهد وذمه ، فحمل الذم على ما إذا كان صاحب الحق يعلم به ، ويعلم أن له به بينة ، إذ في المبادرة بالشهادة - والحالة هذه - نوع تكلف وفضول ، وربما اتهم الشاهد على المشهود عليه ، كما حكي أن رجلا حضر ليشهد عند الحاكم بحق ، فقال له الحاكم : أتشهد بهذا الحق ؟ قال : نعم ، وأحلف ، وأخاصم ، قال : فمن هاهنا ما تقبل شهادتك .

وهذه الأحاديث التي أشرت إليها هي في كتاب " أدب الفقيه والمتفقه " للخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى - ذكرها بأسانيدها من الطرفين ، وهي وافية بالمقصود من إثبات القياس وفوق المقصود ، ولم يكن الكتاب عندي الآن حتى أثبتها هاهنا ، وأيضا آثرت الاختصار .

والفرق بين الرأي والقياس أن الرأي أعم من القياس ، والرأي على ضربين : رأي محض لا يستند إلى دليل ، فذلك المذموم الذي لا يعول عليه ، ورأي يستند إلى النظر في أدلة الشرع من النص ، والإجماع ، والاستدلال ، والاستحسان وغيره مما ذكرناه من الأدلة المتفق عليها أو المختلف فيها . ولهذا يقال : هذا رأي أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد عن كل [ ص: 289 ] حكم صار إليه أحدهم ، سواء كان مستنده فيه القياس أو دليل غيره ، والقياس هو ما ذكرنا حده ، وهو اعتبار غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه ، وهو أخص من الرأي كما أن الاستحسان أخص من القياس .

واعلم أن أصحاب الرأي بحسب الإضافة هم كل من تصرف في الأحكام بالرأي ، فيتناول جميع علماء الإسلام ؛ لأن كل واحد من المجتهدين لا يستغني في اجتهاده عن نظر ورأي ، ولو بتحقيق المناط وتنقيحه الذي لا نزاع في صحته .

وأما بحسب العلمية ، فهو في عرف السلف علم على أهل العراق ، وهم أهل الكوفة ، أبو حنيفة ومن تابعه منهم ، وإنما سمي هؤلاء أهل الرأي ، لأنهم تركوا كثيرا من الأحاديث إلى الرأي والقياس ; إما لعدم بلوغهم إياه ، أو لكونه على خلاف الكتاب ، أو لكونه رواية غير فقيه ، أو قد أنكره راوي الأصل ، أو لكونه خبر واحد فيما تعم به البلوى ، أو لكونه واردا في الحدود والكفارات على أصلهم في ذلك ، وبمقتضى هذه القواعد لزمهم ترك العمل بأحاديث كثيرة حتى خرج أحمد - رحمه الله تعالى - فيما ذكره الخلال في " جامعه " نحو مائة أو خمسمائة حديث صحاح خالفها أبو حنيفة ، وبالغ بعضهم في التشنيع عليه حتى صنف كتابا في الخلاف بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي حنيفة ، وكثر عليه الطعن من أئمة السلف حتى بلغوا فيه مبلغا ولا تطيب النفس بذكره ، وأبى الله إلا عصمته مما قالوه ، وتنزيهه عما إليه نسبوه .

[ ص: 290 ] وجملة القول فيه : أنه قطعا لم يخالف السنة عنادا ، وإنما خالف فيما خالف منها اجتهادا لحجج واضحة ، ودلائل صالحة لائحة ، وحججه بين الناس موجودة ، وقل أن ينتصف منها مخالفوه ، وله بتقدير الخطأ أجر ، وبتقدير الإصابة أجران ، والطاعنون عليه إما حساد ، أو جاهلون بمواقع الاجتهاد ، وآخر ما صح عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - إحسان القول فيه ، والثناء عليه . ذكره أبو الورد من أصحابنا في كتاب " أصول الدين " والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية