صفحة جزء
[ ص: 291 ] أركان القياس ما سبق .

فشرط الأصل ثبوته بنص ، وإن اختلفا فيه ; أو اتفاق منهما ولو ثبت بقياس ، إذ ما ليس منصوصا ولا متفقا عليه لا يصح التمسك به لعدم أولويته ، ولا يصح إثباته بالقياس على أصل آخر ؛ لأنه إن كان بينه وبين محل النزاع جامع ، فقياسه عليه أولى ، إذ توسيط الأصل الأول تطويل بلا فائدة ، وإلا لم يصح القياس لانتفاء الجامع بين محل النزاع وأصل أصله .

وقيل : يشترط الاتفاق عليه بين الأمة ، وإلا لعلل الخصم بعلة تتعدى إلى الفرع ، فإن ساعده المستدل فلا قياس ، وإلا منع في الأصل فلا قياس ، ويسمى : القياس المركب ، نحو : العبد منقوص بالرق فلا يقتل به الحر كالمكاتب ، فيقول الخصم : العبد يعلم مستحق دمه بخلاف المكاتب ، إذ لا يعلم مستحق دمه : الوارث أو السيد ، ورد : بأن كلا منهما مقلد لإمامه ، فليس له منع ما ثبت مذهبا له ، إذ لا يتعين مأخذ حكمه ، ولو عرف فلا يلزم من عجزه عن تقريره فساده ، إذ إمامه أكمل منه ، وقد اعتقد صحته ، ولأنه يفضي إلى تعطيل الأحكام لندرة المجمع عليه .


قوله : " أركان القياس ما سبق " .

لما ثبت بالدليل صحة القياس وكونه دليلا شرعيا ; وجب القول في أركانه ، وشروطه ، وما يتعلق به ، فأركانه ما سبق في أوله ، وهي الأصل ، والفرع ، والعلة ، والحكم . وقد مر الكلام على بيان حقائقها وماهياتها ، والكلام هاهنا في بيان شرائطها ومصححاتها .

" فشرط الأصل " - يعني الحكم في محل النص - أمور : [ ص: 292 ] أحدها : أن يكون الأصل ثابتا " بنص ، وإن اختلفا " - يعني الخصمين - في الأصل ، " أو اتفاق منهما " على ثبوته إذا دل عليه النص ، فإن وافق عليه الخصم ، ثبت الأصل بالنص والاتفاق ، وإن لم يوافق عليه ، فالنص واف بإثباته ، وهو حجة على الخصم . وإنما اشترط ثبوت الأصل ؛ لأنه ينبني عليه الفرع ، ويلحق به ، وما لا ثبوت له لا يتصور بناء غيره عليه ، وإنما اشترط إذا لم يكن منصوصا عليه أن يكون متفقا عليه بينهما ليكون غاية ينقطع عندها النزاع ؛ لأن الأصل إذا كان مختلفا فيه فالمعترض كما ينازع في الفرع ينازع في الأصل .

مثال ما ثبت بالنص قولنا : إذا اختلف المتبايعان والسلعة تالفة ، تحالفا ؛ لأنهما متبايعان اختلفا ، فوجب أن يتحالفا ، كما إذا كانت السلعة قائمة ، والحنفية يمنعون الحكم في الأصل ، وهو التحالف عند قيام السلعة على رأي لهم ، فيدل عليه قوله - عليه السلام : إذا اختلف المتبايعان تحالفا أو ترادا ، والتراد ظاهر في بقاء العين ، على أن في بعض الروايات : إذا اختلف البيعان والسلعة قائمة . وكذلك نقول في غسل ولوغ الخنزير : حيوان نجس ، فيغسل الإناء من ولوغه سبعا قياسا على الكلب ، فإن منعوا الحكم في ولوغ الكلب ، دللنا عليه بالحديث الصحيح المشهور فيه .

ومثال ما ثبت بالاتفاق قياس النبيذ على الخمر ، والأرز على البر ، والقتل بالمثقل على القتل بالمحدد ، وهو كثير .

قوله : " ولو ثبت بقياس " ، أي : إذا كان الأصل متفقا عليه ، حصل [ ص: 293 ] المقصود ، ولو كان ثبوته بالقياس ، وهو قول بعض أصحابنا ؛ لأنه لما ثبت صار أصلا بنفسه ، فجاز القياس عليه كالمنصوص والمجمع .

مثاله : أن يقول : قد اتفقنا على تحريم الربا في الأرز قياسا على البر بجامع الكيل ، فيحرم في الذرة قياسا على الأرز ، لكن هذا يفضي إلى العبث المذكور ، وينافي قولنا بعد : إن الأصل لا يصح إثباته بالقياس ، وسيأتي الكلام هناك في تحقيق هذا إن شاء الله تعالى .

قوله : " إذ ما ليس منصوصا ولا متفقا عليه لا يصح التمسك به لعدم أولويته " . هذا توجيه لاشتراط كون حكم الأصل ثابتا بنص أو اتفاق ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك ، لم يكن بكونه أصلا مقيسا عليه بأولى من أن يكون فرعا مقيسا على غيره ؛ لأنه إنما اختص بكونه أصلا لثبوته في نفسه والاتفاق عليه ، فإذا لم يحصل له هذه الخاصة ; لم يكن بالأصالة أولى من الفرع .

قوله : " ولا يصح إثباته بالقياس على أصل آخر " إلى آخره ، أي : لا يصح إثبات الأصل المقيس عليه بقياسه على أصل آخر ، وإن شئت ، قلت : لا يصح أن يكون فرعا لأصل آخر .

مثاله : أن يقيس الذرة على الأرز المقيس على البر ، فلا يصح ؛ لأنه إن كان بين ذلك الأصل الآخر الذي قاس عليه وهو البر هاهنا وبين محل النزاع - وهو الذرة - جامع ، فقياس محل النزاع على ذلك الأصل الآخر البعيد وهو البر أولى ؛ لأن توسيط الأول الذي قاس عليه محل النزاع ، وهو الأرز [ ص: 294 ] " تطويل بلا فائدة " ، إذ عوض ما نقول : يحرم التفاضل في الذرة قياسا على الأرز ، وفي الأرز قياسا على البر ، فلنقل : يحرم التفاضل في الذرة قياسا على البر ، إذ توسيط الأرز في البين عبث ، " وإلا " ، أي : وإن لم يكن بين الأصل الآخر الثاني ، وبين محل النزاع جامع ، " لم يصح القياس " ، كما لو قاس الذرة على الأرز ، والأرز على الحديد ، " لانتفاء الجامع بين محل النزاع " وهو الذرة ، " وأصل أصله " وهو الحديد ، الذي جعله أصلا للأرز ، الذي هو أصل الذرة .

وكذلك لو قال المستدل في اشتراط النية للوضوء : عبادة ، فيفتقر إلى النية كالتيمم ، فلو منع الحكم في التيمم ، فأثبت الحكم فيه قياسا على الصلاة ، فإن جمع بين التيمم والصلاة بكونهما عبادة ، قلنا : فقس الوضوء على الصلاة بجامع العبادة ، ولا حاجة إلى توسيط التيمم ، وإن جمع بينهما بكون التيمم طهارة ، لم يصح القياس ؛ لأن الصلاة ليست طهارة ، والجامع بينهما منتف .

واعلم أنا قد ذكرنا قبل هذا بيسير أن الأصل يجوز أن يثبت بالقياس ، وهاهنا ذكرنا أنه لا يجوز ، وهما قولان لأصحابنا ، والقول بعدم الجواز هو المشهور لإفضاء القول بالجواز إلى العبث المذكور ، ولا يمكن أن يخرج للقول بالجواز فائدة إلا أن يكون الأصل ثابتا بقياس شبهي ، ومحل النزاع يلحق به بقياس جلي بحيث يكون محل النزاع بأصله أشبه منه بالأصل [ ص: 295 ] البعيد ، كما لو جعلنا علة الفضة الوزن والثمنية جميعا ، وقسنا عليه الحديد قياسا شبهيا لاشتراكهما في الوزن ، ثم قسنا الصفر أو الرصاص ونحوه على الحديد ، لكن هذا أيضا لا جدوى له ، إذ القياس الجلي بين محل النزاع وأصله وهما الصفر والحديد مستند إلى قياس ضعيف شبهي ، وهو قياس الحديد على الفضة ، فلنسترح من هذا التكليف ، ولنجزم ببطلان كون الأصل ثابتا بالقياس .

قوله : " وقيل : يشترط الاتفاق عليه " ، أي : على الأصل " بين الأمة " ، ولا يكفي الاتفاق بين الخصمين عليه ، " وإلا لعلل الخصم " ، أي : وإن لم يكن الأصل مجمعا عليه بين الأمة ، جاز أن يعلل الخصم المعترض الأصل " بعلة لا تتعدى إلى الفرع ، فإن ساعده المستدل " على ذلك ، انقطع القياس ، " فلا قياس " لعدم المعنى الجامع بين الأصل والفرع ، وإن لم يساعده المستدل على التعليل بذلك ، بل علل بعلة متعدية إلى الفرع ، منعه المعترض علة الأصل ، وقال : لا نسلم أن العلة في الأصل هذه العلة المتعدية إلى محل النزاع ، بل هذه التي لا تتعدى إليه ، فينقطع القياس أيضا ، " ويسمى القياس المركب " لما سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر الأسئلة الواردة على القياس .

مثاله : أن يقاس العبد على المكاتب في عدم قتل الحر به قصاصا ، [ ص: 296 ] فيقال : العبد منقوص بالرق ، فلا يقتل به الحر كالمكاتب ، " فيقول الخصم " المعترض : " العبد يعلم مستحق دمه " وهو السيد " بخلاف المكاتب " ، أي : لا نسلم أن علة امتناع القصاص في المكاتب كونه منقوصا بالرق ، بل كونه لا يعلم من هو المستحق لدمه هل وارثه أو سيده الذي كاتبه ؟ لأنه بالكتابة صار فيه شيئا بين الحرية والرق ، وذلك ظاهر في أحكامه ، فبتقدير أن يؤدي يعتق ، ويكون مستحق دمه وارثه كسائر الأحرار ، وبتقدير أن لا يؤدي يعود رقيقا ، ويكون مستحق دمه سيده كسائر العبيد ، فإن سلم المستدل أن العلة في المكاتب هي عدم العلم بمستحق دمه كما قال المعترض ، امتنع قياس العبد عليه ؛ لأن مستحق دمه معلوم ، وإن لم يسلم أن العلة ذلك بل هي نقص الرق ، منع المعترض أن ذلك هو العلة في المكاتب ، بل هي ما ذكره ، أو منع الحكم فيه ، فيقول : سلمت أن العلة في المكاتب نقص الرق ، لكن لا أسلم امتناع القصاص بينه وبين الحر ، فالأمر دائر بين منع العلة في المكاتب أو منع الحكم .

ومن هذا الباب لو قيل في قتل المرتدة : إنسان بدل دينه ، فيقتل كالمرتد ، فيقول الخصم : لا أسلم أن العلة في قتل المرتد تبديل الدين ، وإنما هي جناية على المسلمين بتنقيص عددهم ، وإعانة عدوهم عليهم ، وهذا ليس موجودا في المرأة ، إذ ليست من أهل الإعانة والنكاية ، فلا [ ص: 297 ] يصح إلحاقها بالمرتد ، فإن سلمت هذه العلة ، انقطع الإلحاق ، وإن لم تسلمها ، فما تقبل العلة في الأصل أو الحكم ، وهذا بخلاف ما إذا كانت العلة مجمعا عليها بين الأمة ، إذ لا يسوغ للخصم الخروج عنها والتعليل بغيرها .

قلت : وحاصل المنع المذكور يرجع إلى الفرق بين الأصل والفرع ، كما فرق بين الحر والعبد بمعرفة المستحق وعدمه ، وبين المرتد والمرتدة بوجود النكاية وعدمها .

قوله : " ورد " ، إلى آخره ، أي : ورد اشتراط كون الحكم مجمعا عليه بأن المحذور اللازم من عدمه لا يلزم ، وإذا لم يلزم من عدم الإجماع على الأصل محذور ; لم يكن إلى اشتراطه ضرورة ، وإنما قلنا : إن المحذور المذكور وهو تعليل الخصم بعلة لا تتعدى إلى الفرع إلى آخر ما قررتموه لا يلزم بوجهين :

أحدهما : أن كلا من المستدل والمعترض " مقلد لإمامه ، فليس له منع ما ثبت مذهبا له " أي : لإمامه ؛ لأنه إن لم يتعين مأخذ إمامه في الحكم ، فليس له أن يمنع مذهبه على الجهالة ، " ولو عرف " مأخذ إمامه ، لكن " لا يلزم من عجزه عن تقرير " مذهب إمامه " فساده " ؛ لاحتمال أن ذلك لقصوره عن تقريره ، و " إمامه أكمل منه ، وقد اعتقد صحته " ، فلعله لم يثبت الحكم في الفرع لانتفاء شرط ، أو وجود مانع ، لا لعدم العلة التي ذكرها المستدل في الأصل .

[ ص: 298 ] ومثاله : أن أبا حنيفة لم يمنع من قتل المرتدة ؛ لكون العلة في المرتدة ليست بتبديل الدين ، بل لأن المرأة وجد فيها نص خاص عنده منع من قتلها ، وهو قوله - عليه السلام : نهيت عن قتل النساء ، فهو من باب تخصيص العموم ، والعلة في قوله : من بدل دينه فاقتلوه فليس للحنفي أن يقول للحنبلي أو الشافعي : إن سلمت أن علة قتل المرتد إعانة العدو وإلا منعت قتله ، مع أن قتله مذهب لإمامه .

وحاصل الأمر أن المعترض إن زعم أن منعه على مذهب إمامه ، فالأمر بخلافه ، والفرض أنه كذلك ، أي : أنه منع ما ثبت مذهبا لإمامه ، أما لو منع على مذهب إمامه منعا صحيحا ، مثل أن قيل له : جلد الميتة نجس ، فلا يطهر بالدباغ كجلد الكلب ، فمنع حكم الأصل جاز ؛ لأنه مذهب إمامه ، وإن منع على غير مذهب إمامه لم يجز ؛ لأنه إنما تصدى لتقريره ، فكيف يعدل عنه ، بل يكون بذلك منقطعا ؛ لأنه منتقل ، ثم لو ساغ ذلك ، لما تمكن أحد الخصمين من إفحام خصمه غالبا ؛ لأنه متى ألزمه حكما ، منعه على مذهبه أو مذهب غيره ممن خالف فيه ، فكان ينعكس مقصود المناظرة ؛ إذ هي طريق وضعت لإظهار الحق باختصار ، وفتح هذا الباب يوجب التطويل والشغب وتضييع الحق .

الوجه الثاني : أن اشتراط الإجماع على حكم الأصل " يفضي إلى تعطيل الأحكام " ، ويمنع التوصل إلى إظهارها " لندرة المجمع عليه " من ذلك .

[ ص: 299 ] قلت : وهاهنا وجه آخر في نفي المحذور المذكور ، وهو : أن المعترض إذا نازع في العلة ، أمكن المستدل أن يقررها بطريقها ، ويثبت علته المتعدية في الأصل ، ثم يحققها في محل النزاع ، إذ لا فرق بين إثبات العلة في الأصل ، وبين حكم الأصل بالنص إذا خالف فيه الخصم ، وقد سبق أنه يجوز .

التالي السابق


الخدمات العلمية