صفحة جزء
[ ص: 404 ] النوع الثاني السبر : وهو إبطال كل علة علل بها الحكم المعلل إجماعا ، إلا واحدة فتعين; نحو : علة الربا الكيل أو الطعم أو القوت ، والكل باطل إلا الأولى ، فإن لم يجمع على تعليله ، جاز ثبوته تعبدا ، فلا يفيد . وكذا إن لم يكن سبره حاصرا بموافقة خصمه ، أو عجزه عن إظهار وصف زائد فيجب إذا على خصمه تسليم الحصر ، أو إبراز ما عنده لينظر فيه ، فيفسده ببيان بقاء الحكم مع حذفه ، أو ببيان طرديته ، أي : عدم التفات الشرع إليه في معهود تصرفه ، ولا يفسد الوصف بالنقض لجواز كونه جزء علة أو شرطها ، فلا يستقل بالحكم ، ولا يلزم من عدم استقلاله صحة علة المستدل بدونه ، ولا بقوله : لم أعثر بعد البحث على مناسبة الوصف ، فيلغى ، إذ يعارضه الخصم بمثله في وصفه ، وإذا اتفق خصمان على فساد علة من عداهما ، فإفساد أحدهما علة الآخر دليل على صحة علته عند بعض المتكلمين ، والصحيح خلافه ، إذ اتفاقهما لا يقتضي فساد علة غيرهما ، وكل منهما يعتقد فساد علة غيره من حاضر وغائب ، فيستويان ، فطريق التصحيح ما سبق .


" النوع الثاني " : من أنواع إثبات العلة بالاستنباط إثباتها بالسبر ، وقد سبق في موضع من هذا الكتاب بيانه لغة ، وحاصله يرجع إلى الاختبار ، ولذلك سمي ما يختبر به طول الجرح وعرضه : مسبارا .

قوله : " وهو " يعني السبر في الاصطلاح : " إبطال كل علة علل بها الحكم المعلل إجماعا " أي : بالإجماع ، " إلا واحدة فتتعين " . ومعنى ذلك أن [ ص: 405 ] المستدل بالقياس إذا أراد أن يبين أن علة الأصل المقيس عليه كذا ليلحق به الفرع المقيس ، وأراد تبيين العلة بالسبر والتقسيم ، ذكر كل علة علل بها حكم الأصل ، ثم يبطل الجميع إلا العلة التي يختارها ، فيتعين التعليل بها ، فيثبت الحكم في الفرع بواسطتها ، مثل أن يقول : " علة الربا " في البر ونحوه إما " الكيل أو الطعم أو القوت ، والكل " أي : العلل كلها باطلة " إلا الأولى " مثلا ، وهي الكيل إن كان حنبليا أو حنفيا ، أو إلا الطعم إن كان شافعيا ، أو إلا القوت إن كان مالكيا ، فيتعين للتعليل ، ويلحق الأرز والذرة ونحو ذلك بالبر بجامع الكيل ، ويقيم الدليل على بطلان ما أبطله ، إما بانتقاضه انتقاضا مؤثرا ، أو بعدم مناسبته ، أو غير ذلك بحسب الإمكان والاتفاق .

وقد تضمنت الجملة المذكورة من عبارة " المختصر " أنه يشترط لصحة السبر أمور :

أحدها : أن يكون الحكم في الأصل معللا ، إذ لو كان تعبدا ، لامتنع القياس عليه .

الثاني : أن يكون مجمعا على تعليله - قاله أبو الخطاب - إذ بتقدير أن يكون مختلفا في تعليله ، فللخصم التزامه التعبد فيه ، فيبطل القياس .

قلت : وهذا موضع تفصيل وهو أن يقال : إن كان المستدل مناظرا ، أو خصمه منتميا إلى مذهب ذي مذهب ; كفاه موافقة الخصم على التعليل ، ولم يعتبر الإجماع عليه من الأمة ، وإن كان الخصم مجتهدا ، اعتبر الإجماع على تعليله ، إذ المجتهد لا حجر عليه إلا بإجماع الأمة ، إذ بدونه له أن يلزم التعبد [ ص: 406 ] في الأصل ، ويفسد كل علة علل بها . أما إذا أجمع على كونه معللا ، لم يمكنه ذلك لمخالفة الإجماع ، وإن كان المستدل ناظرا لا مناظرا ، اعتبر الإجماع على التعليل أيضا ، لأن غرضه ليس إفحام خصم ، بل استخراج حكم ، وذلك إنما يحصل بحصول غلبة الظن بأن العلة هذا الوصف ، ولا يحصل ذلك مع وقوع الخلاف في تعليل الحكم ، وفي هذا شيء لا يخفى .

الثالث : أن يكون سبره حاصرا لجميع العلل ، إذ لو لم يكن حاصرا; لجاز أن يبقى وصف هو العلة في نفس الأمر لم يذكره ، فيقع الخطأ في القياس ، ولا يصح السبر . وقد أشير إلى الأمرين الآخرين بقوله : " فإن لم يجمع على تعليله; جاز ثبوته تعبدا " " وكذا إن لم يكن سبره حاصرا " .

واعلم أن دلالة السبر قاطعة إن كان حصر الأقسام وإبطال ما عدا الواحد منها قاطعا ، وإن كانا ظنيين ، أو أحدهما ، كانت دلالته ظنية .

قوله : " بموافقة خصمه " إلى آخره . هذا بيان لطريق ثبوت حصر السبر ، وهو من وجهين :

أحدهما : موافقة الخصم على انحصار العلة فيما ذكره المستدل ، كانحصار علة الربا في الكيل أو الطعم أو القوت ، لأن الخصم إذا سلم انحصار العلة فيما ذكره المستدل واستتم له إبطالها إلا واحدة ، حصل مقصوده .

الوجه الثاني : أن يعجز الخصم " عن إظهار وصف زائد " على ما ذكره المستدل ، لأنه إذا عجز عن ذلك; فقد سلم الحصر ضرورة ، فحاصل الأمر أن موافقة الخصم على الحصر إما اختيارية بالتسليم ، أو اضطرارية بعجزه عن الزيادة .

قوله : " فيجب إذن على خصمه تسليم الحصر ، أو إبراز ما عنده لينظر [ ص: 407 ] فيه " أي : إذا ثبت أن سبر المستدل للأوصاف حاصر بموافقة الخصم ، أو عجزه عن الزيادة ، وجب حينئذ على الخصم المعترض إما " تسليم الحصر " فيحصل مقصود المستدل منه ، " أو إبراز ما عنده " يعني إظهار ما عند المعترض من الأوصاف الزائدة على ما ذكره المستدل " لينظر فيه ، فيفسده " ولا يسمع قول المعترض : عندي وصف زائد ، لكني لا أذكره ، لأنه حينئذ إما صادق ، فيكون كاتما لعلم دعت الحاجة إليه ، فيفسق بذلك ، أو كاذب ، فلا يعول على قوله ، ويلزمه الحصر .

قوله : " ببيان بقاء الحكم مع حذفه ، أو ببيان طرديته " إلى آخره .

يعني إذا أبرز الخصم المعترض وصفا زائدا على ما ذكره المستدل من الأوصاف ، لزم المستدل أن ينظر في ذلك الوصف ، فيفسده ، ويبين عدم اعتباره ، وله إلى ذلك طريقان :

أحدهما : أن يبين بقاء الحكم مع حذفه ، أي : عدمه في بعض الصور ، مثل أن يقول الحنبلي أو الشافعي : يصح أمان العبد ، لأنه أمان وجد من عاقل مسلم غير متهم ، فيصح قياسا على الحر ، فيقول الحنفي : لا نسلم أن ما ذكرت هو أوصاف العلة في الأصل فقط ، بل هناك وصف آخر ، وهو الحرية ، وهو مفقود في العبد . وحينئذ لا يصح القياس ، فيقول المستدل : وصف الحرية ملغى بالعبد المأذون له فإن أمانه يصح باتفاق مع عدم الحرية ، فصار وصفا لاغيا لا تأثير له في العلة .

[ ص: 408 ] الطريق الثاني في إبطال الوصف الزائد : أن يبين كونه وصفا طرديا ، أي : لم يلتفت " الشرع إليه في معهود تصرفه " أي : فيما عهد من تصرفه ، كالطول والقصر والذكورية والأنوثية .

مثاله : لو قال المستدل : يسري العتق في الأمة قياسا على العبد بجامع الرق ، إذ لا علة غيره عملا بالسبر ، فقال المعترض : الذكورية وصف زائد معتبر في الأصل ، لأن العبد إذا كمل عتقه بالسراية ، حصل منه ما لا يحصل من الأمة من تأهله للحكم والإمامة وأنواع الولايات ، ولا يلزم من ثبوت السراية في الأكمل ثبوته في غيره .

فيقول المستدل : ما ذكرت من الفرق مناسب ، غير أنا لم نر الشرع اعتبر الذكورية والأنوثية في باب العتق ، فيكون اعتبار ذلك على خلاف معهود تصرفه ، فيكون وصفا طرديا في ظاهر الأمر .

قوله : " ولا يفسد الوصف بالنقض " إلى آخره . يعني أن المستدل لا يكفيه في إفساد الوصف الذي أبرزه المعترض أن يبين كونه منتقضا ، بل يوجد بدون الحكم ، لأن الوصف المذكور يجوز أن يكون جزء العلة ، أو شرطا لها . وحينئذ لا يكون مستقلا بوجود الحكم لوجوده ، " ولا يلزم من عدم استقلاله " بالحكم " صحة علة المستدل بدونه " لأنه جزء لها وشرط ، والعلة لا تصح بدون جزئها أو شرطها .

مثال ذلك : لو قال المستدل : علة الربا في البر الكيل ، فعارضه المعترض بالطعم ، فنقضه المستدل بالماء أو غيره مما يطعم ولا ربا فيه ، لم يكفه ذلك في بطلان كون الطعم علة ، لجواز أن يكون جزء علة الربا ، بأن تكون العلة مجموع الكيل والطعم ، أو شرطا فيها فتكون علة الربا الكيل بشرط أن يكون المكيل مطعوما . وحينئذ لا يلزم من بطلان كون الطعم علة مستقلة أن يكون [ ص: 409 ] الكيل علة صحيحة ، لجواز أن يكون الطعم جزءها أو شرطها ، والفرق بين النقض وبين بقاء الحكم مع حذف الوصف حيث كان مبطلا له دون النقض : هو أن بقاء الحكم مع عدم الوصف يدل على أنه غير مؤثر ولا معتبر في الحكم علة ولا جزء علة ، ولا شرطا ، إذ لو اعتبر فيه بأحد هذه الوجوه ، لما وجد بدونه أصلا ، بخلاف وجود الوصف بدون الحكم ، فإنه لا يدل على عدم اعتباره في الحكم بوجه من الوجوه لما ذكرنا ، وإنما ذكرت الفرق بينهما ، لأنه قد يستشكل ، فيظن تناقضا .

قوله : " ولا بقوله " إلى آخره ، أي : ولا يفسد الوصف الذي أبداه المعترض بقول المستدل : إني " لم أعثر بعد البحث على مناسبة " علتك أيها المستدل ، فيتعارض الكلامان ، ويقف المستدل .

قوله : " وإذا اتفق خصمان على فساد علة من عداهما ، فإفساد أحدهما علة الآخر دليل على صحة علته عند بعض المتكلمين " إلى آخره .

معنى هذا الكلام على ظهوره أن الخصمين إذا اتفقا على فساد علة غيرهما في الحكم المتنازع فيه ، ثم أفسد أحدهما علة الآخر ، مثل أن اتفق الحنبلي والشفعوي على أن ما عدا الكيل والطعم علة فاسدة ، ثم نقض الشفعوي علة الكيل بالماء ، إذ هو مكيل ولا ربا فيه ، أو نقض الحنبلي علة الطعم بالماء أيضا ، إذ هو مطعوم ولا ربا فيه على خلاف ، فهل يكون ذلك مصححا لعلة الناقض ؟ فيه قولان :

أحدهما : وهو قول بعض المتكلمين : نعم ، لأن ما عدا علتيهما ثبت فساده باتفاقهما ، وعلة الخصم ثبت فسادها بإفسادها ، فتعينت العلة الباقية .

والثاني : لا يكون ذلك دليلا على صحة العلة الباقية ، لأن اتفاقهما على [ ص: 410 ] فساد علة غيرهما لا يقتضي فسادها في نفس الأمر ، بل في اعتقادهما ، وهو لا يؤثر بالنسبة إلى غيرهما ، إذ غيرهما يعتقد فساد علتهما كالمالكي يعتقد فساد التعليل بالكيل والطعم ، ويدعي علة القوت ، فيتعارض اعتقادهما واعتقاده ، وكذلك " كل منهما يعتقد فساد علة غيره من حاضر وغائب " أي : يعتقد فساد ما سوى علته ، فيتعارض اعتقادهما ، فليس أحدهما بأولى من الآخر .

قلت : القولان يمكن تنزيلهما على حالين ، ويعود النزاع لفظيا ، وذلك بأن يقال : إن اتفاقهما على فساد علة غيرهما ، وإفساد أحدهما علة الآخر ; يدل على صحة علة مناظره جدلا ، لا نظرا واجتهادا ، أي : يدل على صحة علته بالإضافة إلى إفحام خصمه وقطعه في مقام النظر .

أما بالإضافة إلى إثبات الحكم شرعا في نفس الأمر ، فلا ، لما بينا ، وقد يثبت في ظاهر الحال ما لا يثبت في نفس الأمر وبالعكس ، كحكم الحاكم ينفذ ظاهرا ، ولا يحيل الشيء عن صفته باطنا ، وطلاق المتأول تأويلا يبعد عن الظاهر يدين فيه ، ولا يقبل في الحكم ، والله تعالى أعلم .

فائدة : اصطلح الأصوليون على قولهم : السبر والتقسيم ، يبدءون بالسبر ، والسبر : الاختبار ، والتقسيم : جعل الشيء أقساما .

قال القرافي : والأصل أن يقال : التقسيم والسبر ، لأنا نقسم أولا ، فنقول : العلة إما كذا ، أو كذا ، ثم نسبر ، أي : نختبر تلك الأوصاف أيها يصلح علة ، لكن لما كان التقسيم وسيلة السبر الذي هو الاختبار أخر عنه تأخير الوسائل ، [ ص: 411 ] وقدم السبر تقديم المقاصد على عادة العرب في تقديم الأهم فالأهم .

قلت : ولو حملنا قولهم : السبر والتقسيم على معنى سبر العلة بتقسيم الأوصاف ، لعاد إلى ما قاله ، إذ ذلك يفيد أن التقسيم سبب للسبر .

واعلم أنا إنما قلنا : إن السبر مفيد لمعرفة العلة بناء على مقدمات :

إحداهن : أن الأصل في الأحكام التعليل ، فمهما أمكن جعل الحكم معللا ، لا يجعل تعبدا .

الثانية : أن الأصل في وصف الحكم أن يكون مناسبا ، فمتى أمكن إضافته إلى المناسب ، لا يضاف إلى غيره .

الثالثة : أنه لا يناسب إلا الوصف الباقي بعد السبر ، فوجب كونه علة بهذه المقدمات ، والأولى والثانية ظاهرتان ، وأما الثالثة ، وهي أنه لا يناسب إلا هذا الوصف ، فدليلها ما سبقت الإشارة إليه في النفي الأصلي من أن الظاهر ممن كان أهلا للنظر له دربة بممارسة الأحكام ، واستخراج أدلتها وعللها ، إذا استفرغ وسعه في طلب الوصف المناسب من غيره ، أنه يحصل له غلبة الظن بمعرفته ، وهي كافية ، إذ الأوصاف التي تناط بها الأحكام إما عقلية : كالعلم والقدرة والرضى والعمدية ، أو محسوسة : كالقتل والقطع والغصب والبيع والنكاح ، أو شرعية : كالطهارة والنجاسة والحل والحرمة ، وإدراك ذلك كله بمداركه - وهي العقل والحس والشرع - سبر على ما ذكرناه .

فثبت بهذا أن السبر والتقسيم طريق موصل إلى معرفة العلة ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية