صفحة جزء
[ ص: 448 ] ويجري القياس في الأسباب والكفارات والحدود ، وهو قول الشافعية خلافا للحنفية .

لنا : إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على القياس من غير تفصيل ، ولأنهم قالوا في السكران : إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فيحد حد المفتري; وهو قياس سببي ، ولأن منع القياس إن كان مع فهم المعنى ، فتحكم وتشه ، وإلا فوفاق ، ولأنه مفيد للظن ، وهو متبع شرعا .

قالوا : الكفارات والحدود شرعا للزجر وتكفير المأثم ، والقدر الحاصل به ذلك غير معلوم ، والحد يدرأ بالشبهة ، والقياس شبهة لظنيته .

وأجيب عن الأول : بأنا لا نقيس إلا حيث يحصل الظن فيتبع .

وعن الثاني : بالنقض بخبر الواحد والشهادة والظواهر والعمومات ، والله أعلم .


قوله : " ويجري القياس " أي : يجوز استعماله " في الأسباب والكفارات والحدود ، وهو قول الشافعية ، خلافا للحنفية " .

قلت : هذه ترسم في كتب الأصول مسألتين :

إحداهما : إجراء القياس في الأسباب وهو مذهبنا ومذهب أكثر الشافعية ، ومنع منه أبو زيد الدبوسي والحنفية . قال الآمدي : وصورته : إثبات كون اللواط سببا للحد قياسا على الزنا .

قلت : وكذا الكلام في النباش والنبيذ .

قوله : " لنا : إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على القياس " إلى آخره .

[ ص: 449 ] هذه حجة من أجاز القياس في الأسباب ، وهي من وجوه :

أحدها : أن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على مشروعية القياس في أحكام الشرع من غير فرق بين بعضها وبعض ، ولا تفصيل بين الأسباب وغيرها ، وذلك يقتضي عموم جوازه فيها .

الوجه الثاني : " أنهم قالوا في السكران " : إنه " إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى " فيجب عليه " حد المفتري ، وهو قياس سببي " أي : قياس في الأسباب ، لأن القذف سبب حد القاذف ثمانين ، وقد قاسوا عليه السكر في كونه سببا لذلك ، والذي أنشأ هذا القياس علي - رضي الله عنه - بحضرة عمر وغيره ، لكنهم لما وافقوا عليه وصاروا إليه ، نسب إليهم .

الوجه الثالث : أن " منع القياس " في الأسباب وغيرها ، إما أن يكون مع فهم المعنى الجامع بين الأصل والفرع ، أو لا ، فإن كان الأول ، فهو تحكم من الخصم ، حيث أجاز القياس لأجل فهم الجامع في غير الأسباب ، ومنعه فيها ، إذ ليس أولى من العكس ، وإن كان الثاني ، فهو وفاق منا ومنهم ، لأننا حيث لا نفهم المعنى الجامع المصحح للقياس لا نقيس .

الواجه الرابع : أن القياس في الأسباب ونحوها بشرطه المذكور " مفيد للظن " والظن " متبع شرعا " فهذا القياس متبع شرعا ، فيكون حجة ، ونظم هذا الدليل ومقدماته ظاهرة .

قوله : " قالوا " إلى آخره . هذه حجة المانعين ، وهي من وجهين : [ ص: 450 ] أحدهما : أن الكفارة والحد " شرعا للزجر وتكفير المأثم " الحاصل بالمعصية التي هي سبب الحد ، كالقتل والظهار والإفطار ونحوها ، " والقدر " الذي يحصل به الزجر والتكفير " غير معلوم " حتى يلحق به غيره بالقياس ، وحينئذ يكون قياسا على أمر مجهول ، وحاصله أن الكفارة والحدود شرعت لحكم ، لكن الحكم غير منضبط ، لأنها مقادير من الحاجات ، وإنما المنضبط الأوصاف ، ولهذا ترتب الحكم على سببه ، وإن لم توجد حكمته ، كقطع السارق ، وإن لم يتلف المال بأن أخذ من السارق ، وحد الزاني وإن لم يختلط النسب بأن كانت عقيما ، أو حاضت ، فلم يظهر حمل ، وإذا كانت الحكمة غير منضبطة ، لم يجز الجمع بها ، لأن الجمع بغير المنضبط جهالة ، وهو لا يجوز .

الوجه الثاني : أن " الحد يدرأ بالشبهة " عملا بالنص ، " والقياس شبهة لظنيته " أي : لكونه لا يفيد إلا الظن ، فلا يجب الحد معه .

قوله : " وأجيب عن الأول " إلى آخره . أي : الجواب عما ذكرتموه .

أما عن الأول ، " فبأنا لا نقيس إلا حيث يحصل " لنا " الظن " بالقياس ، وإذا حصل الظن به ، كان متبعا لما سبق غير مرة ، فسواء انضبطت الحكمة أو لم تنضبط ، وغاية ما يقدر أن القياس مع عدم انضباط الحكمة خطأ ، لكنا مع حصول ظن الصواب لنا نخرج عن عهدة الاجتهاد عملا بقوله - عليه السلام - : [ ص: 451 ] إذا اجتهد الحاكم فأصاب ، فله أجران ، وإن أخطأ ، فله أجر واحد .

وأما الجواب عن الثاني ، فبأنه منقوض " بخبر الواحد والشهادة ، والظواهر والعمومات " فإن ذلك كله يفيد الظن ، وقد ثبت به الحد . وقياس قولكم ، إنه لا يثبت به شيء من ذلك لأنه ظني ، فيكون شبهة في درء الحد .

هذا آخر ما ذكر في " المختصر " من أدلة هذه المسألة وهي منتظمة للاحتجاج على إثبات القياس في الأسباب والكفارات والحدود على ما وقع في " المختصر " واقتضاه ترتيبه ولفظه .

المسألة الثانية : على ما فصلناه في الشرح : جريان القياس في المقدرات ، والحدود ، والكفارات ، كنصب الزكوات ، وعدد الصلوات والركعات ، وأروش الجنايات ونحوها ، وحد الزاني والقذف والشرب وسائر الكفارات ، هو مذهب أحمد ، والشافعي ، وابن القصار والباجي من المالكية وأكثر الناس ، خلافا لأبي حنيفة وأصحابه .

لنا : ما سبق من أن إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على القياس من غير فرق ، ومن أنا إذا فهمنا مناط الحكم ، وأفادنا القياس الظن ، قسنا ، وإلا فلا .

احتج الخصم بنحو ما سبق بأن الأمور المذكورة لا يعقل معنى اختصاصها بما اختصت به دون ما هو أعلى منه أو أدنى ، كوجوب الزكاة في عشرين [ ص: 452 ] مثقالا دون تسعة عشر أو أحد وعشرين ، وإيجاب مائة في الحد دون تسعة وتسعين سوطا أو مائة وسوط ، وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين دون يومين أو أربعة ، وصيام ستين يوما في الظهار ونحوه دون أحد وستين ، أو تسعة وخمسين ، وإذا كانت هذه التخصيصات لا يعقل تعذر القياس فيها ، إذ القياس فرع تعقل المعنى ، وإذا انتفى الأصل ، انتفى الفرع .

والجواب بما سبق من أنا حيث لا نفهم المعنى ، لا نقيس .

قلت : فكأن النزاع صار في مسألة أخرى ، وهو جواز فهم المعنى في الحدود ونحوها ، فنحن نقول : يجوز فهمه في بعض صورها ، فيصح القياس عليها إذا تحقق مناط حكم الأصل في الفرع ، وهم يقولون : لا يجوز أن يفهم ، فلا يصح القياس لتعذر تحقق مناط حكم الأصل في الفرع .

وحينئذ الأشبه ما قلناه ، إذ جواز فهم المعنى في ذلك لا يلزم منه محال ، ولا ينكره عاقل ، فإن كان هذا هو محل الخلاف ، وإلا عاد النزاع لفظيا لاتفاق الفريقين على امتناع القياس في التعبد ، وجوازه حيث عقل المعنى ، والله تعالى أعلم .

قلت : قد حصل في " المختصر " في هذه المسائل تداخل بموجب الاختصار ، وقد فصلته في الشرح كما رأيت ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية