صفحة جزء
[ ص: 199 ]

والحق أن الخلاف فيه مبني على خلق الأفعال ، من رآها خلق الله تعالى ، قال بتكليف المكره ، إذ جميع الأفعال واجبة بفعل الله تعالى ، فالتكليف بإيجاد المأمور به منها وترك المنهي عنه ، غير مقدور ، وهذا أبلغ . ومن لا ، فلا . والعدل الشرعي الظاهر ، يقتضي عدم تكليفه .


قوله : " والحق أن الخلاف فيه مبني على خلق الأفعال " . هذا مأخذ المسألة استخرجته أنا بالنظر ، وهو أن الخلاف في تكليف المكره ، يناسب بناؤه على الخلاف في خلق الأفعال ، " فمن رآها خلق الله سبحانه وتعالى " اتجه له أن يقول " بتكليف المكره " لأن جميع الأفعال المخلوقة لله سبحانه وتعالى على وفق إرادته ، كما حققناه في كتاب " رد التحسين والتقبيح " .

وإذا ثبت أن الأفعال تصير بخلق الله سبحانه وتعالى لها واجبة ، صار التكليف بها مقدورا للعبد ، سواء كان التكليف بإيجاد مأمور ، كالصلاة والصيام ، أو بترك منهي ، كالزنى والربا ، لأن ما استقلت قدرة البارئ جل جلاله بخلقه وإيجاده ، كان تأثير قدرة العبد فيه تحصيلا للحاصل ، وإيجادا للموجود ، وخلقا للمخلوق ، وهو محال .

وإذا تقرر أن سائر التكليف الإنساني تكليف بغير مقدور ، فأكثر ما يقال في المكره : إنه مكلف بما هو غير مقدور له ، وقد صح ذلك في سائر التكاليف ، فيما بين الله سبحانه وتعالى وخلقه ، فليصح هاهنا أيضا ، لأن فعل المكره والمكره جميعا [ ص: 200 ] مخلوق لله سبحانه وتعالى .

قوله : " وهذا أبلغ " يعني : أن تكليف العبد بالأحكام الشرعية مع أن أفعاله غير مقدورة له ، أبلغ من تكليف المكره ، لأنه يمكنه الامتناع مما أكره عليه عقلا باحتمال ألم الإكراه ، وقد شوهد من ذلك كثير ، بخلاف العبد ، فإنه لا يمكنه الامتناع مما خلقه الله تعالى ، وقدره عليه .

قوله : " ومن لا ، فلا " ، أي : ومن لا يرى أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وتعالى ، لم ير تكليف المكره ، لأن المعتزلة سموا أنفسهم أهل العدل ، لأنهم قالوا : أفعال العباد مخلوقة لهم ، لا لله سبحانه وتعالى ، تحقيقا لعدله ، إذ لو خلقها ، ثم عاقب عليها ، كان ذلك جورا ، وحينئذ لا يتأتى على قولهم تقرير القائلين بخلق الأفعال ، وهو أن التكليف كله بغير مقدور ، فيلحق به تكليف المكره بطريق أولى .

وذكر الكناني للمسألة مأخذا آخر ، وهو أنه هل في التخويف والإكراه ما يتضمن ضرورية الفعل لداع ، أي : ما يقتضي اضطرار المكره إلى الفعل لداعي الطبع ، أم لا ؟

قلت : هذا إشارة إلى ما ذكرناه ، من أنه يترجح وقوعه شرعا .

قوله : " والعدل الشرعي الظاهر يقتضي عدم تكليفه " يعني تكليف المكره مطلقا ، أما الذي بلغ إلى حد الإلجاء ، فظاهر .

وأما المكره بمطلق الإكراه الشرعي ، كما عرف في كتب الفروع فلما سبق تقريره ، من أن الفعل واجب منه شرعا ، ففي القول بتكليفه إضرار به ، وتضييق لما وسعه الله سبحانه وتعالى عليه ، ولقوله - عليه السلام - : رفع عن أمتي الخطأ [ ص: 201 ] ويروى : عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .

وقوله : " والعدل الشرعي الظاهر " إشارة إلى سر القدر ونكتته التي تاهت فيها العقول ، وتقريرها من وجهين :

أحدهما : أن لله سبحانه وتعالى في خلقه تصرفين :

أحدهما : تكويني بحكم إيجاده واختراعه لهم ، فبذلك التصرف يفعل ما يشاء من تكليف ما لا يطاق وغيره ، و لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ الأنبياء : 23 ] ، وهو عدل باطن ، لما سنقرر في الوجه الثاني ، إن شاء الله تعالى .

والتصرف الثاني : تكليفي بحكم استدعائه منهم الطاعات وترك المعاصي .

ففي هذا التصرف ، سلك معهم مسلك أهل العدل من المخلوقين بعضهم مع بعض ، فلم يكلفهم محالا في الظاهر ، بل أزاح جميع عللهم ، حتى إن المرأة يتعذر عليها المحرم ، فلا يوجب عليها الحج ، والرجل يتعذر عليه محمل يسوي عشرة دراهم ، يسقط عنه وجوب الحج ، وغير ذلك من التخفيفات ، ولم يوجد تكليف ما لا يطاق ، في مسألة من مسائل الفروع ولا الأصول إلا مسألة خلق الأفعال ، وهي من التصرف الأول ، لا من هذا التصرف . وهذا هو العدل الظاهر ، فمقتضاه : أن لا يكلف المكره ، لأنه كالآلة ، والحامل له على الفعل غيره ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الإسراء : 15 ] .

الوجه الثاني : من تقرير نكتة القدر ، وهو أن الله سبحانه وتعالى عالم بما كان ، [ ص: 202 ] وما يكون ، وبما لم يكن لو كان كيف يكون ، فالله سبحانه وتعالى علم أنه لو ترك الخلق مستقلين بأفعالهم خلقا وإيجادا ، لكانوا كما هم الآن ، طائع وعاص بأعيانهم . فعلم أن فرعون كان يكون كافرا ، وأن موسى - عليه السلام - كان يكون مؤمنا ، فلما علم أن الحال بالنسبة إلى استقلالهم بأفعالهم ، وإجبارهم عليها بسر القدر سواء ، رجح جانب ضبط الوجود ، وتعميم الموجودات بالإسناد إلى خلقه وقدرته وإرادته ، ولعل الإشارة بقوله تعالى : ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون [ الأنفال : 23 ] ، إلى هذا ، وقد استقصيت هذا الكلام وغيره في كتاب " رد القول القبيح بالتحسين والتقبيح " .

وحاصل هذا : أن سر الله سبحانه وتعالى لخلقه ، بسر القدر في الباطن على ما يصدر منهم عدل باطن ، وإزاحته لعللهم في أحكام التكليف ظاهرا عدل ظاهر ، فالواجب بالنسبة إلى هذا العدل الظاهر أن لا يكون المكره مكلفا . أما قول القائلين بخلق الأفعال ، إذا كانت التكاليف بأسرها غير مقدورة ، فليكن المكره مكلفا ، لأن غاية أمره أن يكون مكلفا بغير مقدور ، فهو ضعيف ، لأن الله سبحانه وتعالى ، إن كلف خلقه بما ليس مقدورا لهم ، فهو بالإضافة إلى تصرفه الكوني ، وهو تصرف خاص به ، لا يشركه فيه غيره حتى يلحق المكره به ، والله أعلم .

تنبيه : هاتان المسألتان - أعني مسألة تكليف الناسي والمكره - أصل لأحكام [ ص: 203 ] أفعالهما ، وما يترتب عليها في أبواب الفقه ، فمن قال بتكليفهما ، رتب على أفعالهما أحكام التكليف الخطابي ، فيبطل الصلاة بالكلام وغيره من منافياتها ، ناسيا أو مكرها ، ويبطل الصوم والإحرام ، وتجب الكفارة بالوطء كذلك ، ويلزم الحنث في الأيمان ، والطلاق مع النسيان والإكراه ، ومن لم يقل بتكليفهما ، منهم من طرد أصله ، وألغى أفعالهما ، فلم يرتب عليها تكليفا ، لا أقول عدليا ، إذ قد فرقت بينهما . أعني : بين التكليف والعدل فيما سبق . فلو أتلف شيئا ناسيا أو مكرها ، ضمنه ، ومنهم من رتب على أفعالهما أحكام الوضع والأخبار ، وجعلها من باب ربط الأحكام بالأسباب ، فكلامهما في الصلاة سبب بطلانها . ووطؤهما في الصوم والإحرام سبب بطلانه ووجوب الكفارة به ، والحنث منهما ، سبب لوقوع الطلاق ووجوب كفارة اليمين : وإضافة الطلاق إلى محله سبب لوقوعه ، كقول المكره : أنت طالق ، يقع عند أبي حنيفة .

قال أصحابنا : إذا أكرهت المرأة على الزنى ، فزنت ، لم تحد ، وإن أكره الرجل ، لم يحد أيضا في أحد القولين ، تسوية بينهما بجامع الإكراه .

والقول الثاني : يحد ، فرقا بينهما بأن الرجل فاعل ، والمرأة محل للفعل ، وبأنه لولا الداعي الاختياري لما انتشرت آلته للفعل ، وهو ضعيف جدا ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : الزانية والزاني [ النور : 2 ] فأضاف الفعل إليهما ، وبدأ [ ص: 204 ] بذكرها ، فحظها من الزنى أوفر ، ولهذا أخرها في قوله : والسارق والسارقة [ المائدة : 38 ] ، لما كان حظ الرجل من السرقة أوفر .

وأما انتشار الآلة ، فإنما حصل بعد الإكراه ، وهو أمر طبيعي لا يمكن رده ، وليس حد الزاني المختار على انتشار آلته ، بل على إقدامه باختياره على الزنى . فلعل هذا لو لم يكره لم يقدم على الزنى .

والمختار فيهما ، أن لا يترتب على أفعالهما حكم تكليفي ، لعدم تكليفهما ، إلا ما قام عليه دليل يثبت ذلك الحكم بمثله ، فيكون ثبوت الحكم حينئذ وضعيا سببيا .

أما المكره على القتل ، فقد بينا أنه يخرج به عن حد الإكراه ، فليس من هذا الباب .

وقد اختلف الفقهاء في حكمه ، فقال الشافعي : يقتلان جميعا ، المكره الحامل لتسببه ، والقاتل لمباشرته . وقال أبو يوسف : لا قصاص عليهما ، لأن القاتل ملجأ ، والحامل متسبب غير مباشر . وقال أبو حنيفة ومحمد : يجب القصاص على المكره الحامل ، لأن القتل فعله بالإكراه بواسطة القاتل ، والقاتل كالآلة .

ومذهب أحمد : يجب على القاتل لمباشرته دون الحامل ، فجعلوه من باب اجتماع السبب والمباشرة ، وهو أيضا موافق لمسألة الأصل في أنه غير مكلف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية