صفحة جزء
[ ص: 372 ] الخامس : تعقيب الكلام أو تضمينه ما لو لم يعلل به ، لم ينتظم نحو : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، لا يقضي القاضي وهو غضبان إذ البيع والقضاء لا يمنعان مطلقا ، فلا بد إذن من مانع; وليس إلا ما فهم من سياق النص ومضمونه .

السادس : اقتران الحكم بوصف مناسب ، نحو : أكرم العلماء ، وأهن الجهال كما سبق; ثم الوصف في هذه المواضع معتبر في الحكم ، والأصل كونه علة بنفسه إلا لدليل يدل على أن العلة مضمونة كالدهشة التي تضمنها الغضب .


" الخامس " : أي : النوع الخامس من أنواع الإيماء " تعقيب الكلام أو تضمينه " أي : أن يذكر عقيب الكلام ، أو في سياقه ، أو في ضمنه شيئا " لو لم يعلل به " الحكم المذكور ، " لم ينتظم " أي : لم يكن الكلام منتظما ، " نحو " قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ، وقوله - عليه السلام - : لا يقضي القاضي وهو غضبان ، فلو لم يعلل النهي عن البيع حينئذ بكونه مانعا أو شاغلا عن السعي ، لكان ذكره لاغيا ، وكذا لو لم يعلل النهي عن القضاء عند الغضب بكونه يتضمن اضطراب المزاج الموجب لاضطراب الفكرة الموجب غالبا للخطأ في الحكم ، لكان ذكره لاغيا ، وذلك لأن البيع والقضاء لا منع منهما [ ص: 373 ] مطلقا ، " فلا بد إذن من مانع ، وليس إلا ما فهم من سياق النص ومضمونه : من شغل البيع عن السعي إلى الجمعة فتفوت ، واضطراب الفكرة لأجل الغضب ، فيقع الخطأ ، فوجب إضافة النهي إليه ؛ لأنه مناسب ، فهو من باب اقتران الحكم بالوصف المناسب .

" السادس " : أي : النوع السادس من أنواع الإيماء " اقتران الحكم بوصف مناسب ، نحو " قوله : " أكرم العلماء ، وأهن الجهال ، كما سبق " كقوله - عز وجل - : الزانية والزاني فاجلدوا [ النور : 2 ] ، والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، أي : للزنى والسرقة ، وقوله - عليه السلام - : لا يقتل مسلم بكافر ; يفهم منه تعليل عدم القصاص بينهما بشرف الإسلام ونقص الكفر ، لأن المعلوم من تصرفات العقلاء ترتيب الأحكام على الأمور المناسبة ، والشرع لا يخرج عن تصرفات العقلاء . " ثم " إن " الوصف في هذه المواضع " أي : في كل موضع رتب الحكم عليه " معتبر في الحكم " أي : في تعريفه له أو في تأثيره ووجوده ، غير أنه يحتمل أنه - أعني الوصف - علة بنفسه ، كالإحياء المقتضي لملك الموات ، ويحتمل أن العلة ما تضمنه واشتمل عليه " كالدهشة " المانعة من الفكر " التي تضمنها " وصف " الغضب " لكن الأصل كون الوصف " علة بنفسه " حتى يقوم الدليل على أن العلة ما تضمنه ، كالدهشة ، أو لزم عنه ، كالتفاضل اللازم عن نقص الرطب ، أو اشتمل عليه ، كالشغل عن الجمعة الذي اشتمل عليه البيع .

قال بعض الأصوليين : نذكر من أنواع الإيماء الفرق بين شيئين في [ ص: 374 ] الحكم بذكر صفة ، فإنه يفيد أن تلك الصفة علة الفرق ، كقوله - عليه السلام - : القاتل لا يرث مع إثباته الإرث لغيره من الأولاد ، فيدل على أن القتل علة منع الإرث ، وكقوله - عليه السلام - : للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم ، وقوله : البكر إذنها صماتها والثيب تعرب عن نفسها . وهذا كله من باب دليل الخطاب وهو أيضا نوع إيماء ، فالبابان مشتركان .

فائدة : أنواع الإيماء المذكورة تنقسم باعتبار الوفاق والخلاف فيها ثلاثة أقسام ، لأنه إما أن يصرح فيه بالحكم والوصف جميعا أو لا ، فإن صرح فيه بهما ، فهو إيماء متفق عليه لا خلاف فيه ، وإن لم يصرح بهما; فإن صرح بالحكم ، والوصف مستنبط; فليس بإيماء باتفاق ، وإن صرح بالوصف ، والحكم مستنبط ، فهذا هل يكون إيماء ؟ فيه خلاف .

مثال المتفق على كونه إيماء قوله - عليه الصلاة والسلام - : من أحيا أرضا ميتة فهي له ، من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ، فقد صرح في [ ص: 375 ] الأول بالإحياء وهو الوصف ، وبالحكم وهو الملك ، وفي الثاني صرح بالملك وهو الوصف ، وبالعتق وهو الحكم .

ومثال المتفق على أنه ليس بإيماء ما ذكر في تخريج المناط ، وهو ما إذا حرم الربا في البر ، فاستخرجنا منه علة الكيل أو الطعم أو الوزن . ولو نص على تحريم الخمر ، فاستخرجنا منه وصف الإسكار ، فالحكم مصرح به ، والوصف مستنبط .

ومثال المختلف فيه قوله - عز وجل - : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] ، فمن زعم أنه ليس إيماء إلى الصحة ، قال : لأنها غير مصرح بها فيه ، فهو كما لو صرح بالحكم ، واستخرجنا العلة قياسا لأحدهما على عكسه ، ومن زعم أنه إيماء ، قال : إنه - سبحانه وتعالى - دل بإحلال البيع على الصحة ، إذ لولا الصحة ، لم يكن للإحلال فائدة ، كما أنه لولا إفساد الربا ، لم يكن لتحريمه فائدة ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية