صفحة جزء
[ ص: 366 ] الثاني : ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء ، نحو : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه أي : لتقواه وتوكله لتعقب الجزاء الشرط .

الثالث : ذكر الحكم جوابا لسؤال يفيد أن السؤال أو مضمونه علته ، كقوله : " أعتق رقبة " في جواب سؤال الأعرابي ، إذ هو في معنى : حيث واقعت ، فأعتق ، وإلا لتأخر البيان عن وقت الحاجة .

الرابع : أن يذكر مع الحكم ما لو لم يعلل به ، للغى ، فيعلل به صيانة لكلام الشارع عن اللغو ، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن بيع الرطب بالتمر : أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم ، قال : فلا إذن فهو استفهام تقريري لا استعلامي لظهوره ، وكعدوله في الجواب إلى نظير محل السؤال نحو :

أرأيت لو تمضمضت ، أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته .


و " الثاني " : أي : النوع الثاني من أنواع الإيماء " ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء " أي : بصيغة الشرط والجواب ، " نحو " قوله - عز وجل - : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ الطلاق : 2 ] ، أي : لأجل تقواه ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] ، أي : لأجل " توكله ، لتعقب الجزاء الشرط " أي : لأن الجزاء يكون عقيب الشرط في اللغة . وقد ثبت بما سبق أن السبب ما ثبت الحكم عقيبه ، فإذن الشرط في مثل هذه الصيغ سبب الجزاء ، فيكون الشرط اللغوي سببا وعلة . وقد سبق أن الشروط اللغوية أسباب .

ومن أمثلة هذا النوع قوله - عز وجل - : من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين [ الأحزاب : 30 ] ، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب : 31 ] ، وقوله عليه [ ص: 367 ] الصلاة والسلام : من تبع جنازة ، فله من الأجر قيراط ، و من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع ، نقص من أجره كل يوم قيراطان ، و من قتل قتيلا ، فله سلبه ، و من أحيا أرضا ميتة ، فهي له وقد سبق وأمثلته كثيرة .

فائدة : اعلم أن في باب الشرط والجزاء لا يكون ما بعد الفاء إلا حكما وما قبلها سبب ، لأن جواب الشرط متأخر عن الشرط في وضع اللغة تحقيقا ، نحو : إن كنت مؤمنا ، فاتق الله ، أو تقديرا ، نحو : اتق الله إن كنت مؤمنا ، [ ص: 368 ] والسبب في ذلك أن الشرط لازم ، والمشروط ملزوم ، والملزوم إنما يكون بعد اللازم ، وثبوته فرع على ثبوته ، واعتبر ذلك بالمحسوس ، كالجدار والسقف ، فإن السقف إنما يوجد بعد وجود الجدار ، والإنسان إنما يعقل بعد تعقل الحيوان اللازم له .

أما ما سبق ، فإن ما بعد الفاء قد يكون حكما نحو : قل هو أذى فاعتزلوا [ البقرة : 222 ] ، وقد يكون علة ، نحو : لا تقربوه طيبا ، فإنه يبعث ملبيا ، فإن بعثه ملبيا هو علة تجنيبه الطيب . وهذا عند التحقيق يرجع إلى باب الشرط والجزاء ، لأن الأمر والنهي قد يتضمنان الشرط ، فيجزم جوابهما ، نحو قوله - عز وجل - : فهب لي من لدنك وليا يرثني [ مريم : 5 - 6 ] ، أي : هب لي ، فإنك إن تهب لي وليا يرثني . وقولك : لا تقرب الشر ، تنج ، أي : لا تقربه ، فإنك إن لا تقربه ، تنج . وتدخل الفاء في جوابهما ، كقوله : لا تقربوه طيبا فإنه يبعث أي : من مات محرما ، فإنه يبعث ملبيا ، فلا تقربوه طيبا . وقوله : زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون أي : من مات شهيدا ، فإنهم يحشرون تشخب أوداجهم ، فزملوهم ، فالظاهر استواء الصيغ جميعها في تأخر الحكم وترتبه على الوصف ، لأن الحكم إما مسبب أو مشروط ، وهو مسبب أيضا ، وكلاهما متأخر . نعم بعض ذلك متأخر تحقيقا ، وبعضه تقديرا كما ذكرنا .

" الثالث " : أي : النوع الثالث من أنواع الإيماء : " ذكر الحكم جوابا لسؤال [ ص: 369 ] يفيد أن السؤال " المذكور " أو مضمونه " هو علة الجواب المذكور ، كقوله - عليه السلام - في جواب قول الأعرابي : واقعت أهلي في نهار رمضان : " أعتق رقبة " لأن ذلك " في معنى " قوله : " حيث واقعت " أهلك ، " فأعتق رقبة " ؛ لأن السؤال في تقدير الإعادة في الجواب كما لو قيل : جاء العدو فقال : اركبوا ، أو : فلان واقف يسأل ، فقال : أعطوه ، إذ التقدير : حيث جاء العدو ، فاركبوا ، وحيث جاء فلان يسأل ، فأعطوه .

قوله : " وإلا لتأخر البيان عن وقت الحاجة " أي : لو لم يعلل الجواب بالسؤال ، لكان الجواب غير مرتبط بالسؤال ، ولو كان غير مرتبط به ، لخلا السؤال عن جواب . وحينئذ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لأن السائل إنما يسأل ليتبين له الحكم ، والتقدير أنه لم يجب عن سؤاله ، وأيضا يلزم أن أمره بعتق رقبة ثبت تعبدا ، وهو خلاف الأصل ، أو أنه حكم ثبت بغير سبب ، وهو محال ، ولا سبب يحال عليه الحكم إلا سؤال السائل ، فوجب أن يضاف إليه ، ويعلل به .

" الرابع " : أي : النوع الرابع من أنواع الإيماء إلى العلة " أن يذكر " الشارع " مع الحكم " شيئا " لو لم يعلل " الحكم " به " لكان ذكره لاغيا ، فيجب تعليل الحكم بذلك الشيء المذكور معه " صيانة لكلام الشارع عن اللغو " إذ الدليل القاطع دل على عصمته من ذلك ، وهو ضربان :

أحدهما : أن يسأل في الواقعة عن أمر ظاهر لا يخفى عن عاقل ، ثم يذكر [ ص: 370 ] الحكم عقيبه ، فيدل على أن ذلك الأمر المسئول عنه علة الحكم المذكور .

مثاله : لما سئل عن بيع الرطب بالتمر ، قال : أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم . قال : فلا إذن فهذا " استفهام تقريري " أي : على جهة التقرير ، لكونه ينقص إذا يبس ، كقوله - سبحانه وتعالى - : وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] ، ليقرر عنده أنها عصا لئلا يتردد عند انقلابها حية ، أو على جهة التأنيس ، وليس هذا من باب الاستعلام ، إذ من المعلوم لكل عاقل أن الرطب ينقص إذا يبس لزوال الرطوبة الموجبة لزيادته وثقله .

قال الغزالي : في هذا الحديث تنبيه على العلة من ثلاثة أوجه :

أحدها : ما سبق من أنه لا معنى لذكر هذا الوصف إلا التعليل به .

الثاني : قوله : " إذن " فإنه للتعليل .

قلت : وبيانه أن تقدير الكلام : إذ الأمر كذلك فلا تبيعوه ، أو فلا تفعلوا إذن .

الثالث : الفاء في قوله : فلا ، إذ هي للتعقيب والسبب كما سبق ، كأنه جعل النقص الموجب للتفاضل سبب المنع .

قوله : " وكعدوله في الجواب إلى نظير محل السؤال " كقوله لعمر - رضي الله عنه - لما قال له : إني قبلت وأنا صائم ، فقال له : أرأيت لو تمضمضت . ، وكقوله للخثعمية لما سألته عن الحج عن أبيها : أرأيت لو [ ص: 371 ] كان على أبيك دين فقضيتيه . ، فإن ذلك يدل على التعليل بالمعنى المشترك بين الصورتين المسئول عنها والمعدول إليها بطريق القياس ، إذ لو لم يكن كذلك لخلا السؤال عن جواب ، ولزم ما سبق ، فكأنه قال لعمر : إن القبلة لا تضر ولا تفسد صومك ، لأنها مقدمة شهوة الفرج ، كما أن المضمضة مقدمة شهوة البطن ، وكما أن هذه لا تبطل الصوم كذلك تلك . وكأنه قال للمرأة : الحج دين الله - عز وجل - ، فيجزئ قضاؤه عن الوالد ، كدين الآدمي ، والجامع كونهما دينا .

وذكر النيلي في " شرح جدل الشريف " لهذا النوع ضربا ثالثا ، ومثله بقوله - عليه السلام - لابن مسعود - رضي الله عنه - ، هل معك ماء أتوضأ به ؟ قال : إنما معي ماء نبذت فيه تمرات لتجذب ملوحته ، فقال - عليه السلام - : ثمرة طيبة وماء طهور ، فقوله : طهور ، لا فائدة لذكره إلا أنه أراد جواز الوضوء به ، وإلا فطهارته معلومة بدون ذلك ، وأورد عليه أسئلة وأجوبة .

قلت : وهو داخل في الضرب الأول مما ذكرنا ، أو هو من قبيله وما يشبهه .

التالي السابق


الخدمات العلمية