صفحة جزء
[ ص: 337 ] ويجوز أن تكون العلة أمرا عدميا ، نحو : ليس بمكيل ولا موزون لا يجوز بيعه ، فلا يجوز رهنه خلافا لبعض الشافعية .

لنا : الشرعية أمارة فجاز أن تكون عدميا ، إذ لا يمتنع جعل نفي شيء أمارة على وجود آخر .

قالوا : لو جاز للزم المجتهد سبر الأعدام .

قلنا : يلزمه سبر السلوب ، وإن سلم فلعدم تناهيها ، لا لعدم صلاحيتها علة .

وتعليل الحكم بعلتين خلافا لقوم .

لنا : لا يمتنع جعل شيئين أمارة على حكم ، كاللمس والبول على نقض الوضوء ، وتحريم الرضيعة لكونه عمها وخالها بإرضاع أخته وزوجة أخيه لها .

قالوا : لا يجتمع على أثر مؤثران .

قلنا : عقلا لا شرعا لما ذكرنا ، والله أعلم .


قوله : " ويجوز أن تكون العلة أمرا عدميا " إلى آخره ، أي : لا يشترط أن تكون العلة أمرا ثبوتيا ، بل يجوز أن تكون أمرا عدميا ، أي : هي صفة ، أو اسم ، أو حكم ، كقولنا : " ليس بمكيل ولا موزون " فلا يحرم فيه التفاضل ، " لا يجوز بيعه ، فلا يجوز رهنه " ونحو ذلك ، " خلافا لبعض الشافعية " حيث قالوا : لا يجوز .

" لنا " على الجواز : أن العلة " الشرعية أمارة " أي : علامة على ثبوت الحكم ، " فجاز أن تكون " أمرا " عدميا ، إذ لا يمتنع " أن يكون الشارع جعل [ ص: 338 ] نفي أمر علامة وجود أمر آخر ، كما جعل ترك الصلاة علامة على استحقاق القتل والضرب ، أو الحبس . قال الله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [ الأنعام : 121 ] ، فجعل انتفاء ذكر اسم الله - عز وجل - علامة على تحريم الأكل ، وكذلك لو قال : ما لا مضرة فيه من الحيوان ، فهو مباح لكم ، فهو تعليق للإباحة على عدم المضرة ، فهذه أمارات عدمية على أحكام ثبوتية .

قلت : في المثال الأول نظر ، لأن ترك الصلاة فعل ثبوتي ، وهو امتناع المكلف منها .

" قالوا " يعني احتج الخصم بأن قال : " لو جاز " أن تكون العلة أمرا عدميا; " للزم المجتهد " إثباتها بالسبر; " سبر الأعدام " جميعها ، وذلك ممتنع ، وإذا امتنع ذلك ، دل على أنها لا يجوز أن تكون أمرا عدميا .

قوله : " قلنا " أي : الجواب عن هذا السؤال أنا نلتزم أن المجتهد " يلزمه سبر السلوب " أي : سبر الأمور السلبية التي هي في مظان العلة ، نحو : ليس بكذا ولا كذا ، كما سبق في المثال أول المسألة .

أما جميع الأعدام يعني كل أمر معدوم فلا يلزم منه سبره ، لأنا نعلم أن كثيرا منها لا تعلق عليه أحكام الشرع ، نحو مما هو مستعمل في الفلسفة والكلام .

قوله : " وإن سلم " أي : وإن سلمنا أن المجتهد لا يلزمه سبر الأمور العدمية لكن ذلك لكثرتها وعدم تناهيها ، لا لكونها لا تصلح أن تكون علة .

[ ص: 339 ] ومما احتج به الخصم وجهان آخران :

أحدهما : أن العلة لا بد وأن تشتمل على الحكمة التي هي المعنى الجالب للمصلحة ، أو النافي للمفسدة ، والأمر العدمي لا يصح اشتماله على ذلك .

الثاني : أن العلة فرع التمييز ، أي : لا يكون علة إلا ما كان مميزا في نفسه ، والعدم نفي محض لا تمييز فيه ، فلا يكون علة .

والجواب عن الأول : أن معنى اشتمال العلة على الحكمة هو نفي الاقتران الوجودي ، أي : إذا وجدت العلة ، وجدت الحكمة ، وهذا ممكن في التعليل بالعدم ، أو أن الحكمة تقارنه . أما إن تخيل السائل أن اشتمال العلة على الحكمة كاشتمال الظرف على المظروف حتى يمتنع ذلك; فهذا ليس بمراد .

وعن الثاني : أن العدم الذي يقع التعليل به لابد وأن يكون عدم شيء بعينه ، فيكون متميزا بتميز ما يضاف إليه ، كما تقول : عدم علة التحريم علة الإباحة ، وعدم التنجيس علة التطهير ، وعدم الرخصة علة التزام العزيمة ونحو ذلك .

قوله : " وتعليل الحكم بعلتين " أي : ويجوز تعليل الحكم الشرعي بعلتين معا " خلافا لقوم " .

قال الآمدي : اتفقوا على جواز تعليل الحكم بعلل في كل صورة بعلة ، واختلفوا في الحكم الواحد بالشخص في صورة واحدة; هل يعلل بعلتين معا ؟ فمنع من ذلك القاضي أبو بكر ، وإمام الحرمين ، وجوزه آخرون .

[ ص: 340 ] وفصل الغزالي بجواز ذلك في العلل المنصوصة دون المستنبطة .

قال الآمدي : والمختار منعه .

قلت : وهذا التفصيل هو الذي ذكره القرافي ، وهو مراد الشيخ أبي محمد من إطلاقه بدليل سياق كلامه في أثناء المسألة .

" لنا " أي : على جواز تعليل الحكم بعلتين فأكثر ، أن علل الشرع أمارات ومعرفات ، وحينئذ " لا يمتنع " أن يجعل الشارع " شيئين أمارة على حكم ، كاللمس والبول " علامة " على نقض الوضوء ، وتحريم الرضيعة " على الشخص الواحد ، " لكونه عمها وخالها " بأن ترضعها أخته ، فيكون خالها ، لأنها بنت أخته من الرضاع ، وترضعها زوجة أخيه بلبن أخيه ، فيكون عمها ، لأنها بنت أخيه من الرضاع ، وكذلك تعليل تحريم وطء المرأة بالصوم والإحرام والاعتداد من غيره ، أو تحريمه بالعدة والردة ، وتعليل وجوب القتل بالردة والمحاربة ، وتحريم الاستجمار بالروث النجس لنجاسته ، وكونه طعام إخواننا من الجن ، وأشباه ذلك كله جائز لا مانع منه عقلا ولا شرعا . وقد وقع شرعا ، فلا وجه لمنعه .

قوله : " قالوا " يعني المانعين لذلك : لو علل الحكم الواحد بعلتين ، لاجتمع على الأثر الواحد مؤثران ، لكنه " لا يجتمع على الأثر " الواحد مؤثران ، فلا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين ، وإنما قلنا : لا يجتمع على الأثر مؤثران; لأن كل واحد من المؤثرين استقل بإيجاد الأثر ، فإن أثرا فيه معا ، لزم الاستغناء بكل واحد منهما ، والفرض أنه ثبت بهما . هذا خلف ، وإن أثرا فيه متعاقبين ، فهو إنما ثبت بالأول ، والثاني ليس بمؤثر لعدم القابل لتأثيره ، وإن لم يستقل كل واحد منهما بإيجاد الأثر ، فكل واحد منهما جزء [ ص: 341 ] المؤثر ، لا المؤثر الكامل ، بل هما جميعا المؤثر في نقضه . أما أحدهما فقط ، فلا علتين ، أو كل واحد منهما ، فإما على التعاقب فكذلك ، أو معا فيلزم أن لا ينتقض بأحدهما مع فرض انتقاضه بهما ، وهو تناقض محال .

قوله : " قلنا : عقلا لا شرعا " . هذا جواب ما ذكروه .

وتقريره : إنما يمتنع اجتماع مؤثرين على أثر واحد في الأحكام العقلية لا الشرعية ، " لما ذكرنا " قبل من أن علل الشرع أمارات ومعرفات ، فلا يمتنع أن يكون على الشيء الواحد علامتان وعلامات ، ومعرفان ومعرفات ، كما يعرف الحكم الواحد بأدلة كثيرة ، وكما يعرف الله - سبحانه وتعالى - بكل جزء من أجزاء العالم معرفة المؤثر بالأثر ، كما قال القائل :


وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد



وهذا بخلاف العلل العقلية ، فإنها مؤثرات في معلولاتها ، فلا يجتمع على المعلول منها علتان ، كالتحرك لا يكون في الجوهر الواحد بحركتين ، وكسر الإناء لا يكون بكسرين ، واسوداد الجسم لا يكون بتسويدين للتقرير المذكور .

ووجه الفرق بين المؤثرتين أعني الثابتتين بنص أو إجماع والمستنبطتين ، هو أن المستنبطة إنما تثبت بالسبر ، فإذا أضيف الحكم [ ص: 342 ] الشرعي إلى أوصاف ، وجب جعل جميعها علة واحدة ، وكل واحد منها جزء علة ، إذ الأصل عدم استقلال كل منها بالعلية حتى ينص صاحب الشرع على استقلاله ، فيثبت .

وذكر الآمدي في " جدله " في منع التعليل بعلتين كلاما طويلا ، وأنا أذكره بمعناه ملخصا منه ما أمكن مع البيان :

وتقرير ذلك : أن العلة الشرعية إما بمعنى الباعث ، أو بمعنى الأمارة والعلامة .

فإن كانت بمعنى الباعث ، امتنع أن يكون للحكم الواحد في محل واحد من جهة واحدة باعثان ، لوجهين :

أحدهما : أن عند اجتماعهما إن أضيف الحكم إليهما ، فهما باعث واحد ، وإن أضيف إلى أحدهما ، فالآخر ليس بباعث .

الوجه الثاني : لو كان للحكم الواحد باعثان ، فإما أن يتفقا من كل وجه ، أو يختلفا من كل وجه ، أو يتفقا من وجه ويختلفا من وجه .

فإن اتفقا من كل وجه ، فلا تغاير ، إذ التغاير بدون مميز محال ، فهما باعث واحد .

وإن اختلفا من كل وجه ، استحال اتفاقهما في اقتضاء حكم واحد ، إذ اختلاف المؤثر يقتضي اختلاف الأثر .

وإن اتفقا من وجه دون وجه ، فالتعليل إن وقع بالقدر المشترك بينهما وهو ما به الاتفاق فالعلة واحدة ، وإن وقع بما به الاختلاف; أو بما به الاتفاق والاختلاف جميعا ، امتنع اقتضاؤهما لحكم واحد ، لاختلافهما في [ ص: 343 ] أنفسهما كما سبق بيانه .

وإن كانت العلة بمعنى العلامة : فعند اجتماع الأمارتين ، إن عرف الحكم بهما ، فهما أمارة واحدة ، وإن عرف بإحداهما; فلا حاجة إلى الأخرى .

أما إن اختلف محال الحكم أو جهاته; فلا مانع من تعليله بأكثر من علة واحدة لتعدد محاله وجهاته .

قال : وقد يستشكل علي بأن قواعد الشرع تشهد بخلافه كالحائض المعتدة يحرم وطؤها ، وكذا الوالدة المرضعة يحرم نكاحها بالولادة والرضاع ، والقاتل المرتد يجب قتله ، والصغر والجنون يثبتان الولاية ، واللمس والبول والتغويط معا ينقض الوضوء ، فالحكم من كل واحدة من هذه الصور متحد ، والعلل متعددة ، إذ لا سبيل إلى القول بأن المجموع علة واحدة ، لاستقلال البعض بالحكم إذا انفرد ، ولا إلى القول بأن العلة البعض دون البعض ، إذ هو ترجيح بلا مرجح ، فتعين أن كل واحدة علة مستقلة .

قال : وهو مندفع من وجهين :

أحدهما : من حيث الإجمال ، وهو أنا قد بينا امتناع التعليل بعلتين بدليل عقلي لا سبيل إلى إنكاره ، وحيث يتخيل جوازه كما في الصور المستروح إليها ، احتمل تعدد الحكم ، واتحاد العلة ، أو خروج إحدى العلتين عن الاعتبار ، ونظن خلاف ذلك لدقة النظر ، ولطف المأخذ ، ومع هذه الاحتمالات لا سبيل إلى مخالفة الدليل المتيقن .

الوجه الثاني : من حيث التفضيل ، وهو تخصيص كل صورة من الصور المذكورة بجواب .

[ ص: 344 ] أما الصورة الأولى; فتحريم الوطء فيها مجاز ، وإنما المحرم قربان الآدمي في وطء الحائض ، وإفساد العبادة في وطء المحرمة ، واختلاط النسب في وطء المعتدة ، فالحكم متعدد بتعدد العلة .

وأما الصورة الثانية; فتحريم النكاح استقلت الولادة دون الرضاع لسبقها عليه . وحينئذ لا يصادف محلا يحرمه ، إذ تحريم المحرم تحصيل الحاصل .

وأما الصورة الثالثة; فقتل القاتل غير قتل المرتد ، فالحكم متعدد ، ولذلك يختلفان في الأحكام ، فيسقط القتل قصاصا بالعفو ، دون القتل بالردة ، ويسقط القتل بالردة بالتوبة دون القتل قصاصا ، فهما مختلفان بالشخصية لعليتها .

وأما الصورة الرابعة; فثبوت الولاية مضاف إلى الصغر لسبقه على الجنون كما ذكر في الولادة مع الرضاع ، إذ لا يعقل الجنون إلا عند التمييز ، وكذا لو باع خمرا أو خنزيرا بشرط فاسد ، أو ثمن مجهول ، أضيف الفساد إلى عدم المحل لسبقه على الشرط .

وأما الصورة الخامسة; فعلى قول بعض العلماء منهم أبو بكر من أصحابنا : الأحداث متعددة ، حتى لو نوى رفع واحد منهما ، لم يرتفع ما عداه ، ولو اغتسلت حائض جنب للحيض ، حل وطؤها دون غيره لبقاء الجنابة ، فالحكم إذا متعدد بتعدد العلل ، وإن قلنا : إن الحدث واحد ، فلا مانع من أن يقال : العلة هي المجموع ، وإن كان البعض يستقل بالحكم [ ص: 345 ] عند الانفراد ، كما في سرقة مائة دينار مثلا مع القطع ، فإن مجموعها علة له ، وإن كان كل ربع دينار منها مستقلا به عند انفراده .

قلت : وهذا يصلح أن يكون شاهدا عاما لهذا الجواب في جميع الصور .

قلت : فقد رأيت تجاذب الأدلة لهذه المسألة من الطرفين ، وهي في محل الاجتهاد ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

والكلام إلى هاهنا في شروط العلة ، وبه تم الكلام في شروط أركان القياس الأربعة ، وربما وجد فيه بعض التطويل والتكرار ، وإنما كان ذلك حرصا على البيان .

التالي السابق


الخدمات العلمية