صفحة جزء
[ ص: 519 ] الثامن : القلب ، وهو تعليق نقيض حكم المستدل على علته بعينها ، ثم المعترض تارة يصحح مذهبه ، كقول الحنفي : الاعتكاف لبث محض ، فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة ، فيقول المعترض : لبث محض ، فلا يعتبر الصوم في كونه قربة ، كالوقوف بعرفة ، وتارة يبطل مذهب خصمه ، كقول الحنفي : الرأس ممسوح ، فلا يجب استيعابه بالمسح كالخف ؛ فيقول المعترض : ممسوح ، فلا يقدر بالربع كالخف ، وكقوله : بيع الغائب عقد معاوضة ، فينعقد مع جهل المعوض كالنكاح ، فيقول خصمه : فلا يعتبر فيه خيار الرؤية كالنكاح ، فيبطل مذهب المستدل لعدم أولوية أحد الحكمين بتعليقه على العلة المذكورة ، والقلب معارضة خاصة فجوابه جوابها إلا بمنع وصف الحكم ، لأنه التزمه في استدلاله فكيف يمنعه .


السؤال " الثامن : القلب ، وهو تعليق نقيض حكم المستدل على علته بعينها " .

معنى القلب : أن المعترض يقلب دليل المستدل ، ويبين أنه يدل عليه لا له ، أو يدل عليه وله من وجهين ؛ وقد ذكرت أمثلته بعد ، وسيأتي له تفصيل إن شاء الله تعالى .

قوله : " ثم المعترض تارة يصحح مذهبه " إلى آخره .

أي أن المعترض تارة يكون مقصوده بقلب الدليل تصحيح مذهب نفسه ، وإبطال مذهب المستدل ، وتارة يتعرض فيه لبطلان مذهب خصمه دون تصحيح مذهب نفسه .

[ ص: 520 ] مثال الأول ، وهو ما إذا قصد تصحيح مذهب نفسه وإبطال مذهب المستدل : ما إذا قال الحنفي في اشتراط الصوم للاعتكاف ، لأنه " لبث محض ، فلا يكون بمجرده قربة ، كالوقوف بعرفة " فإن الوقوف بعرفة لا يكون بمجرده قربة ، بل لا بد أن يقترن به الإحرام والنية ، فكذلك الاعتكاف لا يكون بمجرده قربة حتى يقترن به غيره من العبادات ، وذلك هو الصوم بالإجماع ، إذ لم يشترط أحد مقارنة غير الصوم للاعتكاف ، فهذا مبني على مقدمتين :

إحداهما : لا بد أن يقترن بالاعتكاف غيره .

الثانية : أن ذلك الغير هو الصوم ، ومدرك الأولى هذا القياس ، ومدرك الثانية الإجماع المذكور ، " فيقول المعترض " الشافعي أو الحنبلي في قلب الدليل المذكور : الاعتكاف " لبث محض ، فلا يعتبر الصوم في كونه قربة " ، أي : لا يشترط له ، " كالوقوف بعرفة " ، فإن الوقوف بعرفة لا يشترط لصحته الصوم ، فكذلك لا يشترط للاعتكاف عملا بالوصف المذكور ، وهو كون الوقوف والاعتكاف لبثا محضا ، وإذا تبين أن وصف المستدل يناسب دعواه وعدمها ، لم يكن بإثبات أحد الأمرين أولى من إثبات الآخر ، فيسقط الاستدلال به ، لأنه حينئذ يصير ترجيحا من غير مرجح ، فههنا المعترض قصد بقلب الدليل تصحيح مذهبه ، وهو عدم اشتراط الصوم للاعتكاف وإبطال مذهب خصمه .

ومثال الثاني ، وهو ما إذا قصد إبطال مذهب خصمه من غير تعرض [ ص: 521 ] لتصحيح مذهب نفسه : قول الحنفي في عدم وجوب استيعاب الرأس بالمسح : " ممسوح فلا يجب استيعابه بالمسح كالخف ، فيقول المعترض " : هذا ينقلب عليك بأن يقال : " ممسوح فلا يقدر بالربع كالخف " ، فإن أحمد ومالكا - رضي الله عنهما - يوجبان استيعاب الرأس بالمسح . وقد أبطله الحنفي في قياسه ، فتعرض الخصم لذلك بإبطال مذهب المستدل بقوله : فلا يتقيد بالربع ، لأن أبا حنيفة يقتصر على مسح ربع الرأس ، ولا يلزم من ذلك صحة مذهب المعترض لجواز أن يكون الصواب في مذهب الشافعي وهو إجزاء ما يسمى مسحا ولو على شعرة أو ثلاث شعرات .

ثم اعلم أن القالب إذ قصد بطلان مذهب المستدل ، فتارة يبطله بطريق التصريح كما قيل في مسح الرأس ، وتارة يبطله بطريق الالتزام ، وذلك كالمثال المذكور بعد في " المختصر " ، وهو ما إذا قال الحنفي في " بيع الغائب : عقد معاوضة ، فينعقد مع جهل " العوض ، أو مع الجهل بالمعوض " كالنكاح " ، فإنه يصح مع جهل الزوج بصورة الزوجة ، وكونه لم يرها ، فكذلك في البيع بجامع كونهما عقد معاوضة ، فيقول الخصم : هذا الدليل ينقلب بأن يقال : عقد معاوضة ، فلا يعتبر فيه خيار الرؤية كالنكاح ، فإن الزوج إذا رأى الزوجة لم تعجبه لم يجز له فسخ النكاح ، فكذلك المشتري لا يكون له خيار إذا رأى المبيع في بيع الغائب بمقتضى الجامع المذكور ، والخصم لم يصرح ههنا ببطلان مذهب المستدل ، لكنه دل على بطلانه [ ص: 522 ] ببطلان لازمه عند الخصم وهو خيار الرؤية ، فإن أبا حنيفة يجيز بيع الغائب بشرط ثبوت الخيار للمشتري إذا رآه ، وإذا بطل هذا الشرط بموجب قياسه على النكاح ، بطل مشروطه وهو صحة البيع ، فهو إبطال له بالملازمة لا بالتصريح .

قوله : " فيبطل مذهب المستدل لعدم أولوية أحد الحكمين بتعليقه على العلة المذكورة " .

أي : إذا توجه سؤال القلب على المستدل ، بطل مذهبه ، إذ ليس تعليقه على العلة التي ذكرها أولى من تعليق مذهب خصمه عليها ، إذ ذلك ترجيح بلا مرجح . وقد أشرنا إلى ذلك قبل .

قوله : " والقلب معارضة خاصة ، فجوابه جوابها إلا بمنع وصف الحكم ، لأنه التزمه في استدلاله ، فكيف يمنعه " ؟

يعني أن قلب الدليل على ما بيناه هو نوع من المعارضة ، فهو معارضة خاصة ، لأن النوع أخص من جنسه ، وإنما قلنا : إنه معارضة خاصة ، لأن المعارضة هي إبداء معنى في الأصل أو الفرع ، أو دليل مستقل يقتضي خلاف ما ادعاه المستدل من الحكم ، وهذا الوصف كذلك ، لأنه إبداء مناسبة وصف المستدل بخلاف حكمه ، فحقيقة المعارضة موجودة فيه ، لكنه نوع خاص منها ، واختص عليها بخصائص :

منها : أنه لا يحتاج إلى أصل .

ومنها : أنه لا يحتاج إلى إثبات الوصف ، فكل قلب معارضة وليس كل [ ص: 523 ] معارضة قلبا . وإذا ثبت أنه معارضة ، فجوابه جواب المعارضة على ما ذكر فيها بعد ، مثل أن يقول في مسألة مسح الرأس : لا نسلم أن الخف لا يتقدر بالربع ، فيمنع حكم الأصل في قلب المعترض ، إلا منع الوصف ، فإنه يجوز في المعارضة ، ولا يجوز في القلب ، مثل أن يقول : لا نسلم أن الاعتكاف والوقوف لبث محض ، أو لا نسلم أن مسح الرأس والخف مسح ، أو لا نسلم أن البيع أو النكاح عقد معاوضة .

والفرق بين المعارضة والقلب في ذلك : أن المستدل في المعارضة لم يعلل بوصف المعترض ، ولا التزمه ، واعتمد عليه في قياسه ، فجاز له منعه بخلاف القلب ، فإن المستدل التزم في قياسه صحة ما علل به المعترض وهو اللبث والمسح ، وعقد المعاوضة ، فليس له في جواب القلب منعه ، لأنه هدم لما بنى ، ورجوع عما التزمه واعترف بصحته ، فلا يقبل منه . هذا آخر الكلام على عبارة المختصر في سؤال القلب .

وقد تضمن أن سؤال القلب إما أن يكون مصححا لمذهب المعترض ، كما في مثال الاعتكاف ، أو مبطلا لمذهب المستدل ، إما نصا كما في مثال مسح الرأس ، أو التزاما كما في مثال بيع الغائب .

وذكر الآمدي أقسامه على نحو ذلك . وتلخيص ما ذكره فيها : أن قلب الدليل هو أن يبين القالب أن ما ذكره المستدل يدل عليه لا له ، أو يدل عليه وله . قال : والأول : قل ما يتفق له مثال في الشرعيات في غير النصوص ، أي : لا يتفق له مثال في الأقيسة .

ومثله من النصوص باستدلال الحنفي في توريث الخال بقوله عليه [ ص: 524 ] السلام : الخال وارث من لا وارث له فأثبت إرثه عند عدم الوارث غيره ، فيقول المعترض : هذا يدل عليك لا لك ، إذ معناه نفي توريث الخال بطريق المبالغة ، أي : الخال لا يرث ، كما يقال : الجوع زاد من لا زاد له ، والصبر حيلة من لا حيلة له ، أي : ليس الجوع زادا ، ولا الصبر حيلة .

والثاني ، وهو ما يدل على المستدل وله : إما أن يتعرض القالب فيه لتصحيح مذهب نفسه كمسألة الاعتكاف ، أو لإبطال مذهب المستدل صريحا ، كمسألة مسح الرأس ، أو التزاما كمسألة بيع الخيار .

قال : ويلحق بهذا الضرب من القلب : قلب التسوية ، كما لو قال الحنفي في الخل : مائع طاهر مزيل للعين والأثر ، فتحصل به الطهارة كالماء ، إذ يلزم من التسوية في الخل بين طهارة الحدث والخبث أنه لا يزيل النجاسة ، كما أنه لا يرفع الحدث تسوية بينهما فيه .

قلت : ويمكن تقسيم أنواع القلب باعتبار آخر مستفاد مما قاله الآمدي وغيره في ذلك ، وهو : أن القلب إما قلب تسوية كمسألة الخل ، أو قلب مخالفة . ثم هو إما أن يصحح مذهب المعترض كمسألة الاعتكاف ، أو يبطل مذهب المستدل صريحا ، كمسألة مسح الرأس ، أو إلزاما ، كمسألة بيع الغائب .

[ ص: 525 ] قال النيلي وغيره : القسم الأول من القلب وهو الذي بين فيه أن دليل المستدل يدل عليه لا له هو من قبيل الاعتراضات ولا يتجه في قبوله خلاف . وأما القسم الثاني : وهو ما يدل على المستدل من وجه آخر ، كمثال الاعتكاف ، ومسح الرأس ، وبيع الغائب ، فاختلفوا فيه : هل هو اعتراض أو معارضة ؟ فزعم قوم أنه من قبيل الاعتراض ، لأنه يشير إلى ضعف في العلة ، حيث أمكن أن يستدل بها على نقيض الحكم فصار ذلك ضربا من فساد الوضع . وزعم قوم أنه معارضة ، لأن المعترض يعارض دلالة المستدل بدلالة أخرى . فحقيقة المعارضة موجودة فيه كما بينا .

وذكر النيلي لهذا الخلاف فوائد ، منها : أنه إن قيل : هو معارضة ، جازت الزيادة عليه مثل أن يقول في بيع الغائب : عقد معاوضة مقتضاه التأبيد ، فلا ينعقد على خيار الرؤية ، كالنكاح ، وإن قيل : هو اعتراض ؛ لم يجز مثل هذه الزيادة .

قلت : الفرق بين هذه المعارضة والاعتراض : أن المعارضة ، كدليل مستقل فلا يتقدر بدليل المستدل ، بخلاف الاعتراض ، فإنه منع للدليل ، فلا تجوز الزيادة عليه ، إذ يكون كالكذب على المستدل حيث يقوله ما لم يقل .

[ ص: 526 ] ومنها : أنه إن قيل : إن القلب معارضة ؛ جاز قلبه من المستدل كما يعارض المعارضة ، مثل أن يقول المستدل في أن بيع الفضولي لا يصح ، لأنه تصرف في مال الغير بلا ولاية ، ولا نيابة ، فلا يصح قياسا على الشراء ، فيقول المستدل : أنا أقلب هذا الدليل ، فأقول : تصرف في مال الغير بلا ولاية ولا نيابة ، فلا يقع لمن أضافه إليه كالشراء فإن الشراء لم يصح لمن أضيف إليه وهو المشتري له ، بل يصح للمشتري وهو الفضولي . ومن قال : إنه اعتراض لم يجز ذلك ، لأنه منع ، والمنع لا يمنع .

ومنها : أنه إن كان معارضة ، جاز أن يتأخر عن المعارضة ، لأنه كالجزء منها ، وإن كان اعتراضا ، لم يجز ووجب تقديمه عليها ، لأن المنع مقدم على المعارضة .

ومنها : أن من جعله معارضة قبل فيه المرجح ، ومن قال : إنه اعتراض ، منع ذلك . قال : ومثاله ظاهر في سائر الاعتراضات .

قلت : أصله ما ذكرناه من أن المعارضة تقبل الترجيح ، كالدليل المبتدأ ، والمنع لا يقبل الترجيح ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية