صفحة جزء
[ ص: 300 ] وقيل : لا يقاس على أصل مختلف فيه بحال ؛ لإفضائه إلى التسلسل بالانتقال ، ورد : بأنه ركن فجاز إثباته بالدليل كبقية الأركان .

وأن لا يتناول دليل الأصل الفرع وإلا لاستغني عن القياس .

وأن يكون معقول المعنى ، إذ لا تعدية بدون المعقولية .


قوله : " وقيل : لا يقاس على أصل مختلف فيه بحال ، لإفضائه إلى التسلسل بالانتقال " ، يعني أنه إذا قاس على أصل مختلف فيه ، منعه الخصم ، فإن أثبته المستدل بقياس آخر ، جاز أن يكون مختلفا فيه أيضا ، فيمنعه الخصم ، ويفضي إلى الانتقال من مسألة إلى أخرى ، وينتشر الكلام ، ويتسلسل ، وإن أثبت الأصل بدليل غير القياس ، فربما كان ذلك الدليل مختلفا فيه كالمرسل والمفهوم ونحوه فيفضي إلى مثل ذلك .

قوله : " ورد " ، أي : ورد هذا القول بأن الأصل " ركن " من أركان القياس ، " فجاز إثباته " عند النزاع فيه " بالدليل كبقية " أركانه من علة وحكم وغيرهما ، والانتقال من مسألة إلى مسألة إذا عاد بثبوت محل النزاع ، لم يمنع ؛ لأن المقصود إثباته ، وهما ساعيان فيه بتقرير مقدماته ، فهما بمثابة من يضرب اللبن ، ويعمل الطين ليبني جدارا ، وإنما ينكر هذا القاصرون الذين قلت موادهم ، فيرتبطون في محل النزاع لا يخرجون عنه ، ويسمونه انتشارا في الكلام وتفريقا له ، وليس كذلك . انتهى الكلام على الشرط الأول من شروط الأصل .

[ ص: 301 ] الشرط الثاني : أن لا يكون دليل الأصل متناولا للفرع ، إذ لو تناول دليل الأصل الفرع ، لكان ثابتا بالنص ، واستغنى عن القياس .

مثاله : لو قاس السفرجل على البر في تحريم الربا بجامع الطعم ، ثم استدل على أن العلة في البر الطعم بقوله - عليه السلام : لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل فإن هذا النص يتناول السفرجل ، فقياسه على البر تطويل ، وكذلك لو قاس الذمي على المعاهد في عدم العلة في الأصل بقوله - عليه السلام : لا يقتل مؤمن بكافر ، فإن هذا النص يتناول الصورتين ، فهو قياس منصوص على منصوص ، فلا يصح كقياس البر على الشعير ، والدراهم على الدنانير .

الشرط الثالث : " أن يكون " الأصل " معقول المعنى ، إذ لا تعدية بدون المعقولية " ، أي : ما لا يعقل معناه ، لا يمكن القياس فيه ؛ لأن القياس تعدية حكم المنصوص عليه إلى غيره ، وما لا يعقل ، لا يمكن تعديته ، كأوقات الصلوات ، وعدد الركعات ، فلو قال قائل : الصبح إحدى الصلوات المكتوبة ، فوجب أن تكون أربعا كالعصر ، أو ثلاثا كالمغرب ، لم يصح ذلك ؛ لأن كون الظهر أو المغرب صلاة ليس هو المقتضي لكونها أربعا أو ثلاثا ، بل هذا تقدير شرعي لا نعقله . هذا الذي ذكر في " المختصر " من شروط الأصل .

وقد ذكر الآمدي في " المنتهى " أن شروط حكم الأصل تسعة : [ ص: 302 ] أحدها : أن يكون شرعيا ، إذ لو لم يكن شرعيا ، لكان الحكم المتعدي إلى الفرع غير شرعي ، فلا يكون الغرض من القياس الشرعي حاصلا . قال النيلي في " شرح جدل الشريف " : فلو لم يكن حكم الأصل شرعيا بأن كان عقليا أو لغويا ، لما أفاد حكما شرعيا ، ولا عقليا ، ولا لغويا ؛ لأن اللغة لا تثبت قياسا على المذهب الصحيح ، وكذلك الحقائق العقلية .

مثاله : لو قال : شراب مشتد ، فأوجب الحد كما أوجب الإسكار ، أو كما وجب تسميته خمرا ، فإن إيجابه الإسكار أمر معقول ، وتسميته خمرا أمر لغوي ، وإيجاب الحد أمر شرعي ، فلا يصح قياسه عليه . قال : وتظهر فائدته فيما إذا قاس النفي على النفي ، فإذا لم يكن المقتضي موجودا في الأصل ، كان الحكم نفيا أصليا ، والنفي الأصلي ليس من الشرع ، فلا يقاس عليه النفي الطارئ الذي هو حكم شرعي .

قلت : معنى كون النفي الأصلي ليس من الشرع أنه لم يحدث بعد وجود الشرع ، بل هو قبله ، فلا يكون منه ، كما قالت المعتزلة في الإباحة : ليست حكما شرعيا لثبوتها قبل الشرع ، وليس المراد أن النفي ليس دليلا شرعيا حيث يحتاج إليه .

الشرط الثاني : أن يكون دليل ثبوت حكم الأصل شرعيا ، إذ غير الشرعي لا يفيد الحكم الشرعي ؛ لأن الحكم نتيجة الدليل ، والنتيجة من جنس المنتج ، فلو قال : العالم مؤلف ، وكل مؤلف محدث ، فالخمر حرام ، لم يصح ؛ لأن المقدمتين عقليتان ، والنتيجة حكم شرعي .

[ ص: 303 ] الشرط الثالث : أن يكون ثابتا غير منسوخ ، لأن حكم الفرع متوقف على حكم الأصل ، فلو نسخ ، لبطل ، فيمتنع بناء حكم الفرع عليه .

الشرط الرابع : أن يكون حكم الأصل مما يقول به المستدل لتكون العلة معتبرة على أصله .

الشرط الخامس : أن لا يكون حكم الأصل معدولا به سنن القياس بأن يكون غير معقول المعنى ، ولا نظير له في الشرع لتعذر التعدية . وذكر الغزالي أن هذا الكلام مجمل يحتاج إلى تفصيل ، وذكر تفصيله وأطال فيه .

قلت : وذلك التطويل مستغنى عنه بأن يقال : ما عدل به عن سنن القياس إن لم يعقل معناه يصلح أن يكون مقصودا للشارع لكونه مناسبا لتحصيل مصلحة ، أو دفع مفسدة ، ووجد ذلك المعنى في محل آخر ، وغلب على ظن المجتهد جواز القياس ، فلا مانع منه .

الشرط السادس : أن يقوم الدليل على تعليل حكم الأصل ، وعلى جواز القياس عليه . وحكى الغزالي الأول عن عثمان البتي ، والثاني عن قوم .

قال الآمدي : وهو مختلف فيه ، والحق أنه إنما يشترط الدليل العام على ذلك ، لا في كل أصل بخصوصه .

الشرط السابع : أن لا يكون الأصل فرعا لأصل آخر . قال : وهو مذهب أصحابنا والكرخي ، خلافا للحنابلة وأبي عبد الله البصري .

قلت : هذا الشرط ذكر في " المختصر " ، وبينا أن القول بجواز إثبات [ ص: 304 ] الأصل بالقياس قول بعض أصحابنا ، وأن الصحيح خلافه .

وبقي مما ذكروه شرطان آخران :

الاتفاق على حكم الأصل ، وأن لا يتناول دليله الفرع . وقد ذكرا في " المختصر " . وقال - أعني الآمدي في " جدله " : شروط الأصل منها ما يرجع إلى حكمه ، ومنها ما يرجع إلى علته .

وللقسم الأول شروط ستة :

الأول : أن يكون شرعيا .

الثاني : أن لا يكون متعبدا فيه بالعلم ، لأن القياس لا يفيد إلا الظن ، وحينئذ يتعذر القياس .

قلت : وهذا فيه نظر ، إذ لا يمتنع أن يكون حكم الأصل مقطوعا به ، ثم تعدى إلى غيره بجامع شبهي ، فيكون حصوله في الفرع مظنونا ، وليس من ضرورة القياس أن يكون حكم الفرع مساويا لحكم الأصل ، إذ قد نصوا على التفاوت بينهما ، وإن حكم الفرع تارة يكون مساويا وتارة يكون أقوى ، وتارة أضعف . هذا إن كان القياس شبهيا ، وإن كان قياس العلة ، فنحن لا نقيس إلا إذا وجدت علة الأصل في الفرع ، وإذا وجدت فيه ، أثرت مثل حكم الأصل ، فيكون مقطوعا أيضا ، وكذلك قياس الدلالة ؛ لأن الدليل يفيد وجود المدلول ، فدلالة علة الأصل إذا وجدت في الفرع ، دلت على وجود العلة إذا كان تعليل الأصل قطعيا فيه ، فصار كقياس العلة .

والصحيح في هذا ما قاله الإمام فخر الدين : إذا كان تعليل الأصل قطعيا [ ص: 305 ] ووجود العلة في الفرع قطعيا ، كان القياس قطعيا متفقا عليه .

قلت : وإذا جاز ذلك ، جاز ورود التعبد بالقياس بالقطع . وحينئذ لا يكون ما ذكره الآمدي شرطا .

الشرط الثالث : أن لا يكون معدولا به عن القياس ، إذ القياس عليه غير ممكن ، وذلك على ضربين :

أحدهما : ما ورد غير معقول المعنى ، سواء كان مستثنى عن قاعدة عامة كتخصيص خزيمة بكماله ببينة عن قاعدة الشهادة ، أو كان مبتدأ به من غير استثناء كالمقدرات من الحدود ، والكفارات ، ونصب الزكوات ، وأعداد الركعات .

الضرب الثاني : ما ورد الشرع به ولا نظير له معقولا أو غير معقول ، كاللعان والقسامة وضرب الدية على العاقلة وجواز المسح على الخفين ، فهذان الضربان منه لا يمكن القياس عليهما لعدم العلة ، أو لعدم النظير .

الشرط الرابع : أن يكون متفقا عليه بين الخصمين أو بين جميع علماء الأمة كما سبق ، واختار في " المنتهى " أن المعترض إن كان مقلدا ، لم يشترط الإجماع ، إذ ليس له منع ما ثبت مذهبا لإمامه كما سبق ، وإن كان مجتهدا ، اشترط الإجماع ؛ لأن المجتهد ليس مرتبطا بإمام ، فإذا لم يكن الحكم مجمعا عليه أو منصوصا عليه ، جاز له أن يمنعه في الأصل ، فيبطل القياس ، أو بتعين علة لا تتعدى إلى الفرع كما سبق في سؤال التركيب . وهذا اختيار حسن جدا ، لكن وقوعه بعيد .

[ ص: 306 ] الشرط الخامس : أن يكون طريق إثباته شرعيا .

الشرط السادس : أن لا يكون منسوخا ، وإلا فالعلة المستنبطة منه تكون لاغية .

قال : وقد اشترط له قوم شرطين آخرين :

أحدهما : قيام الدليل على وجوب تعليله . الثاني : قيام الدليل على جواز القياس عليه . قال : وهما فاسدان . وقرر فيه نحو ما سبق في " المنتهى " وأنهم إن أرادوا قيام الدليل الظني الإجمالي العام على ذلك ، فهو حق ، وإلا فلا .

أما القسم الثاني : وهو الشروط الراجعة إلى علة الأصل فستة أيضا :

أحدها : أن يكون طريق إثباتها شرعيا كالحكم .

الشرط الثاني : أن تكون ظاهرة جلية ، وإلا لم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساوية له في الخفاء .

قلت : الذي يظهر من كلامه أن العلة يجب أن تكون في الأصل أظهر منها في الفرع .

وقول الأصوليين : القياس في معنى الأصل يقتضي استواء حالتها في المحلين .

الشرط الثالث : أن تكون مطردة بحيث يساويها الحكم أين وجدت ، وذكر كلاما طويلا موضعه عند تخصيص العلة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .

الشرط الرابع : أن تكون متحدة في الأصل ، أي : لا يكون معها فيه علة [ ص: 307 ] أخرى ، وذكر كلاما طويلا موضعه عند ذكر تعليل الحكم بعلتين . وسيأتي إن شاء الله تعالى .

الشرط الخامس : أن تكون مضبوطة بحيث لا تتخلف عنها حكمتها التي هي غاية إثبات الحكم ومقصوده ، وإلا فهي باطلة ، كمن ضبط حكمة القصاص وهي الصيانة عن التفويت بالجرح فقط ، إذ يلزم منه وجوب القصاص على من جرح ميتا مع تيقن عدم الحكمة المطلوبة .

الشرط السادس : أن العلة إن كانت مستنبطة فشرطها أن لا تعود بإبطال ما استنبطت ، كما إذا استنبط من وجوب الشاة في الزكاة دفع حاجات الفقراء ، وسد خلاتهم ، فإن ذلك يوجب ترك النص المستنبط منه بتجويز أداء القيمة في الزكاة ، وإنما اشترط ذلك لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح ، إذ الظن المستفاد من النص أقوى من المستفاد من الاستنباط .

وقد ذكرت لك في حكم الأصل عبارات مختلفة يتكرر بعضها قصدا لإيضاح المذكور باختلاف العبارات ، فإنه محصل لذلك ، وذكرت شروط العلة مع شروط الأصل وإن كان موضعها في " المختصر " فيما بعد ؛ لأني ذكرت معنى كلامه على نحو ترتيبه ، وسأحيل على ما ذكرته هاهنا عند شروط العلة إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية