صفحة جزء
[ ص: 527 ] التاسع : المعارضة ، وهي إما في الأصل ببيان وجود مقتض للحكم فيه ، فلا يتعين ما ذكره المستدل مقتضيا ، بل يحتمل ثبوته له ، أو لما ذكره المعترض ، أو لهما ، وهو أظهر الاحتمالات ، إذ المألوف من تصرف الشارع مراعاة المصالح كلها ، كمن أعطى فقيرا قريبا غلب على الظن إعطاؤه للسببين ؛ ويلزم المستدل حذف ما ذكره المعترض بالاحتراز عنه في دليله على الأصح ، فإن أهمله ، ورد معارضة ، ويكفي المعترض في تقريرها بيان تعارض الاحتمالات المذكورة ، ولا يكفي المستدل في دفعها إلا بيان استقلال ما ذكره بثبوت الحكم ، إما بثبوت علية ما ذكره بنص أو إيماء ، ونحوه من الطرق المتقدمة ، أو ببيان إلغاء ما ذكره المعترض في جنس الحكم المختلف فيه كإلغاء الذكورية في جنس أحكام العتق ، أو بأن مثل الحكم ثبت بدون ما ذكره ، فيدل على استقلال علة المستدل .


السؤال " التاسع : المعارضة " .

اعلم أن المعارضة مفاعلة من : عرض له يعرض : إذا وقف بين يديه ، أو عارضه في طريقه ليمنعه النفوذ فيه ، فكأن المعترض يقف بين يدي المستدل ، أو يوقف حجته بين يدي دليله ، ليمنعه من النفوذ في إثبات الدعوى .

قوله : " وهي إما في الأصل " . يعني أن المعارضة على ضربين :

أحدهما : المعارضة في الأصل .

والثاني : المعارضة في الفرع .

قوله : " ببيان وجود مقتض للحكم فيه ، فلا يتعين ما ذكره المستدل مقتضيا " ، إلى آخره .

[ ص: 528 ] أي : المعارضة في الأصل معناها أن يبين المعترض في الأصل الذي قاس عليه المستدل مقتضيا آخر للحكم غير ما ذكره ، يعني المستدل . وحينئذ لا يتعين ما ذكره المستدل ، لأن يكون مقتضيا ، أي : علة للحكم ، بل يحتمل ثبوت الحكم ، أي : أن يكون علة الحكم هو الوصف الذي ذكره المستدل ، ويحتمل أن يكون علته الوصف الذي ذكره المعترض ، أي الذي بينه في الأصل ، ويحتمل أن يكون علية الوصفين جميعا ، الذي علل به المستدل ، والذي بينه المعترض .

قوله : " وهو " ، أي : هذا الاحتمال الثالث " أظهر الاحتمالات " ، وهو أن يكون علة الحكم الوصفين جميعا ، " إذ المألوف " ، أي : لأن المألوف ، أي : الذي ألفناه من الشرع باستقراء موارد تصرفه ومصادرها " مراعاة المصالح كلها " ، وإذا كان الوصفان جميعا مناسبين ، بحيث تتوقع المصلحة عقيبهما كما ذكر في تعريف المناسب ، فالظاهر من الشرع تعليق الحكم عليهما تحصيلا لمصلحتهما ، إذ ذلك هو المألوف من تصرف العقلاء ، والشرع لا يخرج عنه ، وذلك " كمن أعطى " قريبا له فقيرا احتمل أنه أعطاه لقرابته ، واحتمل أنه أعطاه لفقره ، واحتمل أنه أعطاه لفقره وقرابته جميعا جمعا بين الصدقة والصلة . وهذا أظهر الاحتمالات لمناسبتهما جميعا للعطاء ، وكون المكلف العاقل لا يخل ببعض المصالح التي تعرض له . وكذلك لو أعطى أقرب قرابته ، تعارضت فيه الاحتمالات الثلاثة ، أعني هل أعطاه لمطلق القرابة أو لخصوصية الأقربية ، أو لمجموع الأمرين ؟ وكذلك السلطان يعطي أجند [ ص: 529 ] جنده ، وأشجعهم ، وأظهرهم أثرا في حماية الملك تتعارض فيه الاحتمالات ، هل أعطاه لمطلق الجندية والكفاءة ؟ أو لخصوصية في ذلك على غيره ؟ أو لمجموع الأمرين ؟ وهو أظهر ، لما ذكرنا .

وإذا دار الأمر بين الاحتمالات المذكورة ، كان التعليل بما ذكره المستدل ترجيحا من غير مرجح ، بل تعليلا بالمرجوح ، لأن ما ذكره يصح على تقدير واحد من ثلاثة تقادير ، ويبطل على تقديرين منها ، ووقوع اثنين من ثلاثة أرجح وأظهر من وقوع واحد منها .

ومثال ذلك ما لو علل الحنبلي قتل المرتدة بقوله : بدلت دينها ، فتقتل كالرجل ، فيقول المعترض : لا يتعين تبديل الدين مقتضيا للقتل ، بل هناك معنى آخر في الرجل يقتضيه ليس في المرأة وهو جنايته على المسلمين بتنقيص عددهم ، وتكثير عدوهم وتقويته ، إذ هو من أهل الحرب والنكاية . وحينئذ جاز أن العلة في قتل الرجل تبديل الدين ، أو الجناية على المسلمين ، أو الأمران جميعا . وحينئذ لا يتعين التبديل علة للقتل .

وكذلك لو علل الحنبلي صحة أمان العبد بقوله : مسلم مكلف ، فصح أمانه كالحر ، فعارضه الحنفي بأن يقول : في الحر معنى ليس في العبد يجوز أن يكون مكملا لمصلحة الأمان وهو مناسب لها ، وهو أن الحر متفرغ البال للنظر في مصلحة المسلمين ، والاحتياط لهم في الأمان أو عدمه ، ولا كذلك العبد ، فإنه في مظنة اشتغال البال لما عليه من قيد الرق ، [ ص: 530 ] والاهتمام بقضاء وظائفه ، فتتقاعد مصلحة أمانه عن مصلحة أمان الحر وبتقدير أن يكون وصف الحرية معتبرا في الحر لا يصح إلحاق العبد به ، لعدم استقلال ما فيه من الوصف المناسب بالمصلحة .

قوله : " ويلزم المستدل حذف ما ذكره المعترض بالاحتراز عنه في دليله على الأصح ، فإن أهمله ، ورد معارضة " .

يعني أن الوصف الذي أبداه المعترض في الأصل ؛ هل يلزم المستدل الاحتراز عنه في دليله بحذفه أم لا ؟ فيه قولان للجدليين سبق توجيههما في نظير هذه المسألة في سؤال النقض ، فإن أهمل المستدل ذلك - أعني الاحتراز - عما ذكره المعترض ، " ورد " عليه " معارضة " ، أي : كان للمعترض أن يعارضه به فيرد عليه ، أي : على المستدل ، ويلزمه جوابه .

مثاله : أن يقول الحنفي في رفع اليد في الركوع : ركن غير الإحرام ، فلا يشرع فيه رفع اليد ، كالسجود ، فإن لم يحترز عن الإحرام وإلا عارضه به الخصم بأن يقول : ركن ، فشرع فيه الرفع كالإحرام .

قلت : والأشبه أن هذا الاحتراز لا يلزم ، لأن ما يحترز عنه المستدل إن لم يكن واردا في نفس الأمر ، لم يكن للاحتراز عنه ضرورة ، وإن كان واردا لم ينفعه الاحتراز عنه بالذكر المجرد ، إذ للمعترض أن يقول : وما الفرق بين الإحرام وغيره حتى تستثنيه ، إذ الإحرام والركوع والسجود أركان ، فإذا قست على السجود ، قست أنا على الإحرام ، وليس أحد القياسين أولى من الآخر ، اللهم إلا أن يبين مناسبة احترازه ، واطراد علته معه ، فيكون احترازا صحيحا .

قوله : " ويكفي المعترض في تقريرها بيان تعارض الاحتمالات المذكورة ، [ ص: 531 ] ولا يكفي المستدل في دفعها إلا بيان استقلال ما ذكره بثبوت الحكم " .

أي : أن المعترض يكفيه في تقرير المعارضة بيان مطلق تعارض الاحتمالات المذكورة ، أعني ثبوت الحكم لما علل به المستدل ، أو لما أبداه هو ، أو لمجموع الوصفين ، سواء كانت الاحتمالات متساوية ، أو بعضها راجحا ، وبعضها مرجوحا .

وأما المستدل ، فلا يكفيه في دفع المعارضة إلا أن يبين أن الوصف الذي علل به مستقل بثبوت الحكم بحيث لا يتوقف ثبوته على وصف المعترض ولا غيره . والفرق في ذلك بين المعترض والمستدل : هو أن المستدل مدع لاستقلال ما ذكره بثبوت الحكم ، والمعترض منكر لذلك ، والمنكر يكفيه مطلق الإنكار ، والمدعي لا بد له من بينة وحجة يثبت بمثلها دعواه .

وحجة المستدل ههنا ليس إلا بيان استقلال ما ذكره بالحكم ، كاستقلال تبديل الدين بقتل المرتد ، واستقلال الإسلام والحرية بصحة الأمان ، والمعترض بمجرد بيانه احتمالا آخر يصلح إضافة الحكم إليه علة أو جزء علة قد وفى بما عليه من إنكار دعوى المستدل ، فلذلك كفاه بيان تعارض الاحتمالات كيف كان ، ولم يكف المستدل " إلا بيان استقلال ما ذكره بثبوت الحكم " .

قوله : " إما بثبوت علية ما ذكره بنص أو إيماء ونحوه من الطرق المتقدمة ، أو ببيان إلغاء ما ذكره المعترض في جنس الحكم المختلف فيه ، [ ص: 532 ] كإلغاء الذكورية في جنس أحكام العتق ، أو بأن مثل الحكم ثبت بدون ما ذكره ، فيدل على استقلال علة المستدل " .

هذا بيان الطرق التي يبين بها المستدل استقلال ما علل به الحكم ، وبه يحصل جواب المعارضة في الأصل .

وثم طريق آخر لم يذكر في المختصر ، ونظم عبارة المختصر تقديرا هكذا : ولا يكفي المستدل في دفع المعارضة إلا بيان استقلال ما ذكره بالحكم ، وبيان استقلال ما ذكره بالحكم يحصل بطرق :

أحدها : إثبات علية ما ذكره ، أي : إثبات كونه علة بالنص ، أو إيماء النص ، أو غير ذلك من طرق إثبات العلة المتقدم ذكرها ، ثم إثبات العلة ، كالإجماع ، والاستنباط ، كالمناسبة ، والسبر ، والدوران .

مثال النص : أن يقول في قتل المرتدة : قوله - عليه السلام - : من بدل دينه فاقتلوه ظاهر إن لم يكن نصا في أن تبديل الدين علة للقتل مستقلة به قاعدتها إلى المرتدة ، ويحصل المقصود .

مثال الإيماء : أن يقول في المثال المذكور بتقدير أن لا يسلم أنه نص في التعليل بالتبديل : القتل حكم اقترن بوصف مناسب وهو تبديل [ ص: 533 ] الدين ، فوجب أن يكون هو العلة فيه ، كالقطع مع السرقة ، والجلد مع الزنى .

وبالجملة : طرق إثبات العلة قد سبقت ، فمن عرفها هناك استعملها هنا .

الطريق الثاني : أن يبين أن ما أبداه المعترض في الأصل لاغ في جنس الحكم المختلف فيه في نظر الشارع ، كالذكورية في العتق ؛ مثل أن يقول المستدل في الأمة المعتق بعضها : رقيق أو مملوك ، فسرى عتق الموسر فيه قياسا على العبد ، فيقول المعترض : في العبد معنى خاص يصلح أن يكون علة السراية أو جزءها وهو الذكورية ، فإن العبد إذا سرى العتق فيه ، وكملت حريته صلح من الأمور العامة والخاصة لما لا تصلح له الأمة . فيقول المستدل : ما ذكرته وإن كان محتملا للمناسبة إلا أن الذكورية والأنوثية وصف ملغى في باب العتق في نظر الشرع لم نره التفت إليه في موضع منه ، فهو كالسواد والبياض والطول والقصر .

وحينئذ يكون وصف الرق والمملوكية هو المستقل بحكم السراية في العبد ، وهو متحقق في الأمة . وكذلك لو قال المستدل في النبيذ : مسكر فكان حراما كالخمر ، فقال المعترض : في الخمر وصف زائد يصلح علة للتحريم ، أو جزء علة ، وهو كونه معتصرا من العنب ، فيكون تأثيره في فساد العقل أشد ، فيختص لذلك بالتحريم بخلاف النبيذ ، فيقول المستدل : مجرد الإسكار معنى مناسب للتحريم ، وقد أومأ إليه النص حيث قال - عليه السلام - : كل مسكر حرام ، ودار التحريم معه وجودا وعدما . فأما كونه من ماء [ ص: 534 ] العنب ، فهو وإن دار التحريم معه أيضا إلا أنه اعتبار للمادة ، وليس معهودا من الشرع اعتبار المواد مع تأثير الأوصاف ، وكذا الكلام في خصوصية المحدد ، دار مع القتل في مسألة القصاص .

الطريق الثالث : أن يبين المستدل أن " مثل الحكم " المتنازع فيه " ثبت بدون ما ذكره " المعترض ، فيظهر بذلك أن عدم التأثير غير معتبر في الحكم ، فيستقل به ما ذكره المستدل .

مثال ذلك في مسألة أمان العبد : إذا قال المستدل : مسلم مكلف فصح أمانه كالحر ، فعارضه الخصم في الحر بوصف الحرية كما سبق ، يقول المستدل : قد صح أمان العبد المأذون له في القتال مع انتفاء الحرية فيه ، فدل على عدم اعتبارها ، فيكون ما ذكرته من وصف الإسلام والتكليف مستقلا بالصحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية