صفحة جزء
[ ص: 313 ] وشرط الفرع وجود علة الأصل فيه ظنا إذ هو كالقاطع في الشرعيات ; وشرط قوم تقدم ثبوت الأصل على الفرع ؛ إذ الحكم يحدث بحدوث العلة ، فلو تأخرت عنه لصار المتقدم متأخرا .

والحق اشتراطه لقياس العلة دون قياس الدلالة لجواز تأخر الدليل عن المدلول كالأثر عن المؤثر ; بخلاف العلة عن المعلول ; أما العلة الشرعية فهي علامة ومعرف ، ومن شرطها أن تكون متعدية فلا عبرة بالقاصرة وهي ما لا توجد في غير محل النص كالثمنية في النقدين ، وهو قول الحنفية ، خلافا للشافعي وأبي الخطاب وأكثر المتكلمين .


قوله : " وشرط الفرع وجود علة الأصل فيه ظنا " إلى آخره .

اعلم أن الكلام السابق إلى هاهنا هو في الأصل وحكمه ، والكلام هاهنا هو في الفرع نفسه على ترتيب أصل " المختصر " ، وشرطه " وجود علة الأصل فيه " ، وإلا لم يكن فرعا له ؛ لأن تعدي الحكم إليه فرع تعدي العلة لما سبق من أن العلة أصل في الفرع ، ولا يشترط أن يكون وجودها في الفرع مقطوعا به ، بل تكفي فيه غلبة الظن ؛ لأنه كالقطع في الشرعيات فيما يتعلق بترتب الأحكام الشرعية ، بناء على أن المقصود فيها هو القدر المشترك بين الظن والقطع ، فإن اتفق لنا حكم شرعي مقطوع به ، فما زاد عن القدر المشترك فيه تفضل من الله سبحانه علينا ، إذ حصل لنا اليقين في ذلك الحكم ، فصار الظن في الشرعيات كالقطع في العقليات من حيث إن كل واحد منهما يحصل [ ص: 314 ] مقصوده في بابه .

قوله : " وشرط قوم تقدم ثبوت الأصل على الفرع " ، إلى آخره .

هذا شرط آخر للفرع اشترطه قوم ، وفيه تحقيق يأتي قريبا إن شاء الله تعالى ، ومعناه أن شرط الفرع أن يكون حكم الأصل ثابتا قبله ؛ لأن حكم الفرع يحدث بحدوث علة الأصل المتعدية إليه ، فلو تأخر حكم الأصل عن الفرع ، لتأخرت العلة عنه أيضا ؛ لأنها ملازمة للأصل ، ولو تأخر ثبوت العلة عن الفرع ، لصار المتقدم في الثبوت متأخرا وهو محال .

قال الآمدي : ولأن العلة في الأصل لا تكون إلا بمعنى الباعث ، فلو تأخر الباعث عن حكم الفرع ، لكان ثبوته قبله إما بغير باعث ، أو بباعث آخر ، ويلزم تعليل الحكم بعلتين ، وهو ممتنع ، ولو صح تعليل الحكم بعلتين ، لكن إنما يصح ذلك إذا لم يتقدم بعض العلل لما فيه من تحصيل الحاصل .

قوله : " والحق اشتراطه لقياس العلة " إلى آخره ، أي : والتحقيق أنه إنما يشترط تقدم ثبوت الأصل على الفرع في قياس العلة " دون قياس الدلالة " ، وسيأتي تحقيقهما إن شاء الله تعالى .

والفرق بينهما في ذلك أن العلة لا يجوز تأخرها عن المعلول ، لئلا يلزم وجوده بغير علة أو بعلة غير العلة المتأخرة ، والدليل يجوز تأخره عن المدلول ، كالعالم دليل على الصانع القديم ، وهو متأخر عنه ، وكل أثر كالدخان ونحوه متأخر عن مؤثره كالنار ، وهو دليل عليه . وما ذكره الآمدي من [ ص: 315 ] أن العلة لا تكون إلا بمعنى الباعث ممنوع ، بل هي معرف كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والمعرف أعم من أن يكون باعثا أو غيره ، اللهم إلا أن يقال : بأن العلة باعث بالإضافة إلى الشارع ، معرف بالإضافة إلى المكلفين ، كما قيل : إن العلة البدنية عرض بالإضافة إلى المريض ، دليل بالإضافة إلى الطبيب ، فحينئذ يستقيم ما قال ; وامتناع تعليل الحكم بعلتين ممنوع ، لكن ما ذكره من تحصيل الحاصل لا جواب عنه ، ومن أمثلة ذلك قياس الوضوء في اشتراط النية على التيمم مع تأخر مشروعية التيمم عن الوضوء .

قوله : " أما العلة الشرعية ، فهي علامة ومعرف " .

هذا الكلام في العلة ، وهي أحد أركان القياس ، وهي علامة لثبوت الحكم ومعرف له .

قال البزدوي في " المقترح " : وللعلة أسام في الاصطلاح ، وهي السبب ، والأمارة ، والداعي ، والمستدعي ، والباعث ، والحامل ، والمناط ، والدليل ، والمقتضي ، والموجب ، والمؤثر .

قلت : أما تسميتها سببا ، فلأنها طريق إلى معرفة الحكم ، وهو يثبت عند وجودها ؛ لأنها إنما المثبت لها الشارع .

وأما تسميتها أمارة فظاهر ؛ لأن الأمارة - بفتح الهمزة - العلامة ، والعلة الشرعية علامة على ثبوت الحكم . قال الشاعر :


إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فسلمي



[ ص: 316 ] أي : علامة تسليمي .

وأما تسميتها داعيا ومستدعيا ، فلأنها تدعو الشارع إلى وضع الحكم عند وجودها ، وتستدعي ذلك لمصلحة المكلف في معاشه ومعاده ، وكذلك هي الباعث له والحامل على ذلك .

ومعنى كونها مناطا كما سبق بيانه ، وهو أن الحكم يناط بها أي : يعلق . ومعنى كونها دليلا ظاهر ، وهو أنها إذا وجدت في محل ، دلت على ثبوت الحكم المعلق عليها فيه ، كالإسكار في النبيذ ، والكيل في الأرز .

ومعنى كونها موجبا ومؤثرا هو أنها توجب معرفة ثبوت الحكم ، وتؤثر في معرفته ؛ للقطع بأن الموجب له ، والمؤثر إنما هو الشارع .

وفرق بعضهم بين الأصل والفرع ، فقال : يجوز أن تكون العلة أمارة في الفرع ، ولا بد أن تكون فيه بمعنى الباعث لوجهين :

أحدهما : أنه لا فائدة للأمارة سوى تعريفها للحكم ، وهو في الأصل معرف بالنص ، فإن لم يكن في العلة معنى الباعث ، خلت عن فائدة .

الثاني : أنها مستنبطة من حكم الأصل ، فهي فرع عليه كما سبق ، فلو توقفت معرفته عليها ، لزم الدور .

والفرق بين الباعث والأمارة المحضة : هو أن الباعث يكون مناسبا لحكمه ، ومقتضيا له على وجه يحصل من اقتضائه إياه مصلحة ; بحيث يصح في عرف العقلاء أن يقال : إنما فعل كذا لكذا ، كقولنا : إنما قتل المرتد لتبديله الدين ، أو تقليل عدد المسلمين ، أو إعانة الكافرين ، وإنما وجب الحد بشرب الخمر لإفساده العقل ، بخلاف الأمارة المحضة كزوال الشمس [ ص: 317 ] وطلوع الهلال ؛ إذ لا يناسب أن يقال : وجبت الصلاة لأن الشمس زالت ، والصوم لأن الهلال ظهر ، وإن صح ذلك في التخاطب العرفي ، لكنه من جهة الاستدلال ، لا من حيث التعليل ، أي : زوال الشمس وطلوع الهلال دليل على وجوب الصلاة والصوم ، لا علة لهما ، وكذلك الأسباب الموجبة للتعبدات كأسباب الحدث للوضوء ، هي أمارات ، لا بواعث لعدم المناسبة ، وربما جاء في هذا كلام فيما بعد إن شاء الله تعالى .

قوله : " ومن شرطها " ، أي : ومن شرط العلة " أن تكون متعدية " يعني لمحل النص إلى غيره ، كالإسكار والكيل والوزن والطعم ، " فلا عبرة بالقاصرة ، وهي ما لا توجد في غير محل النص ، كالثمنية في النقدين " ، أي : كونهما أثمان الأشياء في الأصل ، فإن هذا مختص بهما ، قاصر عليهما " وهو " أي : عدم اعتبار العلة القاصرة " قول الحنفية خلافا للشافعي ، وأبي الخطاب ، وأكثر المتكلمين " .

قال الآمدي : ذهب الشافعي ، وأحمد ، والقاضي أبو بكر ، والقاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصري ، وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى صحة العلة القاصرة . وذهب أبو حنيفة ، والكرخي ، وأبو عبد الله البصري إلى إبطالها .

قلت : والخلاف إنما هو في القاصرة المستنبطة . أما المنصوصة أو المجمع عليها ، فاتفقوا على صحتها ؛ لأنها حكم المعصوم واجتهاده .

التالي السابق


الخدمات العلمية