صفحة جزء
[ ص: 419 ] خاتمة

اطراد العلة لا يفيد صحتها ، إذ سلامتها عن النقض لا ينفي بطلانها بمفسد آخر; ولأن صحتها بدليل الصحة لا بانتفاء المفسد ، كثبوت الحكم بوجود المقتضي ، لا بانتفاء المانع ، والعدالة بحصول المعدل ، لا بانتفاء الجارح ، وقول القائل : لا دليل على فسادها فتصح ، معارض بأنه لا دليل على صحتها فتفسد .

وإذا لزم من مصلحة الوصف مفسدة مساوية ، أو راجحة ، ألغاها قوم إذ المناسب ما تلقته العقول السليمة بالقبول ، وهذا ليس كذلك ، إذ ليس من شأن العقلاء المحافظة على تحصيل دينار مع خسارة مثله ، أو مثليه ، وأثبته قوم ، إذ المصلحة من متضمنات الوصف ، والمفسدة من لوازمه ، فيعتبران ، لاختلاف الجهة كالصلاة في الدار المغصوبة ، إذ ينتظم من العاقل أن يقول : لي مصلحة في كذا ، لكن يصدني عنه ما فيه من ضرر كذا ، وقد قال الله تعالى : وإثمهما أكبر من نفعهما فأثبت النفع مع تضمنه للإثم .


قوله : " خاتمة : اطراد العلة لا يفيد صحتها " إلى آخره .

لما بين الطرق الدالة على صحة العلة; أخذ يبين الطرق الفاسدة التي لا تدل على صحتها .

فمنها : اطرادها لا يدل على صحتها ، إذ معنى اطرادها سلامتها عن النقض ، وهو بعض مفسداتها ، " وسلامتها عن " مفسد واحد " لا ينفي بطلانها [ ص: 420 ] بمفسد آخر " ككونها قاصرة أو عدمية ، أو طردية غير مناسبة عند من لا يرى التعليل بذلك ، وما مثال من يقول : هذه العلة صحيحة ، لأنها ليست منتقضة ، إلا مثال من يقول : هذا العبد صحيح سليم ، لأنه ليس بأعمى ، إذ جاز أن تنتفي سلامته ببرص أو عرج أو غيره ، وأيضا فإن صحة العلة حكم ، والأحكام إنما تثبت " صحتها بدليل الصحة لا بانتفاء المفسد " و " بوجود المقتضي ، لا بانتفاء المانع " وعدالة الشاهد والراوي إنما تثبت " بحصول المعدل لا بانتفاء الجارح " فكذلك العلة إنما تصح بوجود مصححها ، لا بانتفاء مفسدها .

" وقول القائل " : هذه العلة صحيحة ، إذ " لا دليل على فسادها " " معارض " بقول الخصم : هي فاسدة ، إذ " لا دليل على صحتها " .

ومن الطرق الفاسدة في إثباتها الاستدلال على صحتها باقتران الحكم بها ، وذلك لا يدل ، إذ الحكم يقترن بما يلازم العلة وليس بعلة ، كاقتران تحريم الخمر بلونها وطعمها وريحها ، وإنما العلة الإسكار .

وذكر الغزالي من الطرق الفاسدة في هذا الباب ثلاث طرق :

أحدها : سلامة العلة عن علة تفسدها وتقتضي نقيض حكمها .

الثاني : اطرادها وجريانها في حكمها .

الثالث : اطرادها وانعكاسها بناء على أن الدوران لا يفيد العلية ، والطريقان الأولان مستفادان من " المختصر " .

وأما الثالث : فممنوع بما سبق من إفادة الدوران العلية ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

قوله : " وإذا لزم من مصلحة الوصف مفسدة مساوية أو راجحة " إلى [ ص: 421 ] آخره .

أي : إذا كان الوصف المصلحي المناسب يستلزم ، أو يتضمن مفسدة مساوية لمصلحته ، أو راجحة عليها ، اختلفوا فيه ، هل تلغى مصلحته ، وتختل مناسبته أم لا ؟ " فألغاها قوم " منهم الآمدي في " المنتهى " وأبقاها آخرون .

حجة من ألغاها : أن " المناسب ما تلقته العقول السليمة بالقبول " وما عارض مصلحته مفسدة مساوية أو راجحة " ليس كذلك " فلا يكون مناسبا ، " إذ ليس من شأن العقلاء المحافظة على تحصيل دينار " على وجه يلزم منه " خسارة " دينار أو دينارين ، لأن الأول ترجيح من غير مرجح لتكافؤ المصلحة والمفسدة ، والثاني التزام للمفسدة الراجحة .

وحجة من أبقاها : أن " المصلحة من متضمنات الوصف ، والمفسدة من لوازمه " أي : قد تضمن مصلحة ولزمته مفسدة ، فوجب اعتبارهما لاختلاف جهتهما ، " كالصلاة في الدار المغصوبة " تعتبر طاعة من وجه; معصية من وجه على ما سبق ، " إذ ينتظم من العاقل أن يقول : لي مصلحة في كذا ، لكن يصدني عنه ما فيه من ضرر كذا " كما يقول التاجر : لي مصلحة في ركوب البر ، أو البحر للتجارة ، وتحصيل الربح ، لكن يصدني عنه ما فيه من المخاطرة بالمال ، وقد يقول الشخص : لي في التزوج مصلحة الإعفاف ، لكن فيه مفسدة إلزام المؤنة ، ويقول المسافر : لي في الفطر مصلحة الترخص والتخفيف ، لكن فيه مفسدة فوات الأجر .

وبالجملة ، فمعارضة ضد الشيء له لا يبطل حقيقته ، فكذلك المفسدة إذا [ ص: 422 ] عارضت المصلحة ، لا تبطل حقيقتها .

نعم قد يخفى أثرها ، ويمنع اعتبارها ، بالعرض إذا ساوتها ، أو ترجحت عليها ، كما قررنا في باب الاستصلاح والمصلحة المرسلة ، وأكثر من يعتبر المصلحة مع المفسدة الأطباء في الأدوية والأغذية ، لأنهم يقولون : الغذاء الفلاني نافع من جهة كذا; مضر من جهة كذا ، ويصلحه كذا ، " وقد قال الله تعالى " في شأن الخمر والميسر : قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ البقرة : 219 ] ، " فأثبت النفع " وهو مصلحة ، " مع تضمنه للإثم ، وهو مفسدة ، ونفع الخمر ظاهر لا يخفى ، كما قال الحريري :


فإن المدام تقوي العظام وتشفي السقام وتنفي الترح



والأطباء كثيرا ما يضعونها في أنواع المداواة والمعالجات ، ورخص بعض العلماء في التداوي بها .

وأما الميسر ، وهو القمار; فنفعه تكثير المال ، إذ هو تجارة محرمة كالربا ، وكانوا في الجاهلية يوسعون بما يستفيدون منه على المساكين ، ويذمون من لا يحضره ، ويقدم عليه ، ويسمونه البرم ، أي : البخيل .

وأما مفسدتهما التي ترتب عليها الإثم ، فإفساد العقل في الخمر ، والتغابن بأكل المال بالباطل في الميسر ، والنزاع المذكور إنما هو في اختلال [ ص: 423 ] المناسب المصلحي لمعارضته مثله أو أرجح منه من المفسدة . أما العمل به ، فممنوع عند من أثبت اختلال المناسبة ، أما من لم يثبته ، تصرف في العمل به على ما سبق تقريره في مراعاة المصالح والمفاسد بالترجيح بينها ، والواجب هاهنا امتناع العمل لما سبق من لزوم الترجيح بلا مرجح ، أو التزام المفسدة الراجحة ، فيستوي الفريقان في ترك العمل ، لكن الأول يتركه لاختلال مناسبة الوصف ، والآخر يتركه لمعارضة المقاوم أو الراجح ، فترك العمل متفق عليه ، لكن طريقه مختلف ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية