صفحة جزء
[ ص: 196 ]

قالوا : الإكراه يرجح فعل ما أكره عليه فيجب ، ولا يصح منه غيره فهو كالآلة ، فالفعل منسوب إلى المكره . وترجيح المكره على القتل بقاء نفسه يخرجه عن حد الإكراه ، فلذلك يقتل .


قوله : " قالوا " إلى آخره . هذا دليل من منع تكليف المكره ، وتقريره : أن " الإكراه يرجح فعل ما أكره عليه " وإذا رجح منه فعل ما أكره عليه ، صار واجبا ، " لا يصح منه غيره ، فهو كالآلة " ، كالسيف والسكين ونحوهما ، مما يقتل به ، والفعل منسوب إلى المكره - بكسر الراء - وإذا كان المكره - بفتحها - كالآلة ، لم يجز تكليفه ، كما لا تكلف الآلات .

قلت : هذا تقرير ظاهر ، لكن قولهم : صار الفعل منه واجبا ، لا يصح منه غيره :

إن أريد به الملجأ إلى الفعل ، كالملقى من شاهق ، فهو واضح .

وإن أريد به غيره ، كالمكره بضرب ونحوه ، لم يتحقق وجوب الفعل عقلا ، لجواز أن يحتمل الضرب والحبس ولا يفعل ، وإنما يتحقق ذلك شرعا ، بمعنى أن الشرع قد رفع الضرار ، وأقام الأعذار ، حيث قال سبحانه وتعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] ، فأجاز الإقدام على التلفظ بكلمة الكفر مع طمأنينة القلب ، دفعا للضرر عن النفس ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار في مثل ذلك : " وإن عادوا فعد " . [ ص: 197 ]

وحينئذ يجوز للمكره ، دفع ضرر الضرب ونحوه عن نفسه بإجابة المكره له إلى ما دعاه إليه ، فإذا سلك طريق الرخصة والجواز المذكور ، صار ما أكره عليه بالنسبة إليها واجبا ، أي : راجح الوقوع شرعا ، لأنه لا يمكنه تحصيل الرخصة المذكورة إلا بالإجابة ، فصارت مما لا تتم الرخصة إلا به ، فكانت - أعني الإجابة - رخصة راجحة الوقوع شرعا ، لتوقف حصول الرخصة المقصودة - وهي دفع الضرر - عليها . فهذا تحقيق لا يغفل عنه .

قوله : " وترجيح المكره على القتل بقاء نفسه " إلى آخره . هذا جواب سؤال مقدر ، ورد على دليل المانعين لتكليف المكره .

وتقرير السؤال : لو لم يكن المكره مكلفا ، لما وجب عليه ترك القتل إذا أكره عليه ، ولما أثم بفعله ، ولما وجب القود عليه به ، على تفصيل وخلاف بين العلماء ، لكنه يجب عليه الترك ، ويأثم به ، فوجب أن يكون مكلفا . [ ص: 198 ] والجواب عنه : أن ترجيحه بقاء نفسه ، يخرجه عن حد الإكراه ، فلا يكون مكرها ، وبيانه : أن أعظم ما يكون به الإكراه القتل ، بأن يقال لزيد مثلا : إن قتلت عمرا وإلا قتلناك ، فيقع التعارض عنده بين أن يقتل فيسلم ، أو يمتنع فيقتل ، فقد دار الأمر بين تفويت نفسه ونفس غيره ، وهما سواء بالنسبة إلى عدل الشرع ، فإذا أقدم المكره على القتل ، فقد رجح بقاء نفسه على فواتها وبقاء نفس غيره ، فصار مختارا ، وخرج عن حد الإكراه ، كما لو أكره على طلاق زينب ، فطلق عمرة ، أو على الإقرار بدراهم ، فأقر بدنانير ، أو بالعكس فيهما ، فإن طلاقه وإقراره يصح ، لأنه مختار بالنسبة إليه ، وإنما كان الإكراه على غيره ، بل هو في صورة القتل أولى بأن يخرج عن حد الإكراه ، لما عرف من رجحان حرمة الدماء على الأموال .

وإذا تقرر بهذا أن المكره على القتل ، يخرج به حد الإكراه ، لم يكن فيه دلالة على تكليف المكره ، لأنا نقول : المكره على القتل يصير عند القتل مختارا لا مكرها ، فلذلك يقتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية