صفحة جزء
[ ص: 318 ] الأول : العلة أمارة ، والقاصرة ليست أمارة على شيء ؛ ولأن الأصل يمنع العمل بالظن ، ترك في المتعدية لفائدتها ، ففي القاصرة على الأصل لعدمها .

الثاني : التعدية فرع صحة العلية ، فلو عللنا العلية بالتعدية لزم الدور ؛ ولأن التعدية ليست شرطا للعقلية والمنصوصة ففي المستنبطة أولى ، وكونها ليست أمارة على شيء ممنوع ; بل هي أمارة على ثبوت الحكم بها في محل النص ، أو كونه معللا لا تعبدا ، وعدم العمل بالظن ممنوع ؛ إذ مبنى الشرع عليه ، وأكثر أدلته ظنية ، وعدم فائدتها ممنوعة ؛ إذ فائدتها معرفة تعليل الحكم ، والنفس إلى قبوله أميل .


قوله : " الأول " أي : احتج الأول في " المختصر " وهو القائل بإبطالها بوجوه :

أحدها : أن " العلة " الشرعية " أمارة " أي : علامة على الحكم ، والعلة " القاصرة ليست أمارة على شيء " ؛ لأن الحكم في الأصل ثبت بالنص ، فيبقى التعليل بها عريا عن فائدة ؛ إذ فائدتها إما إثبات الحكم في الأصل ، وهو باطل بما قلنا ، أو في غيره ، وهو غير حاصل لقصورها ؛ إذ الثمنية ليست موجودة في غير النقدين لتتعدى إليه .

الوجه الثاني : أن " الأصل " ينفي " العمل بالظن ، ترك " ذلك " في المتعدية لفائدتها " بالتعدي إلى غير محلها " ففي القاصرة " تبقى " على الأصل " في عدم العمل بها . وهذان الوجهان في " المختصر " .

الثالث : أن القاصرة لا فائدة فيها لعدم تعديها ، وما لا فائدة فيه لا يرد [ ص: 319 ] الشرع به ، فالقاصرة لا يرد الشرع بها ، فلا تكون معتبرة .

قوله : " الثاني " أي : احتج الثاني وهو القائل باعتبارها بوجهين :

أحدهما : أن تعدية العلة فرع عليتها ، أي : فرع كونها علة ؛ لأنه إذا ثبت كونها علة في الأصل عديت إلى الفرع ، فلو عللت عليتها بتعديتها " لزم الدور " ؛ لتوقف كونها علة على كونها متعدية ، وكونها متعدية على كونها علة ، لكن الدور باطل ، فالمفضي إليه باطل ، وحينئذ لا يجوز تعليل عليتها بتعديتها ، وحينئذ يجوز اعتبارها مع كونها قاصرة ، وهو المطلوب .

الوجه الثاني : أن " التعدية ليست شرطا للعقلية " أي : للعلة العقلية " والمنصوصة " مع قوتها " ففي المستنبطة أولى " أن لا يشترط لضعفها .

قلت : ويمكن الاعتراض على الوجه الأول بأنا لا نعلل العلية بالتعدية ، بل نجعل التعدية فائدة العلية لا علة لها ، فلا يلزم الدور ، فلا نقول : إنما كان الوصف علة لتعديه ، بل نقول : فائدة كونه علة تعديه إلى غير محله ، فإذا انتفت فائدته ، ألغيناه لعدم فائدته ، لا لعدم علته ، وفرق بين انتفاء الشيء لعدم علته ، وانتفائه لعدم فائدته ؛ لأن العلة هي المؤثرة في الوجود ، والفائدة غاية الوجود ، وجهتها مختلفة ، فلا دور .

والاعتراض على الوجه الثاني من وجهين :

أحدهما : أنه لا يلزم من عدم اشتراط التعدية للعقلية والمنصوصة أن لا يشترط للمستنبطة ؛ لقيام الفرق من جهة أن العقلية موجبة مؤثرة ، وإنما يظهر [ ص: 320 ] تأثيرها في محلها لا يتجاوزه ، بخلاف الشرعية ، فإنها أمارة معرفة ، والتعريف لا يختص بمحل المعرف ، وأيضا فالقياس بالتعدية إنما يفيد الظن ، ولا مدخل له في العقليات . ويرد على هذا أن قياس العلة في العقليات يفيد القطع ، فإن العلة إذا كان ثبوتها في الأصل ووجودها في الفرع قاطعا كان القياس قاطعا ، عقلية كانت أو شرعية كما سبق ، بل إذا كان قاطعا في الشرعية ، ففي العقلية أولى .

وأما المنصوصة ، فهي ثابتة بالنص ، فثبتت قوتها به ، واستغنت عن قوة التعدي ، بخلاف المستنبطة .

الوجه الثاني في الاعتراض : أن قولهم : إذا لم يشترط التعدية في العقلية والمنصوصة ، ففي غيرهما أولى ، كلام فاسد الوضع ، والذي ينبغي العكس ؛ لما ذكرنا من استغناء العقلية والمنصوصة عن التعدي لقوتهما وافتقار المستنبطة إليه لضعفها .

قوله : " وكونها ليست أمارة على شيء ممنوع " ، هذا جواب المصححين للقاصرة عن دليل المبطلين لها . وبيانه أنا نقول : قولكم : " القاصرة ليست أمارة على شيء " ، فلا تكون مفيدة " ممنوع ، بل هي أمارة على ثبوت الحكم بها في محل النص " على قول من يقول : إنه في محل النص ثابت بها ، أو على كون الحكم " معللا لا تعبدا " عند من يرى أن الحكم في الأصل ثابت بالنص لا بها ، فعلى التقديرين لا تخلو عن فائدة .

[ ص: 321 ] وأما قولهم : الأصل عدم العمل بالظن ، فممنوع أيضا في الشرعيات ، لأن مبنى الشرع على غلبة الظن ، ولهذا كانت " أكثر أدلته ظنية " كالعموم ، والظواهر ، وخبر الواحد ، والقياس ، فلو كان الأصل عدم العمل بالظن فيه; لكان أكثره واقعا على خلاف الأصل ، وذلك خلاف الأصل ، إذ الأصل في الفنون جريان جميعها أو أكثرها على وفق الأصل ، وإنما يمتنع العمل بالظن في المطالب القطعية والأحكام العقلية ، لكن الكلام ليس في ذلك .

قولهم : القاصرة عديمة الفائدة .

قلنا : لا نسلم ، بل " فائدتها معرفة تعليل الحكم " أي : إنه معلل لا تعبد ، والنفس إلى قبول الأحكام المعللة أميل ، وإليها أسكن ، وهي بتصديقها أجدر لحصول الطمأنينة ، إذ كل عاقل يجد من نفسه فرقا بين قبولها نقض الوضوء بأكل لحم الجزور ، وبين نقضه بمس الفرج ، لأن فيه مخيلا مناسبا للحكم ، وهو كونه محل خروج الخارج الناقض بالنص . ولهذا اشترط بعضهم في مسه أن يكون بشهوة ليصير مظنة لوجود الخارج المناسب .

قال الغزالي : نحن أولا نقيم الدليل على صحة العلة بطريقة من إيماء أو مناسبة أو تضمن مصلحة مبهمة ، ثم ننظر في المصلحة; إن كانت أعم من النص ، عدينا حكمها ، وإلا قصرناها على محلها ، فالتعدية فرع الصحة وتابعة لها ، فكيف يكون تابع الشيء وفرعه مصححا له ؟ .

قلت : اختلف الأصوليون في ثبوت الحكم في الأصل ، هل هو بالعلة أو بالنص ، والعلة فيه دليل على ثبوت الحكم بمثله في الفرع ، والأول مذهب الشافعي ومشايخ سمرقند ، والثاني مذهب العراقيين من الحنفية .

[ ص: 322 ] والخلاف في اعتبار العلة القاصرة يصح ترتيبه على هذا الأصل ، فإن الشافعي يثبت الحكم في محل النص عن أثرها بالعلة ، فلا تعرى القاصرة عن فائدة ، فتعتبر ، وعلى رأي الحنفية يثبت الحكم في محل النص به ، فتعرى القاصرة عن فائدة ، لأن أثرها لا يظهر في محل النص ولا في غيره ، فلا تعتبر .

قال الآمدي : النزاع في أن الحكم يثبت في الأصل بالنص أو بالعلة لفظي ؛ لأن مراد الشافعية بكون الحكم ثابتا بالعلة أنها الباعثة للشارع على إثبات الحكم ، لا أنها معرفة له ، ومراد الحنفية بكون الحكم ثابتا بالنص أنه المعرف للحكم لا العلة ، فكل من الفريقين غير منكر لقول الآخر ، بل هم متفقون في المعنى ، فثبت أن النزاع بينهم لفظي . وقد سبق ذكر بقية شروط العلة عند ذكر حكم الأصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية