صفحة جزء
[ ص: 424 ] وقياس الشبه : قيل : إلحاق الفرع المتردد بين أصلين بما هو أشبه منهما ، كالعبد المتردد بين الحر والبهيمة ، والمذي المتردد بين البول والمني .

وقيل : الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة ما من جلب مصلحة أو دفع مفسدة ، إذ الوصف إما مناسب معتبر كشدة الخمر ، أو لا ، كلونها وطعمها ، أو ما ظن مظنة للمصلحة واعتبره الشارع في بعض الأحكام ، كإلحاق مسح الرأس بمسح الخف في نفي التكرار ، لكونه ممسوحا تارة ، وبباقي أعضاء الوضوء في إثباته لكونه أصلا في الطهارة أخرى .

فالأول : قياس العلة ، وكذلك اتباع كل وصف ظهر كونه مناطا للحكم .

والثاني : طردي باطل .

والثالث : الشبه ، وفي صحة التمسك به قولان لأحمد والشافعي - رضي الله عنهما - ، والأظهر : نعم لإثارته الظن ، خلافا للقاضي .

والاعتبار بالشبه حكما لا حقيقة خلافا لابن علية .

وقيل : بما يظن أنه مناط للحكم .


قوله : " وقياس الشبه " إلى آخره .

اعلم أن ظاهر كلام أهل اللغة والأصول الفرق بين المثل والشبه والمماثلة والمشابهة ، وإن مثل الشيء ما ساواه من كل وجه في ذاته وصفاته ، وشبه الشيء وشبيهه ما كان بينه وبينه قدر مشترك من الأوصاف .

وحينئذ تتفاوت المشابهة بينهما قوة وضعفا بحسب تفاوت الأوصاف المشتركة بينهما كثرة وقلة ، فإذا اشتركا في عشرة أوصاف ، كانت المشابهة بينهما كثرة أقوى مما إذا اشتركا في تسعة فما دون ، وعلى هذا القياس ، وهذا [ ص: 425 ] هو الأمر المتعارف ، فإن أطلق لفظ الشبيه على المثل ، أو لفظ المثل على الشبيه ، فهو مجاز باعتبار ما بينهما من القدر المشترك من الأوصاف .

قوله : " قيل : إلحاق الفرع " أي : اختلف في تعريف قياس الشبه ، فقيل : هو " إلحاق الفرع المتردد بين أصلين بما هو أشبه به منهما " أي : من ذينك الأصلين . وهذا قول القاضي يعقوب من أصحابنا وغيره .

ومن أمثلته تردد العبد بين الحر والبهيمة ، في التمليك ، فمن قال : يملك بالتمليك; قال : هو إنسان يثاب ويعاقب وينكح ويطلق ، ويكلف بأنواع من العبادات ، ويفهم ويعقل ، وهو ذو نفس ناطقة ، فأشبه الحر . ومن قال : لا يملك ; قال : هو حيوان يجوز بيعه ورهنه وهبته وإجارته وإرثه أشبه الدابة .

وعلى هذا خرج الخلاف في ضمانه إذا تلف بقيمته ، وإن جاوزت دية الحر إلحاقا له بالبهيمة والمتاع في ذلك ، وبما دون دية الحر بعشرة دراهم تشبيها له به ، وتقاعدا به عن درجة الحر .

وكذا المذي تردد بين البول والمني ، فمن حكم بنجاسته ، قال : هو خارج من الفرج لا يخلق منه الولد ، ولا يجب به الغسل ، أشبه البول ، ومن حكم بطهارته ، قال : هو خارج تحلله الشهوة ، ويخرج أمامها ، فأشبه المني ، وزعم بعضهم أن الخلاف في طهارة المذي مبني على أنه جزء من المني ، أو رطوبة ترخيها المثانة .

واعلم أنك إذا تفقدت مواقع الخلاف من الأحكام الشرعية ، وجدتها نازعة إلى الشبه بهذا التفسير ، فإن غالب مسائل الخلاف تجدها واسطة بين طرفين تنزع إلى كل واحد منهما بضرب من الشبه فيجذبها أقوى الشبهين إليه ، فإن [ ص: 426 ] وقع في ذلك نزاع ، فليس في هذه القاعدة ، بل في أي الطرفين أشبه بها حتى يلحق به . وقد ذكرت جملة من أمثلة ذلك في " القواعد الكبرى " و " تلخيص الحاصل " .

ومن الأصوليين من فسر قياس الشبه بما اجتمع فيه مناطان لحكمين مختلفين ، لا على سبيل الكمال ، إلا أن أحدهما أكمل من الآخر ، وهذا نحو من الذي قبله .

ومنهم من فسره بما عرف المناط فيه قطعا; غير أنه يفتقد في آحاد الصور إلى تحقيقه . ذكر هذين الآمدي; قال : وفسره القاضي أبو بكر بقياس الدلالة ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى .

قال القرافي : قال القاضي أبو بكر : هو - يعني الشبه - الوصف الذي لا يناسب لذاته ، ويستلزم المناسب لذاته ، كقولنا ، الخل مائع لا تنبني القنطرة على جنسه ، فلا تزال به النجاسة كالدهن ، فقولنا : لا تنبني القنطرة على جنسه ليس مناسبا في ذاته ، لكنه مستلزم للمناسب ، إذ العادة أن القنطرة لا تبنى على الأشياء القليلة ، بل على الكثيرة ، كالأنهار ونحوها ، والقلة مناسبة لعدم مشروعية الطهارة بما اتصف بها من المائعات ، لأن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود ، إذ تكليف الكل ما لا يجده إلا البعض بعيد عن القواعد والحكمة .

قال بعضهم : ولهذا إذا قل الماء ، واحتيج إليه ، سقط حكمه في اعتبار الطهارة ، وعدل عنه إلى التيمم .

قال القاضي : فالوصف إما مناسب بذاته ، أو لا ، فالأول هو المناسب [ ص: 427 ] المعتبر ، والثاني ، إما أن يكون مستلزما للمناسب ، أو لا ، فالأول الشبه ، والثاني الطرد .

قلت : هذا التقسيم يشبه ومتجه أن يكون صحيحا ، لكن تمثيله لما يستلزم المناسب بقوله : مائع لا يبنى على جنسه القناطر فيه وما وجد به مناسبته بمحل بعيد ، والأكثرون على أن ذلك طرد محض لا مناسب ، ولا مستلزم للمناسب ، وكذلك قولهم : مائع لا تجري فيه السفن أو لا يصاد منه السمك ونحو ذلك .

وفسره بعضهم بالوصف الذي يوهم المناسبة من غير ظهور لوجودها ولا عدمها .

قال الآمدي : والخلاف في هذه الإطلاقات وإن كان راجعا إلى اللفظ; غير أن الأشبه منها إنما هو هذا الأخير .

قلت : وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ، وهو معنى القول الآخر في " المختصر " فهذه تعريفات ذكرت للشبه ، ذكرناها تكملة للفائدة ، ثم عدنا إلى ما في " المختصر " .

قوله : " وقيل : الجمع " هذا تعريف آخر لقياس الشبه ، وهو : " الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة ما " . وقال في " الروضة " : على حكمة الحكم " من جلب مصلحة ، أو دفع مفسدة " وهذا نحو مما اختاره الآمدي ، وذلك لأن الأوصاف ، يعني التي اقترن بها الحكم في الأصل ثلاثة أقسام ، لأنها " إما مناسب معتبر " أي : تعلم مناسبته للحكم ، واعتبار الشرع له ، لأجل مناسبته قطعا ، كمناسبة شدة الخمر للتحريم ، والقتل للقصاص ، والقطع للسرقة ، والزنا للحد ، وغير ذلك من الأوصاف المناسبة لأحكامها ، [ ص: 428 ] وهي كثيرة جدا ، أو ليس مناسبا ولا معتبرا ، كلون الخمر وطعمها ، إذ لا يناسبان تحريمها ، وكقول القائل : إنما قتل القاتل ، وحد السارق والزاني والقاذف; ووجبت الكفارة على الأعرابي ، لكونه أسود ، أو أبيض ، أو طويلا ، أو قصيرا ونحو ذلك ، فهذا طرد محض نعلم قطعا أن الشرع لم يعلق الحكم عليه لما سبق من أن تصرفه لا يخرج عن تصرف العقلاء ، وهذا خارج عنه ، فلا يكون تصرفا له ، وأيضا لإلفنا منه في موارد تصرفه ومصادرها عدم الالتفات إلى مثل هذا الوصف ، فهذان الطرفان معلوما الحكم .

أما القسم الثالث; وهو " ما ظن " أنه " مظنة للمصلحة " أي : يوهم اشتماله على مصلحة الحكم ، وظننا أنه مظنتها من غير قطع بذلك ، ورأينا الشارع قد اعتبره في بعض الأحكام ، فهذا هو الشبهي ، وسمي بذلك لتردده بالشبه بين القسمين الأولين ، وهما المناسب والطردي ; لأنه من حيث إنا لم نقطع بانتفاء مناسبته ، واشتماله على المصلحة ، بل ظننا ذلك فيه أشبه المناسب المقطوع باشتماله على المصلحة ، ومن حيث إنا لم نقطع بمناسبته واشتماله على المصلحة أشبه الطردي المقطوع بخلوه عن المناسبة المصلحية .

وذلك كما ألحقنا نحن والحنفية " مسح الرأس بمسح الخف في نفي " تكرار المسح " لكونه ممسوحا " فقلنا : ممسوح في الطهارة ، فلا يسن تكراره ، كمسح الخف ، وألحقه الشافعي " بباقي أعضاء الوضوء في " إثبات التكرار " لكونه أصلا في الطهارة " فقال : مسح الرأس أصل في طهارة الوضوء ، فسن تكراره على الوجه واليدين والرجلين .

وفي كل واحد من القياسين جامع وفارق ، إذ الأول قياس ممسوح على [ ص: 429 ] ممسوح ، فالمسح جامع ، ولكنه قياس أصل على بدل ، فهذا هو الفارق ، إذ مسح الرأس أصل في الوضوء ، ومسح الخف بدل فيه عن غسل الرجلين ، والثاني قياس أصل على أصل ، فهذا هو الجامع ، لكنه قياس ممسوح على مغسول ، فهذا هو الفارق .

ومن أمثلته : قولنا في الوضوء : طهارة ، أو طهارة حكمية ، أو طهارة موجبها في غير محل موجبها ، فاشترطت لها النية كالتيمم ، وإلى هذا أشار الشافعي - رضي الله عنه - بقوله : طهارتان ، فكيف يفترقان ؟ ، وهو كقول الصديق - رضي الله عنه - لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة .

قلت هذا أجود ما قرر في قياس الشبه وعليه الأكثرون ، ولما قرره الغزالي بمعناه قال : وإن لم يرد الأصوليون بقياس الشبه هذا ، فلست أدري ما الذي أرادوه ، وبم فصلوه عن الطرد المحض ، وعن المناسب ؟ !

قلت : حاصل الأمر أن الوصف الشبهي شأنه أن يكون مرتفعا عن الطردي ، وإلا لم يعتبر باتفاق ، ومنحطا عن المناسب ، وإلا لم يختلف فيه عند من اعتبر المناسبة ، ومن استقرأ أقيسة الفقهاء القائلين بالشبه ، رأى أقيستهم تارة يتخيل فيها الاشتمال على المناسبة المصلحية ، وتارة لا يتخيل فيها شيء من ذلك .

قوله : " فالأول قياس العلة " إلى آخره ، أي : فالأول من أقسام الوصف الثلاثة المذكورة وهي المناسب ، والطردي ، والشبهي .

فالجمع بين الأصل والفرع بالوصف المناسب هو قياس العلة ، لأن الحكم ثبت في الفرع بعلة الأصل ، كثبوت التحريم في النبيذ بعلة الإسكار التي ثبت بها تحريم الخمر ، وإثبات القصاص في المثقل بعلة القتل العمد [ ص: 430 ] والعدوان التي ثبت بها في المحدد ، " وكذلك اتباع كل وصف ظهر كونه مناطا للحكم " بنص أو إجماع أو غير ذلك ، فهو من قبيل قياس العلة ، لأنا لا نعني بقياس العلة إلا اتباع مناط الحكم في الجمع بين الأصل والفرع به .

" والثاني : طردي " وهو الجمع بين الأصل والفرع بوصف يعلم خلوه عن المصلحة ، وعدم التفات الشرع إليه كما سبق من قولهم : مائع لا يبنى على جنسه القناطر ، أو لا يصاد منه السمك ، أو لا تجري عليه السفن ، أو لا ينبت فيه القصب ، أو لا يعوم فيه الجواميس ، أو لا يزرع عليه الزروع ، ونحو ذلك ، أو يقال : أعرابي أو إنسان ، فوجبت عليه الكفارة قياسا على الأعرابي المذكور في الحديث .

" والثالث : الشبه " أي : قياس الشبه وهو الجمع بين الأصل والفرع بوصف شبهي ، وهو ما نزل عن المناسب وارتفع عن الطردي ، أو ما توهم اشتماله على المصلحة ، ولم يقطع بها فيه على ما سبق بيانه والخلاف فيه .

فإن قيل : كل قياس فهو مشتمل على شبه واطراد ، إذ الوصف في قياس العلة في الفرع يشبه الوصف في الأصل لأنه مثله ، والمثلية أخص من المشابهة ، والأعم لازم للأخص ، كوصف الإسكار في النبيذ هو مساو لوصف الإسكار في الخمر في ماهية الإسكار ، وهو مطرد أيضا ، وكذلك قياس الشبه الوصف فيه مطرد ، إذ بدون الاطراد لا يكون شبها معتبرا ، وإذا كان كل قياس مشتملا على الشبه والاطراد ، فلم خص كل واحد من الأقيسة باسمه العلم عليه ، كقياس العلة والطرد والشبه ؟ .

فالجواب : أن كل واحد منها أضيف إلى أخص صفاته وأقواها ، لأن العلية أخص صفات المناسب المؤثر ، والطرد أخص صفات الطردي ، والشبه أخص [ ص: 431 ] صفات الشبهي ، وهذا كما يقسم الجسم إلى نباتي وحيواني وإنساني إضافة لكل قسم منها إلى أخص أوصافه ، وهي النباتية في النبات ، والحيوانية في الحيوان ، والإنسانية في الإنسان .

قال الغزالي : أنواع القياس أربعة : المؤثر ، ثم المناسب ، ثم الشبه ، ثم الطرد ، فأدناها الطردي الذي ينبغي أن ينكره كل قائل بالقياس ، وأعلاها المؤثر وهو الذي في معنى الأصل ، وهو الذي ينبغي أن يقر به كل منكر للقياس . قال : ويعرف كون المؤثر مؤثرا بنص ، أو إجماع ، أو سبر حاصر .

قوله : " وفي صحة التمسك به " أي : بقياس الشبه " قولان لأحمد والشافعي - رضي الله عنهما - ، والأظهر " - يعني من القولين - " نعم " أي : يصح التمسك به " لإثارته الظن خلافا للقاضي " أبي يعلى وغيره في أنه لا يصح التمسك به .

حجة من صحح التمسك به من وجهين :

أحدهما : أنه يثير ظنا غالبا بثبوت حكم الأصل في الفرع ، وكل ما أثار ظنا غالبا ، فهو متبع في العمليات ، فالقياس الشبهي متبع في العمليات ، ولا نعني بصحة التمسك به إلا هذا .

بيان الأولى; وهي إثارته الظن هو أنا إذا رأينا حكما ثبت في محل مشتمل على أوصاف غلب على ظننا أن تلك الأوصاف مشتملة على علة الحكم ، ثم إذا رأينا محلا آخر قد وجدت فيه تلك الأوصاف أو أكثر ، غلب على ظننا أن هذا المحل كذلك المحل في اشتماله على المصلحة ، وحينئذ [ ص: 432 ] يغلب على ظننا استواؤهما في الحكم .

بيان الثانية; وهي أن ما أثار الظن متبع ، بالقياس على العموم وخبر الواحد ونحوهما .

الوجه الثاني : أن التعبد في حكم الأصل خلاف الأصل ، فهو معلل بالمصلحة ، لكن المصلحة لا منصوص عليها ، ولا ظاهرة المناسبة ، فتعين اشتمال أوصاف المحل عليها ، فإذا شارك محل الأصل محل آخر في تلك الأوصاف ، وجب إلحاقه به في الحكم ، لغلبة الظن تساويهما فيه، وهذا الوجه في معنى الأول .

قال الشيخ رشيد الدين الحواري في تقرير هذا : إن لله - عز وجل - في كل حكم يثبته سرا وحكمة ، فهذا الحكم الثابت في الأصل لا يخلو عن مصلحة ، ولا يعرف غير تلك المصلحة ، وفي محل الإجماع أوصاف يعرف أن بعضها لا يخلو عن المصلحة قطعا ، ويوهم اشتمال البعض على المصلحة ، فإذا جمع بين الأصل والفرع بما يوهم اشتماله على المصلحة; كان هذا قياسا شبهيا .

مثاله : أن يقول : حرم الشارع الربا في البر والشعير ، فلا يخلو من أن يكون حرمه لكونه مكيلا ، أو لكونه مطعوما ، ونعلم أنه حرمه لمصلحة لا نعلم عينها ، لكن الأشبه أن المصلحة في ضمن الطعم ، لكونه مظنة المصالح الكثيرة ، لكونها قوام العالم المعينة على العبادة بخلاف الكيل ، إذ لا مصلحة فيه .

قلت : هذا المثال صحيح ، لكن تعليل التحريم بالطعم المتضمن لمصلحة قوام العالم فاسد الوضع ، لأن ما كان قواما للعالم هو من أكبر النعم [ ص: 433 ] فلا يناسب التحريم لأجله ، اللهم إلا أن يقال بأنه حرم التفاضل تحصيلا للتناصف في هذه النعمة ، ودفعا للتغابن فيها ، فيكون ذلك صحيحا مناسبا ، والتعليل بالكيل أنسب ، لأن المعقول من تحريم الربا نفي التغابن في الأموال ، وأكلها بالباطل ، فإضافته إلى ما يتحقق به التفاضل وهو الكيل والوزن أولى .

قال : والفرق بين الشبه والمناسبة أن المناسبة يتعين فيها المصلحة بخلاف الشبه ، فإن المصلحة فيه مطلقة; يعني مبهمة .

قلت : وحاصل هذا الفرق أن المناسب يؤثر في عين المصلحة ، والشبه يؤثر في جنسها ، فبينهما من الفرق نحو ما بين الوصف المؤثر والملائم والغريب .

حجة القاضي في منع التمسك بالشبه وهو القاضي المالكي - أحسبه عبد الوهاب - ; وهو أن الدليل ينفي العمل بالظن مطلقا لقوله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ النجم : 28 ] ; خالفناه في قياس المناسبة للدليل الراجح والاتفاق ، ففي قياس الشبه يبقى على موجب الدليل ، ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - إنما اجتمعت على المناسبة لا على الشبه ، فوجب أن لا يكون حجة .

وأجيب بوجوه :

أحدها : المعارضة بقوله تعالى : فاعتبروا ياأولي الأبصار [ الحشر : 2 ] ، وقياس الشبه نوع من الاعتبار .

[ ص: 434 ] والثاني : قوله عليه السلام : نحن نحكم بالظاهر وقياس الشبه يفيد الظاهر ، فيجب الحكم به عملا بالنص .

الثالث : أنه مندرج في عموم قول معاذ - رضي الله عنه - أجتهد رأيي وقد صوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيجب أن يكون صوابا .

الرابع : ما أشرنا إليه من دلالة قياس إخراج الموتى من الأرض على إخراج الحب منها على قياس الشبه عند ذكر أدلة أصل القياس .

الخامس : أن القاضي خالف مذهبه حيث احتج بقياس الشبه كثيرا في " المجرد " و " التعليقة الكبرى " وغيرهما .

قوله : " والاعتبار بالشبه حكما لا حقيقة خلافا لابن علية ، وقيل : بما يظن أنه مناط للحكم " .

هذه المسألة ليست من مسائل " الروضة " ومعناها أنه إذا صح التمسك بقياس الشبه ، فهل المعتبر بالشبه الحكمي ، أو بالشبه الحقيقي ، أو بما غلب على الظن أنه مناط الحكم منهما ؟ فيه ثلاثة أقوال :

مثال الشبه الحكمي : شبه العبد بالبهيمة في كونهما مملوكين ، والملك أمر حكمي .

ومثال الشبه الحقيقي : شبهه بالحر في كونهما آدميين وهو وصف حقيقي .

قال القرافي : أوجب ابن علية الجلسة الأولى قياسا على الثانية في الوجوب ، وهذا شبه صوري لا حكم شرعي .

مثال الثالث : أنا ننظر في البنت المخلوقة من الزنى ، فهي من حيث الحقيقة ابنته ، لأنها خلقت من مائه ، ومن حيث الحكم أجنبية منه ، لكونها لا [ ص: 435 ] ترثه ولا يرثها ، ولا يتولاها في نكاح ولا مال ، ويحد بقذفها ، ويقتل بها ، ويقطع بسرقة مالها ، فنحن ألحقناها ببنته من النكاح في تحريم نكاحها عليه نظرا إلى المعنى الحقيقي ، وهو كونها من مائه ، والشافعي ألحقها بالأجنبية في إباحتها له نظرا إلى المعنى الحكمي ، وهو انتفاء آثار الولد بينهما شرعا فقد صار كل من الفريقين إلى اعتبار الوصف الذي غلب على ظنه أنه مناط الحكم في الأصل ، وهذا هو الأشبه بالصواب ، لأن الظن واجب الاتباع ، وهو غير لازم أبدا للشبه حكما ، ولا للشبه حقيقة ، بل يختلف باختلاف نظر المجتهد ، فيلزم كل واحد منهما تارة ، والله تعالى أعلم بالصواب .

واعلم أن قياس الشبه ينتفع به الناظر في استخراج الحكم دون المناظر لخصمه ، لأن الخصم لو منع حصول الظن من الوصف الشبهي ، لاحتاج المستدل إلى بيان اشتماله على المصلحة ، ولا طريق له إلى ذلك إلا السبر والتقسيم . وحينئذ يبقى قياس الشبه واسطة لاغية لا أثر لها .

التالي السابق


الخدمات العلمية