صفحة جزء
[ ص: 440 ] تنبيه :

حيث العلة الشرعية أمارة يجوز أن تكون وصفا عارضا ، كالشدة في الخمر ، ولازما ; كالنقدية والصغر ، وفعلا; كالقتل والسرقة ، وحكما شرعيا نحو : تحرم الخمر ، فلا يصح بيعها; كالميتة ، ومفردا ومركبا ومناسبا وغير مناسب ووجوديا وعدميا ، ويجوز أن تكون في غير محل حكمها ، كتحريم نكاح الأمة لعلة رق الولد .

ولا تنحصر أجزاؤها في سبعة أوصاف ، خلافا لقوم ، والله أعلم .


قوله : " تنبيه : حيث العلة الشرعية أمارة " إلى آخره .

هذا ذكر أحكام العلة الشرعية وما يجوز فيها وما لا يجوز ، وقوله : " حيث العلة الشرعية " : لما كانت العلة الشرعية " أمارة " جاز فيها ما ذكر من الأمور ، لأنها معرفة للحكم ، لا موجبة له ، والأمور المذكورة فيها لا تنافي كونها معرفة ، إذ لا يمتنع أن يجعل الشارع كل واحد من الأمور المذكورة علما على الحكم .

فمن الأمور المذكورة : " أن تكون " العلة " وصفا عارضا ، كالشدة في الخمر " هي علة التحريم ، وهي وصف عارض ، لأنه عرض للعصير بعد أن لم يكن .

[ ص: 441 ] ومنها أن تكون وصفا " لازما كالنقدية " في الذهب والفضة ، أي : كونهما نقدا ، أي : عوضا ينقد في البيع وغيره من المعاوضات بالأصالة ، ولا جرم من صحح التعليل بالعلة القاصرة علل تحريم الربا في النقدين بالنقدية .

وأما الصغر ، فقد علل به ثبوت الولاية في المال ، والإجبار في النكاح ، وجعله في " الروضة " من قبيل الوصف اللازم كالنقدية ، وهو محل تردد ، إذ الصغر كالواسطة بين العارض واللازم ، لأنه من حيث إنه أصل في الصغير لم يعرض بعد أن لم يكن أشبه النقدية في اللزوم ، ومن حيث إنه يزول بالكبر أشبه الشدة المسكرة في العروض ، وكذلك يجوز التعليل بالأوصاف العرفية كالشرف المناسب للتعظيم والإكرام ، وتحريم الإهانة والخسة المناسبة لأضداد ذلك .

ومنها : أن تكون العلة " فعلا ، كالقتل والسرقة " علل بهما القصاص والقطع .

ومنها : أن تكون " حكما شرعيا ، نحو " قولنا : " تحرم الخمر ، فلا يصح بيعها كالميتة " فالعلة الجامعة بينهما التحريم ، وهو حكم شرعي علل به حكم شرعي ، وهو فساد البيع ، وخالف بعض الأصوليين .

لنا : لا يمتنع أن يجعل الشارع بعض أحكامه معرفات لبعض ، وقد قررنا أن علل الشرع أمارات معرفات .

احتجوا بوجهين :

أحدهما : أن شأن الحكم أن يكون معلولا ، فلو جعل علة ، لأفضى إلى [ ص: 442 ] قلب الحقائق بجعل العلة معلولا والمعلول علة .

الثاني : أن الحكمين متساويان في الحكمية ، فجعل أحدهما علة دون الآخر ترجيح من غير مرجح .

والجواب عن الأول : أنه غير مناف لما نقول ، إذ الحكم معلول لعلته ، وعلة لمعلوله ، فيكون علة ومعلولا بالإضافة ، إذ لا يمتنع أن يكون الحكم مناسبا لتعريف حكم آخر ، وذلك الآخر مناسب لتعريف حكم آخر ، كقولنا في الخمر : نجس ، فلا يجوز بيعه ، كالميتة ، ثم نقول : لا يجوز بيعه ، فلا يجوز رهنه ، كالحر ، فالنجاسة أثرت في عدم جواز البيع ، وعدم جواز البيع عرف عدم جواز الرهن .

وعن الوجه الثاني : بمنع كونه ترجيحا من غير مرجح بل المرجح المناسبة ، والنجاسة مناسبة للتحريم في قولنا : نجس فيحرم ، ولو عكسنا فقلنا : حرام فينجس; لم يصح ولم يناسب ، إذ الحرير والذهب يحرم لبسهما ، وليسا نجسين .

ومنها : أن تكون العلة وصفا " مفردا " كقولنا في اللواط : زنا ، فأوجب الحد كوطء المرأة ونحو ذلك ، وأن تكون وصفا " مركبا " كقولنا : قتل عمد عدوان ، فأوجب القصاص كالمثقل ، فالعلة مركبة من ثلاثة أوصاف ، وخالف قوم في جوازه .

لنا : أن المصلحة قد تتوقف على التركيب ، فيتعين اعتباره ، كما تتوقف مناسبة القود في القتل على كونه عمدا عدوانا ، ومناسبة الحد في الزنا على [ ص: 443 ] كونه عالما مختارا ، واحتج الخصم بما لا حاصل له وهو شبيه السفسطة ، فلم نر الإطالة بذكره .

ومنها أن تكون العلة وصفا " مناسبا " كالقتل والسرقة والقذف ، والردة والسكر لأحكامها ، " وغير مناسب " كالردة وأكل لحم الجزور ومس الفرج مع عدم الشهوة لنقض الوضوء .

ومنها : أن تكون وصفا " وجوديا " كما ذكر ، وكقولنا : جاز بيعه ، فجاز رهنه ، " وعدميا " كقولنا : لا يجوز بيعه ، فلا يجوز رهنه ، وفي المسافر والمرأة والعبد لا تجب عليهم الجمعة ، فلا تنعقد بهم ، وفي العبد لا يلي أمر ولده فلا يلي أمر غيره ، وأشباه ذلك .

ومنها : أن العلة " يجوز أن تكون في غير محل حكمها ، كتحريم نكاح الأمة ، لعلة رق الولد " فإن رق الولد وصف قائم به ، أو معنى إضافي بينه وبين سيده ، وتحريم نكاح الأمة وصف قائم بالنكاح ، أو معنى مضاف إليه ، فبالجملة رق الولد ليس في محل تحريم النكاح .

وتوجيه ذلك كله ما ذكرناه من أن علل الشرع أمارات على أحكامه ، فجاز أن تكون هذه الأوصاف بهذه الكيفيات أمارات على الأحكام ، إذ لا يلزم من فرض وقوع ذلك محال ، ولا منع منه سمع ، وقد ساعد ذلك في الأمثلة المذكورة .

ومما لم يذكر في " المختصر " ولا أصله تعليل الحكم بمحله ، كتعليل [ ص: 444 ] تحريم الخمر بكونه خمرا ، وتحريم الربا في البر بكونه برا يجوز لما ذكرنا . وخرجه الإمام على التعليل بالعلة القاصرة ، لأن المحلية قاصرة على المحل ، كالنقدية القاصرة على النقد ، وهو تخريج حسن ، والعلة القاصرة أعم من المحل ، لأن المحل ما وضع له اللفظ ، كالخمر والبر ، والعلة القاصرة قد تكون وصفا اشتمل عليه محل النص لم يوضع له اللفظ كالنقدية ، فكل محل علة قاصرة ، وليس كل علة قاصرة محلا .

واتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم . ذكره القرافي ، ولم يفصح بالفرق بينه وبين التعليل بالمحل ، غير أنه قال : لأن الاسم بمجرده طردي محض والشرائع شأنها رعاية المصالح .

قلت : فتحقيق الفرق يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد التعليل بالاسم الجامد الذي لا ينبئ عن صفة مناسبة تصلح إضافة الحكم إليها بخلاف الخمر الدال على التخمير المناسب للتحريم ، وهذا يشكل بالبر ، فإنه قد جاز التعليل به وهو جامد .

الوجه الثاني : أن يكون المراد التعليل بالتسمية ، نحو : حرمت الخمر لتسميتها خمرا ، والتفاضل في البر لتسميته برا ونحو ذلك ، إذ التسمية لا تأثير لها ، بخلاف المعنى المستفاد من المحل بإشارته إليه ، أو تنبيهه عليه ، وربما التفت الكلام هنا إلى الاسم والمسمى ، فمن قال : هما واحد ، أو متغايران ، والمراد المسمى الذي هو مدلول الاسم ، فحكمه حكم سائر العلل ، [ ص: 445 ] إن كان مؤثرا ، أو مناسبا ، علل به ، وإلا فلا . ومن أراد الاسم الذي هو اللفظ ، لم يعلل به قطعا .

وإذا كان الوصف منضبطا ، فالتعليل به ، وإن لم يكن منضبطا ، فهل يجوز التعليل بحكمته وهي التي لأجلها صار الوصف علة ، وإن شئت قلت : هي الغاية المطلوبة من التعليل ; وهي جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة ، كحفظ المال والعقل والنسب ، الذي جعل وصف السكر والسرقة والزنا علة لوجوب الحد لتحصيله ؟ فيه خلاف .

حجة من أجازه هو أن الوصف وسيلة والحكمة مقصد ، وإذا جاز التعليل بالوسيلة ، فبالمقصد نفسه أولى .

حجة من منعه من وجهين :

أحدهما : لو جاز التعليل بالحكمة ، لامتنع بالوصف ، إذ الأصل لا يعدل عنه إلا عند تعذره ، والحكمة ليست متعذرة ، لكن قد جاز التعليل بالوصف مع وجود الحكمة وإمكان اعتبارها اتفاقا ، فيلزم أن لا يجوز التعليل بالحكمة .

الوجه الثاني : لو جاز التعليل بالحكمة ، لزم تخلف الحكم عن علته ، وهو نقض لها ، وخلاف الأصل ، وهو باطل .

وبيان ذلك بمثالين :

أحدهما : أن وصف الرضاع سبب تحريم النكاح ، وحكمته صيرورة جزء المرضعة - وهو لبنها - جزءا للرضيع أشبه منه الذي صار جزءا لولدها الحقيقي ، فحرم عليها الرضيع بالقياس عليه ، وهذا سر قوله - عليه السلام - : [ ص: 446 ] الرضاع لحمة كلحمة النسب ثم إن صبيا أجنبيا لو أكل قطعة من لحم امرأة حتى صارت جزءا له ، لم يحرم عليها ، مع أن الحكمة في الرضاع موجودة .

المثال الثاني : أن حكمة تحريم الزنا حفظ الأنساب من الاختلاط والضياع ، فلو عللنا التحريم ووجوب الحد بها ، لزم أن من فر بصبيان صغار عن آبائهم ، وغيبهم عنهم حتى صاروا رجالا ، ولم يعرف بعضهم بعضا واشتبهت أنسابهم ، لزمه الحد لوجود مقتضيه ، وليس الأمر كذلك .

قلت : المسألة محل نظر ، والأشبه جواز التعليل بالحكمة . والجواب عن حجة المانعين يستدعي طولا وهو ظاهر للفطن .

قوله : " ولا تنحصر " أي : حيث تقرر أن العلة يجوز أن تكون مركبة من أوصاف ، فلا تنحصر " أجزاؤها في " خمسة أو " سبعة أوصاف ، خلافا لقوم " من الأصوليين في قولهم : تنحصر في ذلك ، ولعل حجتهم القياس على صفات الله - سبحانه وتعالى - الذاتية ، فإن بعضهم يحصرها في سبع : العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام على خلاف بينهم في ذلك .

[ ص: 447 ] ولنا : أن المصلحة الشرعية كما تحصل بالوصف الواحد ، وتقف عليه ، فقد تقف على سبعة أوصاف وأقل وأكثر ، وقياسها على صفات الله تعالى غير صحيح لوجوه :

أحدها : أن انحصار صفاته - عز وجل - في عدد معلوم غير متفق عليه .

قلنا : التزام عدم التناهي فيها كذاته سبحانه وتعالى .

الوجه الثاني : أن صفات البارئ جل جلاله واجبة ، وأوصاف العلة الشرعية ممكنة ، فلا يصح القياس لكثرة الفروق المؤثرة بين الواجب والممكن .

الوجه الثالث : أن أوصاف علة الشرع توجب حكما حادثا في محالها ، بخلاف صفات الله - عز وجل - لتنزه ذاته عن لحوق الحوادث لها على ما زعم بعض المتكلمين ، والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية