صفحة جزء
[ ص: 458 ] الأسئلة الواردة على القياس

قيل : اثنا عشر :

الأول : الاستفسار ، ويتوجه على الإجمال ، وعلى المعترض إثباته ببيان احتمال اللفظ معنيين فصاعدا ، لا بيان التساوي لغيره .

وجوابه بمنع التعدد أو رجحان أحدهما بأمر ما .


قوله : " الأسئلة الواردة على القياس ، قيل : اثنا عشر " .

الكلام على هذه الجملة في أمور :

أحدها : أن الأسئلة جمع سؤال ، وهو قياس فيما كان على فعال - بضم الفاء - يجمع على : أفعلة ، نحو : غلام وغراب وحوار - لولد الناقة - إلا ما عساه يشذ عن ذلك ، والسؤال أصله : الطلب .

فمنه سؤال الفقير الغني ، والعبد للرب ، وهو أن يطلب منه ما يصلحه من مال أو عفو .

ومنه سؤال الاستفهام ، نحو : زيد يسأل عن حال عمرو ، أي : يطلب منه معرفة كيفية حاله ، وهو بالجملة طلب معرفة حال المستفهم عنه .

ومنه سؤال الاستفادة ، كسؤال المتعلم للمعلم كيف يكون ، وسؤال العناد والتعجيز ، كسؤال المعترض للمستدل : لم قلت كذا وكذا ؟ وهو طلب الفائدة أو الدليل ، والمراد بالسؤال هاهنا أحد هذين ، لأن الأسئلة الواردة [ ص: 459 ] على القياس قد تكون من مستفيد يقصد معرفة الحكم خالصا مما يرد عليه . وقد تكون من معاند يقصد قطع خصمه ورده إليه . وقد بينا في أول الكتاب معنى ورود السؤال والنقض ونحوه على محله .

الأمر الثاني : إنما قلت : " قيل : اثنا عشر " لوجهين :

أحدهما : متابعة للأصل ، فإن الشيخ أبا محمد هكذا قال : قال بعض أهل العلم : يتوجه على القياس اثنا عشر سؤالا .

الوجه الثاني : أني قد ذكرت عند انقضاء الكلام في الأسئلة المذكورة أن بعضهم زعم أنها خمسة وعشرون كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .

الأمر الثالث : أن هذه الأسئلة ليست في " المستصفى " بل الغزالي أعرض عن ذكرها ، وزعم أنها كالعلاوة على أصول الفقه ، وأن موضع ذكرها علم الجدل .

قلت : ولا شك أن الأصوليين فيها على ضربين ، منهم من لم يذكرها في أصول الفقه إحالة لها على فنها الخاص بها ، كالغزالي وغيره ، ومنهم من ذكرها ، لأنها من مكملات القياس الذي هو من أصول الفقه ومكمل الشيء من ذلك الشيء ، ولهذه الشبهة ، أكثر قوم من ذكر المنطق والعربية والأحكام الكلامية ، لأنها من مواده ومكملاته .

قوله : " الأول " يعني من الأسئلة المذكورة " الاستفسار " وهو طلب تفسير اللفظ ، وبيان المراد به ، " ويتوجه " - يعني الاستفسار - " على الإجمال " أي : يرد عليه ، ويسوغ للمعترض أن يطالب بتفسير لفظ المستدل إذا كان مجملا .

[ ص: 460 ] وقد سبق تعريف المجمل ، وذلك لأن المجمل لا يفيد معنى معينا ، وعند ذلك إما أن يعترض المعترض على كل واحد من معانيه ، أو على أحدهما ، أو لا على واحد منهما .

والأول باطل ، لأنه يفضي إلى التطويل ، وانتشار الكلام ، وهو خلاف موضوع علم النظر ، مثل أن يقول المستدل : يجب على المطلقة أن تعتد بالأقراء ، فيقول المعترض : إن عنيت أنها تعتد بالأقراء التي هي الحيض ، فمسلم ، وإن عنيت بالأقراء التي هي الأطهار ، فممنوع ، لأن هذا تطويل لا ضرورة إليه ، بل الأقرب أن يقول : ما عنيت بالأقراء ؟ فإذا قال : الحيض ، أو الأطهار ، أجاب بحسب ذلك من تسليم أو منع .

والثاني أيضا باطل ، لأنه ترجيح من غير مرجح ، مثل أن يقول في الصورة المذكورة : لا نسلم أنها تعتد بالأقراء ، ويريد به الحيض أو الأطهار ، فلا يجوز ذلك لاستوائهما في دلالة اللفظ عليهما ، ولأن المستدل قد يقصد تغليط المعترض ، ليجيب عن أحد المعنيين ، من غير استفسار ، فيقول هو : أخطأت ليس الأمر كذلك ، ويريد المعنى الآخر .

كما حكي عن اليهود ، أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح ، وهو لفظ [ ص: 461 ] مشترك بين القرآن ، وجبريل ، وعيسى ، وملك يقال له : الروح ، وروح الإنسان الذي في بدنه ، ليغلطوه بذلك ، يعني : إن قال لهم : الروح ملك ، قالوا : بل هو روح الإنسان ، أو قال : روح الإنسان ، قالوا : بل هو ملك أو غيره من مسميات الروح ، فعلم الله تعالى مكرهم ، فأجابهم مجملا كسؤالهم بقوله تعالى : قل الروح من أمر ربي [ الإسراء : 85 ] ، وهو يتناول المسميات الخمسة وغيرها ، كذا ذكر صاحب " الإفصاح " في خلق الإنسان ، قال : وهذا هو سبب الإجمال في مسمى الروح ، لا كون حقيقتها غير معلومة للبشر ، إذ قد دلت قواطع الشرع على جسميتها ، واستقصى ذلك في كتابه المذكور .

وقد يجمل المستدل لفظه احتياطا لنفسه ، واستبقاء لها في ميدان النظر مجالا ، بحيث إن توجه سؤال المعترض على أحد معنيي اللفظ ، تخلص منه بتفسير كلامه بالمعنى الآخر .

ومثاله : ما ذكرناه من سؤال اليهود عن الروح ، غير أنهم كانوا مغالطين ، لا محتاطين .

ومن أمثلة ذلك : لو قال المستدل : العدة بالأقراء ، فقال المعترض : لو كان بالأقراء ، للزم خلاف الظاهر ، إذ ظاهر القرآن أنها تعتد بثلاثة قروء كوامل ، يعني بالقروء الأطهار ، وكمالها قد يتخلف فيها إذا طلقها في أثناء طهر ، فإنها تعتد به قرءا ، فلا يحصل اعتدادها بثلاثة قروء كاملة ، فيقول المستدل : [ ص: 462 ] أنا أردت بالأقراء الحيض ، والكمال لازم فيها ، إذ بعض الحيضة لا يعتد به قرءا ، فيكون قد أعد الإجمال في أول كلامه; للحاجة إلى التفصيل في آخره ، فلأجل هذه الأمور العارضة للإجمال ، توجه سؤال الاستفسار ، ليكون المعترض متكلما على بصيرة ، آمنا من المغالطة والمخاتلة .

قوله : " وعلى المعترض إثباته " . إلى آخره . أي : وعلى المعترض إثبات الإجمال في لفظ المستدل ، إذ لا يكفي في ثبوته مجرد دعواه ، لأن ذلك فتح لباب العناد ، إذ كل معترض لا يعجز أن يقول للمستدل : لفظك مجمل ، فبينه ، فيلزم المستدل بذلك ما لا يلزمه ، إذ الأصل عدمه ، وإذا ثبت أن على المعترض إثبات الإجمال في لفظ المستدل ، فطريقه إلى ذلك أن يبين أن لفظه يحتمل " معنيين فصاعدا " احتمالا مطلقا ، ولا يلزمه بيان تساوي الاحتمالات ، لأن ذلك يعسر عليه ، فتسقط فائدة الاعتراض ، ولذلك أمثلة :

منها : أن يقول في جماعة اشتروا عينا ، فظهرت معيبة : ليس لأحدهما الانفراد بالرد ، لأنه بان بالمبيع ما بان به جواز الانفراد بالرد ، فيقول المعترض : ما تعني بقولك : بان ؟ فإنها مجملة تستعمل بمعنى : ظهر ، وبمعنى : خفي ، يقال : بان لي الشيء ، أي : ظهر ، وبان فلان عن فلان ، أي : غاب ، وزال ، وخفي ، ومنه : البين ، والفراق ، وغراب البين .

ومنها : أن يقول في المكره على القتل : لا يجب عليه القصاص ، لأنه غير مختار ، أو يجب عليه ، لأنه مختار أشبه غير المكره ، فيقول المعترض : ما [ ص: 463 ] تعني بالمختار ؟ فإن لفظه مجمل ، لأنه يطلق على ضد المكره ، وهو من فعل شيئا بحسب ميله إليه ، وشهوته له ، من غير أن يحمله عليه غيره ، ويطلق على من فعله بقدرته ، من غير مانع له منه في بدنه ، وإن كان محمولا عليه من خارج ، وهو المكره ، فالمكره على القتل يقال له : مختار بهذا الاعتبار الأول .

وحاصل الأمر أن ضد الاختيار : الاضطرار ، لكن الاضطرار تارة يكون خارجيا ، كالإكراه على القتل ونحوه ، وتارة غير خارجي ، كحركة المرتعش وهو مضطر إليها بعارض بدني ، لا خارجي ، والاختيار أيضا ينقسم إلى مثل ذلك ، فأي الأمرين تريد بالمختار ؟

ومنها : أن يقول : يجوز بيع لبن الآدميات ، لأنه بيع صادف محله ، فوجب أن يصح ، فيقول له المعترض : ما تعني بالبيع ، اللغوي ، أو الشرعي ؟ وكذلك كل لفظ له مسمى لغوي وشرعي ، نحو : الصوم ، والصلاة ، والوضوء ، نحو : توضئوا من لحوم الإبل ، فيقال : ما تعني بالوضوء; الوضوء اللغوي أو الشرعي ؟

قوله : " وجوابه بمنع التعدد ، أو رجحان أحدهما بأمر ما " . أي : وجواب سؤال الاستفسار ، أو جواب المستدل ، أو المعترض عن سؤال الاستفسار بوجهين :

أحدهما : منع تعدد احتمالات اللفظ إن أمكن; بأن يقول : لا نسلم أن لهذا اللفظ إلا محمل واحد ، ويبين ذلك عن أئمة اللغة ، أو بأنا اتفقنا على أن اللفظ يطلق على هذا المعنى الواحد ، والأصل عدم جواز إطلاقه على غيره ، نفيا للمجاز والاشتراك ، فمن ادعى إطلاقه عليه ، فعليه الدليل .

[ ص: 464 ] الوجه الثاني : أن يبين رجحان اللفظ في أحد المجملين ، بأمر ما من الأمور المرجحة ، إما بالنقل عن أهل اللغة ، أو باشتهاره في عرفهم ، مثل أن يقول : لفظ المختار ظاهر فيمن لا حامل له على الفعل من خارج . وحينئذ لا يكون مجملا ، وإن أمكنه أن يبين أن صدق اللفظ على المجملين بالتواطؤ ، والمراد القدر المشترك بينهما ، نفيا للمجاز والاشتراك ، كفاه أيضا ، ومتى أجاب المستدل عن سؤال الاستفسار بأحد الأجوبة المذكورة ، انقطع المعترض بالإضافة إلى هذا السؤال ، وله إيراد غيره ، وإن عجز عن الجواب ، لزمه تفسير مراده بلفظه ، بأن يقول في المثال الأول : أردت بقولي : بان بالمبيع ما بان به جواز الرد; ظهر به ما انتفى به جواز الرد ، فبان الأولى بمعنى : ظهر ، وبان الثانية بمعنى : انتفى .

وفي المثال الثاني : أردت بالمختار : من وقع الفعل بكسبه وقدرته ، ولا مانع له في بدنه ، وإن كان محمولا عليه من الخارج .

وفي المثال الثالث : أردت البيع أو الصوم أو الوضوء الشرعي ، لأنه الحقيقة الشرعية كما سبق .

تنبيه : اعلم أن الإجمال في لفظ المستدل; إما أن يكون من حيث الاصطلاح ، أو من حيث الوضع ، فالأول أن يذكر في الفن الذي يتكلم فيه ألفاظا ليست من اصطلاح أهله ، مثل أن يأتي في القياس الفقهي بلفظ الدور والتسلسل والبسيط والهيولى والمادة والمبدأ والغاية ونحوه من [ ص: 465 ] اصطلاحات المتكلمين والفلاسفة ، فيقول مثلا في شهود القتل إذا رجعوا : لا يجب القصاص عليهم ، لأن وجوب القصاص تجرد مبدؤه عن غاية مقصودة ، فوجب أن لا يثبت ، فإن لفظ المبدأ والغاية باصطلاح المتكلمين; أشبه منهما باصطلاح الفقهاء ، اللهم إلا أن يعلم من خصمه معرفة ذلك ، فلا بأس ، إذ لا غرابة بالنسبة إليه .

وأما الثاني - وهو الإشكال من حيث الوضع - ، فهو إما من حيث التردد كالمجملات ، وقد مر مثالها ، أو من حيث الغرابة ، بذكر وحشي الألفاظ ، كقوله : لا يحل أكل الرئبال أو السيد ، أو السبنتى - يعني الأسد - والذئب والنمر ، لأنه ذو ناب ، أو يجوز أكل الدغفل - وهو ولد الفيل - أو الهجرس - وهو ولد الثعلب - فيقال له : ما تعني بذلك ؟ لأن ذلك من اللغة الغامضة ، إلا عن المعنيين بغريب اللغة ، فصار كالمجمل الترددي ، بجامع عدم فهم المراد . وكذا قوله في الكلب المعلم : إذا أكل من صيده ، لا يحل أكله ، لأنه صيد جارحة لم ترض ، فأشبه غير المعلم : فإن قوله : ترض ، مشتق من الرياضة ، وقد يستغربه بعض الناس ، فله الاستفسار عنه .

وشرط توجه سؤال الاستفسار : أن يكون اللفظ في مظنة الغموض كما ذكرنا .

أما إن كان ظاهرا مشهورا ، مستطرقا بين الفقهاء ، بحيث لا يغمض مثله على المعترض ، كقوله : فقد الشرط ، ووجد المانع أو السبب ، أو هو واجد للماء الطهور ، فلا يجوز له التيمم معه ، فيقال : ما تعني بهذا اللفظ ؟ فإني لا أفهم معناه ، كان معاندا خارجا عن الإنصاف ، أو جاهلا فدما ، لا يستحق أن [ ص: 466 ] يؤهل للكلام معه .

قال الشيخ رشيد الدين الحواري : حق المستفسر أن يقول : أي شيء تعني بهذا الكلام ، لأنه طلب المراد من الكلام ، ولا يقول مثلا : ما القتل ، لأن هذا صيغة استفهام ، والمستدل إنما تصدى للإفحام ، لا للتعليم والإفهام ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية