صفحة جزء
[ ص: 472 ] الثالث : فساد الوضع ، وهو اقتضاء العلة نقيض ما علق بها ، نحو : لفظ الهبة ينعقد به غير النكاح ، فلا ينعقد به النكاح كالإجارة ، فيقال : انعقاد غير النكاح به يقتضي انعقاده به لتأثيره في غيره .

وجوابه بمنع الاقتضاء المذكور ، أو بأن اقتضاءها لما ذكره المستدل أرجح . فإن ذكر الخصم شاهدا لاعتبار ما ذكره ، فهو معارضة .


السؤال : " الثالث : فساد الوضع ، وهو اقتضاء العلة نقيض ما علق بها " وإنما سمي هذا فساد الوضع ، لأن وضع الشيء : جعله في محل على هيئة أو كيفية ما ، فإذا كان ذلك المحل أو تلك الهيئة لا تناسبه كان وضعه على خلاف الحكمة ، وما كان على خلاف الحكمة يكون فاسدا ، فنقول هاهنا : إن العلة إذا اقتضت نقيض الحكم المدعى أو خلافه ، كان ذلك مخالفا للحكمة ، إذ من شأن العلة أن تناسب معلولها ، لا أنها تخالفه ، فكان ذلك فاسد الوضع بهذا الاعتبار .

وقد ذكر الآمدي ، والبزدوي في " جدليهما " لفساد الوضع أنواعا :

منها : وقوع القياس في مقابلة النص ، كقول المستدل في إباحة متروك التسمية : لأنه ذبح صدر من أهله في محله ، فأبيح ، كما لو تركها ناسيا ، فيقال له : هذا فاسد الوضع ، لوقوعه في مقابلة النص ، والظن المستفاد منه أعظم .

الثاني : وقوعه فيما لا يمكن تعليله ، كاستدلال الشافعي على الحنفي [ ص: 473 ] في الحدود والكفارات بالقياس ، وحكم الأصل غير معقول .

الثالث : دعوى المعترض إشعار الوصف بنقيض الحكم ، كما تذكر أمثلته إن شاء الله تعالى .

قلت : وقد سبق أن النوعين الأولين من باب فساد الاعتبار . وذكر النيلي أن وقوع القياس في مصادمة النص قد يسمى فساد الوضع أيضا . وذكر أيضا أن العرف خص اعتبار العلة في ضد مقتضاها بفساد الوضع ، واعتبارها في خلاف مقتضاها بفساد الاعتبار ، وسيأتي أمثلة الضد والخلاف فيما بعد إن شاء الله تعالى .

قلت : المشهور في فساد الوضع والاعتبار ما ذكر في " المختصر " والخلاف في ذلك اصطلاحي لا يضر ، وإطلاق كل واحد منهما على الآخر لا ينافي اللغة ، بل يمكن توجيهه فيها .

مثال ما علق فيه على العلة ضد ما تقتضيه : قولنا في النكاح بلفظ الهبة : لفظ " ينعقد به غير النكاح ، فلا ينعقد به النكاح " كلفظ " الإجارة " . فيقول الحنفي : هذا فاسد الوضع ، لأن " انعقاد غير النكاح " بلفظ الهبة " يقتضي " ويناسب انعقاد النكاح به ، لكن تأثيره في انعقاد غير النكاح به - وهو الهبة - دليل على أن له حظا من التأثير في انعقاد العقود ، والنكاح عقد فلينعقد به ، كالهبة ، ويلتزم عليه الإجارة ، أو يفرق بينهما وبين الهبة والنكاح إن أمكن .

ومن ذلك : قول الحنفي : قتل العمد كبيرة ، فلا يوجب الكفارة ، قياسا على الزنا وسائر الكبائر ، فيقال : هذا فاسد الوضع ، لأن كونه كبيرة يقتضي [ ص: 474 ] التغليظ عليه ، لا التخفيف عنه ، وفي إيجاب الكفارة عليه تغليظ ، وفي إسقاطها تخفيف .

ومن ذلك : قول الشفعوي في تكرار مسح الرأس : مسح ، فيسن فيه التكرار ، كالمسح في الاستجمار ، فيقال : هذا فاسد الوضع ، لأن كونه مسحا مشعر بالتخفيف ، ومناسب له ، والتكرار مناف له .

ومثال ما علق فيه على العلة خلاف ما تقتضيه وليس بضد ، قولنا : فيما دون النفس من الجراحات جناية على آدمي ، فيضرب بدلها على العاقلة كالنفس ، فيقال : هذا خلاف مقتضى العلة ، إذ جناية الشخص تقتضي اختصاص ضمانها به دون غيره ، عملا بموجب النص والعرف ، وكذلك قول الحنفي في أن العبد تتقدر قيمته ، لأنه آدمي ، فتقدرت قيمته كالحر ، فيقال : هذا على خلاف العلة المذكورة ، لأنها لا تشير إلى تقدير .

قلت : هكذا ذكر النيلي في أمثلة اقتضاء العلة ضد حكمها وخلافه ، ولعل فيه نظرا ، فإن تقدير القيمة وعدمه ، واختصاص الجناية بالجاني وعدمه ، نحو من اقتضاء الكبيرة الكفارة وعدمها ، وانعقاد النكاح بلفظ الهبة وعدمه ، وقد سبق بيان الفرق بين الضدين ، والخلافين ، والمثلين ، والنقيضين ، وبعرض هذا على ذلك يتبين أمره .

قوله : " وجوابه بمنع الاقتضاء المذكور ، أو بأن اقتضاءها لما ذكره المستدل [ ص: 475 ] أرجح " . أي : وجواب فساد الوضع بأحد أمرين :

إما بأن يمنع المستدل كون علته تقتضي نقيض ما علق بها ، أو بأن يسلم ذلك ، لكن يبين أن اقتضاءها للمعنى الذي ذكره ، هو أرجح من المعنى الآخر ، فيقدم لرجحانه .

مثاله : أن يقول في مسألة الكتاب : لا نسلم أن انعقاد الهبة بلفظها ، أو كون لفظ الهبة ينعقد به غير النكاح يقتضي انعقاد النكاح به .

قولكم : انعقاد غير النكاح به يدل على قوته وتأثيره في العقود .

قلنا : إنما يدل على تأثيره فيما وضع له ، وهو الهبة ، أما غيره ، فلا لوجوه :

أحدها : أن تأثير اللفظ إنما يناسب أن يكون في موضوعه ، لإشعاره بخواصه ، ودلالته عليها بحكم الوضع والنكاح والبيع ، والإجارة لها خواص لا يشعر بها لفظ الهبة ، فيضعف عن إفادتها ، والتأثير في انعقادها به .

الوجه الثاني : أن استعمال اللفظ في غير موضوعه تجوز ، وهو ضعيف بالنسبة إلى الحقيقة ، والأصل عدم التجوز .

الوجه الثالث : أن قوة اللفظ وسلطانه ، وظهور دلالته ، لما كانت في موضوعه ، كان استعماله في غيره تفريقا لقوته ، وكالتغريب له عن موطنه ، فيضعف بذلك عن التأثير .

سلمنا أن انعقاد غير النكاح بلفظ الهبة يقتضي انعقاد النكاح به ، لكن اقتضاؤه لعدم انعقاده أقوى من اقتضائه لانعقاده ، لأن انعقاد النكاح بلفظ الهبة; يقتضي أن اللفظ مشترك بينهما ، أو مجاز في النكاح عن الهبة ، [ ص: 476 ] والاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، وما ذكرناه يقتضي نفيهما ، وتخصيص كل عقد بلفظ هو وفق الأصل ، وما وافق الأصل يكون أولى مما خالفه .

وعلى هذا النمط يكون الجواب في غير هذا المثال ، فنقول في مسألة كفارة العمد : لا نسلم أن الكبيرة تقتضي التغليظ ، ويدل عليه إن أمكنه بأن للشرع أن يقابل الكبيرة بيسير العقوبة ، والصغيرة بعظيم العقوبة ، كما له أن يرحم العاصي ، ويعذب الطائع ، ويغني الطالح ، ويفقر الصالح . وإنما انقسمت الأفعال إلى صغائر وكبائر باعتبار اشتمالها على مفاسد صغائر وكبائر . أما أنها تقتضي عقوبات بحسبها صغرا وكبرا فلا . وهذا وإن كان متجها كما تراه ، غير أن المألوف من الشرع يرده ، حيث جعل العقوبات تابعة لصغر الأفعال وكبرها .

سلمنا أن كونها كبيرة يقتضي التغليظ ، لكن لا نسلم أن إسقاط الكفارة تخفيف ، بل هو تغليظ من جهة أنه استحق بالكبيرة قدرا من عذاب الآخرة ، وتعجيل الكفارة يخفف عنه بعض ذلك العذاب ، وكان تأخيره بكماله عليه إلى الدار الآخرة أغلظ في حقه ، لأن عذاب الآخرة أشد . وهذا كما قلنا : إن المؤمن تكفر عنه ذنوبه بمصائب الدنيا ، ليلقى الله - عز وجل - نقيا من الذنوب ، تخفيفا عنه ، بخلاف الكفار ، فإنهم يأكلون ويتمتعون ، ويعجل لهم معروفهم في الدنيا ، ليلاقوا عذاب الآخرة كاملا ، لم يخفف منه شيء تغليظا عليهم .

وفي هذا الموضع بحث قد استقصيته في كتاب " إبطال التحسين والتقبيح " لم يتسع هذا المكان لذكره ، ولا نحن بصدده إنما نحن بصدد بيان كيفية [ ص: 477 ] السؤال والجواب في الصناعة .

وأما الجواب في المثالين الآخرين ، وهو عن قول المعترض : إن جناية الآدمي تقتضي اختصاص ضمانها به ، وإن وصف الآدمي لا يشير إلى تقدير قيمته; فبنحو ذلك ، وهو أن نقول : لا نسلم أن الجناية تقتضي اختصاص الضمان بفاعلها ، إذ للشرع أن يجعل فعل زيد أمارة على تعلق الحكم بعمرو ، كما جاز أن يجعل عمل زيد في نيابة الحج وغيره من العبادات القابلة للنيابة ، وإهداء ثواب القرب ، وقضاء الديون المالية ، علما وأمارة على نفع عمرو ، وبراءة ذمته .

قلت : لكن هذا خلاف منصوص الشرع ومألوفه ، سلمنا ما ذكرتم من الاختصاص ، لكن عندنا مناسب راجح ، وهو حمل العاقلة عن صاحبهم ، تخفيفا عنه ، ورفقا به ، لانقهاره بكثرة الغرامات ، لكثرة الجنايات خطأ ، وصار ذلك عدلا عاما من الشرع ، لأن الشخص تارة يكون حاملا ، وتارة يكون محمولا عنه ، وهذه مصلحة أعم من المصلحة الذي ذكرتم ، فيجب تقديمها ، وكذلك نقول : لا نسلم أن وصف الآدمي لا يشير إلى تقدير قيمته ، بل هو يقتضي ذلك ، لأن الآدمية وصف شريف ، وشرفه يقتضي صيانته عن الإهدار ، والصيانة تقتضي تقدير بدل نفسه ، لئلا يدخله الغرر والجهالة ، وإذا كانت الأغراض من الجماد والحيوان تضبط أبدالها بأمثالها وقيمتها ، ليرجع إليها عند حاجة التضمين ، احتياطا لها من دخول الغرر فيها ، فالإنسان الذي [ ص: 478 ] هو أشرف منها أولى بالاحتياط له .

سلمنا عدم إشعار الوصف بتقدير القيمة ، لكن لا نسلم أنه إذا لم يشعر بذلك لا يجوز لنا أن نحكم بالتقدير ، بل لنا ذلك ، إلحاقا له بالأصول الشاهدة له بذلك كالحر ، وقد قدر الشرع بدله ، فيلحق العبد به ، وكذلك المرأة تفوض بضعها ، فيعقد عليها بلا مهر ، ثم لا بد منه مقدرا بمهر مثلها ، خصوصا عند الحنفية حيث جعلوا المهر حقا لله - عز وجل - ثابتا لشرف المحل ، لئلا يستباح بلا عوض ، ومصرفه المرأة ، كالزكاة حق لله تعالى ، ومصرفه الفقراء ، وإذا شهدت الأصول للحكم بالاعتبار; لم يضر فقد المناسبة ، بناء على ما سبق من أن علل الشرع وضعية لا تلزمها المناسبة ، بخلاف العقليات والعرفيات .

قوله : " فإن ذكر الخصم شاهدا لاعتبار ما ذكره ، فهو معارضة " . يعني أن المستدل إذا علل بوصف ، فادعى المعترض أن ذلك الوصف يقتضي نقيض الحكم المدعى ، وذكر له شاهدا بالاعتبار في اقتضاء النقيض; كان ذلك معارضة منه لدليل المستدل ، وانتقالا من سؤال فساد الوضع إلى إيراد المعارضة ، وهو انقطاع ، فإن لم يكن انقطاعا ، فهو مستقبح ، لكونه نشرا للكلام ، وانتقالا من مقام إلى مقام .

مثاله : أن يقول المستدل : لفظ الهبة ينعقد به غير النكاح فلا ينعقد به النكاح ، فيقول المعترض : هذا الوصف يقتضي نقيض الحكم ، إذ انعقاد غير [ ص: 479 ] النكاح به يقتضي انعقاده به ، ويشهد لذلك أصل بالاعتبار ، وهو لفظ البيع حيث ينعقد به غير البيع ، وهو السلم والإجارة ، فإن هذا صار خروجا عن خصوصية فساد الوضع إلى طريق المناقضة والمعارضة ، حتى صار كأنه قال للمستدل : ما ذكرته من الدليل ، وإن دل على ما ذكرت ، لكن عندي ما يعارضه ، ويدل على خلافه ، وهو لفظ البيع ، قد انعقد به البيع وغيره ، فكذا ينبغي أن ينعقد بلفظ الهبة الهبة وغيرها .

وكذلك في مسألة المسح ، إذا قال المستدل : مسح ، فيسن تكراره كمسح الاستطابة ، فقال المعترض : وصفك يقتضي نقيض حكمك ، إذ المسح مشعر بالتخفيف ، وهو مناف للتكرار ، لما فيه من التثقيل ، ويشهد لذلك أصل بالاعتبار ، وهو مسح الخف ، يكره تكراره ، لما كان مسح الخف مشعرا بالتخفيف ، فيقال للمعترض في هذا وأمثاله : أنت منقطع بانتقالك عن فساد الاعتبار إلى المعارضة ، فإن سامحه المستدل ، ولم يؤاخذه بذلك ، فعليه أن يجيبه بما يجيب به عن المعارضة .

فيقول في المثال الأول : لا نسلم أن السلم والإجارة ينعقدان بلفظ البيع ، حتى يجوز مثله في لفظ الهبة مع النكاح ، سلمناه لكن لا نسلم أن السلم والإجارة مغايران للبيع ، بل هما نوعان له ، إذ البيع ينقسم إلى بيع منفعة وهي الإجارة ، وإلى بيع عين موجودة ، أو موصوفة ، وهو غالب أنواعه ، أو معدومة في الذمة ، وهو السلم ، بخلاف النكاح ، فإنه مغاير للهبة ، مختص [ ص: 480 ] عنها بخواص لا يشعر بها لفظها كما سبق .

وفي المثال الثاني : لا نسلم أن مسح الخف يكره تكراره كما في مبدله ، وهو غسل الرجل . سلمناه ، لكن الفرق أن مسح الخف إنما يكره تكراره ، لكونه مسحا على الخف ، لا لكونه مسحا مطلقا ، لأن تكراره يضر بالخف ، ويتلف ماليته ، وفي ذلك إضاعة مال منهي عنها ، وأيضا ليس هو أصلا في الطهارة حتى يلحق بنظائره ، مما هو أصل فيها بخلاف مسح الرأس ، فإنه لا مالية فيه تتلف ، وهو أصل في الطهارة ، فقرب إلحاقه بنظائره في التكرار ، كالوجه واليدين والرجلين .

فحاصل المذكور هاهنا في الجواب : إما منع حكم المعارضة ، أو الفرق بينهما وبين حكم قياس المستدل ، على أن في قياس تكرار مسح الرأس على تكرار مسح الاستطابة نظرا من جهة أنه قياس أمر تعبدي على أمر معقول ، وشرط القياس وجود علة الأصل في الفرع ، وليس معنى التطهير موجودا في مسح الرأس ، كوجوده في مسح الاستطابة ، بدليل أن الرأس يجب مسحه مع القطع بطهارته ، فلم يبق بين الأصل والفرع إلا مسمى الطهارة ، وهو شبه لفظي أو معنوي ضعيف ، وإنما نحن ذكرنا مثالا يترتب عليه السؤال والجواب ، وما ذكرناه من ضعف القياس لا يقدح في ذلك ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية