صفحة جزء
[ ص: 453 ] والنفي ضربان : أصلي : فيجري فيه قياس الدلالة ، وهو الاستدلال بانتفاء حكم شيء على انتفائه عن مثله ، فيؤكد به الاستصحاب ، لا قياس العلة ، إذ لا علة قبل ورود السمع .

وطارئ : كبراءة الذمة من الدين ، فيجري فيه القياسان ، لأنه حكم شرعي كالإثبات ، والله سبحانه أعلم .


قوله : " والنفي ضربان : أصلي " إلى آخره . أي : النفي إما أصلي أو طارئ ، فالأصلي ما لم يتقدمه ثبوت ، كنفي صلاة سادسة ، ونفي صوم شهر غير رمضان ونحو ذلك ، فهذا " يجري فيه قياس الدلالة " دون قياس العلة ، والفرق بينهما أن الاستدلال ممكن موجود قبل ورود الشرع ، ولهذا أمكن النظر والاستدلال قبل الشرع ، لأنها من آثاره وأحكامه فلا يتصور وجودها قبله ، والمراد بقياس الدلالة هاهنا " هو الاستدلال بانتفاء " الحكم في " شيء على انتفائه عن مثله " أو بعدم انتفاء خواص الشيء على عدمه . مثال الأول أن يقال : إنما لم يجب الفعل الفلاني لأن فيه مفسدة خالصة أو راجحة ، وهذا الفعل الآخر مشتمل على مثل ذلك ، فينبغي أن لا يجب .

مثاله : إنما لم تجب صلاة سادسة وحج ثان في العمر ، لما فيه من المفسدة في نظر الشارع ، ووجوب صوم شهر ثان ، أو وجوب ستة أيام من [ ص: 454 ] شوال فيه مثل تلك المفسدة ، فينبغي أن لا يجب ، فهذا قياس لأحد الحكمين على الآخر في الانتفاء بالاستدلال بجامع ما اشتملا عليه من المفسدة .

مثال الثاني ، وهو الاستدلال بانتفاء الخواص أن يقال : ترتيب الوعيد من خواص الوجوب ، وهو منتف في صلاة الوتر والضحى ، وصوم أيام البيض ، فلا تكون واجبة .

وقولنا : " فيؤكد به الاستصحاب " أي : إن هذا الانتفاء مستغن باستصحاب دليل العقل النافي عن دليل ، وهذا الاستدلال المذكور عليه إنما وقع مؤكدا لاستصحاب حال النفي الأصلي حتى لو لم يوجد هذا الاستدلال على نفي وجوب الصلاة السادسة ، لكان النفي الأصلي مستقلا بنفي وجوبها .

أما قياس العلة ، فلا يتصور في هذا ، لما سبق ، ولأن العلة إنما تكون لما يتجدد بعد عدمه ، وهذا النفي ثابت بالأصالة ، فلا علة له إلا إرادة البارئ جل جلاله عدم متعلقه ، وهو النفي; بمعنى أنه لم يرد إيجاده لكن ذلك لا يصلح أن تعلل به الأحكام الشرعية .

وأما النفي الطارئ ، أي : الحادث المتجدد بعد عدمه ، " كبراءة الذمة من الدين " بعد ثبوته فيها ، " فيجري فيه القياسان " : قياس الدلالة ، وقياس العلة ، " لأنه حكم شرعي " فهو " كالإثبات " الشرعي ، وذلك لأن النفي الطارئ بالشرع له خواص يستدل بانتفائها على انتفائه ، وآثار يستدل بوجودها على وجوده ، وكذلك له علل وأسباب يعلل بها ، ويلحق به ما شاركه فيها .

[ ص: 455 ] مثال الأول - وهو قياس الدلالة في النفي الطارئ - أن يقول : من خواص براءة الذمة من الدين أن لا يطالب به بعد أدائه ، ولا يرتفع إلى الحاكم ، ولا يحبس به ، ولا يحال به عليه ونحو ذلك ، وكل هذه الخواص موجودة ، فدل على وجود براءة الذمة ، كما نقول : من خواص الملك المطلق جواز بيعه وهبته والتصدق والوصية به . وقد انتفت بالعين المغصوبة بالنسبة إلى الغاصب ، فدل على عدم ملكه لها ، وثبت بالنسبة إلى المغصوب منه في الجملة ، فدل على ثبوت ملكه لها .

ومثال الثاني - وهو قياس العلة في النفي الطارئ - أن يقال : علة براءة الذمة من دين الآدمي هو أداؤه ، والعبادات هي دين لله - عز وجل - ، فليكن أداؤها علة البراءة منها .

وقد دل على صحة هذا القياس قوله - عليه الصلاة والسلام - : فدين الله أحق بالقضاء .

ولو قال قائل : إن الحوالة بالدين على مليء علة لبراءة ذمة المحيل منه ، فلتكن الإحالة بدين الله - عز وجل - علة لبراءة ذمة المكلف منها حتى تجوز استنابة المكلف غيره في أداء الفرائض الواجبة عنه ، كالصلاة المكتوبة وصوم رمضان ، وحج الفرض ونحوه; لكان هذا قياسا صحيحا في الجملة . وقد ظهرت صحته في جواز الاستنابة في دفع الزكاة ، وفروض الكفايات ، وصوم النذر عن الأموات ، وحج التطوع ، ونحوه من القرب . وإن أدى [ ص: 456 ] اجتهاد مجتهد إلى طرد القياس في بقية الواجبات ، وأمكن أن يأتي بدليل أو شبهة يعذر بها المجتهد ، كان له طرده ، لكن المشهور بين الأمة أن فروض الأعيان لا تقبل الاستنابة فيها ، ولا الحوالة بها على غير من خوطب بفعلها ، وليس ذلك لفساد القياس المذكور في نفسه ، بل لفوات شرطه ، وهو أن الحوالة إنما تنقل الحق ، وتبرأ بها ذمة المحيل بشرط رضى صاحب الحق عند بعض أهل العلم ، وذلك غير معلوم من الله تعالى أنه رضي بنقل حقه ، بل ربما كان المعلوم عدم رضاه لتوجه النصوص القاطعة إلى كل مكلف بعينه بأداء ما خوطب به .

وأما من لا يشترط رضى صاحب الحق في الحوالة ، فيمنع صحة القياس المذكور لقيام الفارق ، وهو أن حق الآدمي المقصود منه أداؤه ، لا تعبد عين المؤدي له به ، فيقوم غيره مقامه في ذلك ، بخلاف حق الله - عز وجل - فإن المعتبر فيه أمران : أداؤه وتعبد المكلف به عينا ، وهو أعم الأمرين . فلهذا لم يصح أداؤه بنائب ، ولهذا لما لم يكن المقصود من فرض الكفاية تعبد الأعيان به ، قام البعض فيه مقام البعض ، فهذا مقصود الكلام على لفظ " المختصر " .

وأشار القرافي في " مختصره " إلى أن في دخول القياس في النفي الأصلي أقوالا ثالثها المذكور في " المختصر " وهو دخول قياس الاستدلال فيه دون قياس العلة ، وهو المذكور في " المستصفى " و " الروضة " وقد ذكرت توجيهه .

[ ص: 457 ] أما حجة الجواز مطلقا ، فقد سبقت في أثناء ذلك ، وهو أن يستدل بانتفاء خواص ذلك الفعل على انتفائه في قياس الاستدلال ، أو يقال : إنما لم يجب الفعل الفلاني لتضمنه مفسدة كذا . وهذا الفعل يتضمن مثل تلك المفسدة ، فلا يجب فيه قياس العلة .

وحجة المنع مطلقا قد أشير إليها أيضا ، وهو أن النفي الأصلي ثابت مستمر بذاته ، فيستحيل إثباته بغيره من استدلال أو علة ، لأنه إثبات الثابت وهو تحصيل الحاصل .

والجواب : أما الاستدلال ، فقد بينا أنه مؤكد للنفي الأصلي ، لا مثبت له .

وأما العلة ، فقد بينا أنه يمكن فهمنا بالقياس إلى حكمة الشرع ، فنعديها إلى ما ساوى النفي الذي استفيدت منه ، كقولنا : إنما لم يبح السم ، لأنه مضر بالأبدان ، مفوت لحقوق الله - عز وجل - منها ، ثم تعدى ذلك إلى كل مضر بالبدن ، مفوت للعبادة منه ، كقتل النفس ونحوه ، وهذا قياس صحيح مفيد لو لم يرد النص بمقتضاه ، لصح إثبات الحكم به ، وقد استرسلت في هذه المسألة وأطلت فيها طلبا للكشف عنها ، إذ تصورها وتركيب أمثلتها من المشكلات عند كثير من الناس خصوصا المبتدئ في هذا العلم ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية