صفحة جزء
[ ص: 547 ] العاشر : عدم التأثير ، وهو ذكر ما يستغني عنه الدليل في ثبوت حكم الأصل ، إما لطرديته نحو : صلاة لا تقصر ، فلا يقدم أذانها على الوقت ، كالمغرب ، إذ باقي الصلوات تقصر ، فلا يقدم أذانها على الوقت ، أو لثبوت الحكم بدونه ، نحو : مبيع لم يره ، فلم يصح بيعه ، كالطير في الهواء ، فإن بيع الطير في الهواء ممنوع ، وإن رؤي ، نعم إن أشار بذكر الوصف المذكور إلى خلو الفرع من المانع ، أو اشتماله على شرط الحكم دفعا للنقض ، جاز ولم يكن من هذا الباب ، وإن أشار الوصف إلى اختصاص الدليل ببعض صور الحكم ، جاز إن لم تكن الفتيا عامة ، وإن عمت ، لم يجز لعدم وفاء الدليل الخاص بثبوت الحكم العام .


السؤال " العاشر : عدم التأثير " .

اعلم أن التأثير هو إفادة الوصف أثره ، فإذا لم يفده ، فهو عدم التأثير .

قوله : " وهو ذكر ما يستغني عنه الدليل في ثبوت حكم الأصل ، إما لطرديته " ، " أو لثبوت الحكم بدونه " .

يعني أن عدم التأثير : هو ذكر وصف ، أو أكثر تستغني عنه العلة في ثبوت حكم أصل القياس ، إما لكون ذلك الوصف طرديا لا يناسب ترتب الحكم عليه كما سبق ، أو لكون الحكم ثبت بدونه .

مثال الأول ؛ وهو ما عدم تأثيره لكونه طرديا : قول القائل في أن الفجر لا يقدم أذانها على الوقت : " صلاة لا تقصر ، فلا يقدم أذانها على الوقت ، كالمغرب " ، وذلك ، لأن " باقي الصلوات تقصر " ، ولا يقدم أذانها على وقتها ، [ ص: 548 ] فبقي قوله : لا تقصر ؛ وصفا طرديا ، لأنه غير مناسب لتقديم الأذان على الوقت ، ولا عدمه .

وتحقيق الكلام في هذا : أن القياس المذكور اقتضى تعليل عدم تقديم الأذان بعدم القصر ، فكأنه قال : لا يقدم الأذان على الفجر ، لأنها لا تقصر ، واطرد ذلك في المغرب ، لكنه لم ينعكس في بقية الصلوات ، إذ مقتضى القياس المذكور أن ما يقصر من الصلوات يجوز تقديم أذانه على وقته من حيث انعكاس العلة ، لكن الأمر ليس كذلك ، لكن هذا ينبني على عكس العلة الشرعية . وقد سبق أنه غير مشترط ، وإذا ألغي قوله : لا تقصر ؛ لم يبق لاختصاص الأصل المذكور - وهو المغرب - وجه ، إذ كل الصلوات لا يقدم أذانها .

ومثال الثاني ، وهو ما يستغني عنه الدليل لثبوت الحكم بدونه : قوله في بيع الغائب : " مبيع لم يره " العاقد ، " فلم يصح بيعه ، كالطير في الهواء " ، وذلك لأن عدم الرؤية ههنا عديم التأثير في الأصل ، وهو بيع الطير ، لأن " بيع الطير في الهواء ممنوع " ، أي : لا يصح وإن كان مرئيا . وعدم التأثير ههنا من جهة العكس كما تقدم ، لأن تعليل عدم صحة بيع الغائب بكونه غير مرئي يقتضي أن كل مرئي يجوز بيعه ، وقد بطل بيع الطير في الهواء .

وذكر النيلي هذا المثال على غير هذه الصفة ، فقال : مبيع لم يره فلا يصح ، كما إذا باع ميتة لم يرها ، وهو في معنى النظم الأول ، لأن عدم الرؤية في بيع الميتة عديم التأثير ، إذ نجاستها تستقل بالبطلان كما أن الغرر في [ ص: 549 ] بيع الطير في الهواء بعدم القدرة عليه يستقل بالبطلان .

ومن أمثلة ذلك : قول المستدل : مس ذكره ، فوجب عليه الوضوء ، كما لو مس وبال ، فإن مس الذكر مع البول عديم التأثير لاستقلاله بنقض الوضوء إجماعا .

واعلم أن الأول يسمى عدم التأثير في الوصف ، لأن الوصف طردي غير مؤثر ، كقوله : صلاة لا تقصر ، والثاني يسمى عدم التأثير ، كعدم الرؤية في بيع الميتة والطير في الهواء لاستغناء حكم الأصل في ثبوته عنه .

وقد يكون عدم التأثير لعدم اطراد الوصف في جميع صور النزاع ، ويسمى عدم التأثير في محل النزاع ، وعدم التأثير في الوصف يرجع إلى سؤال المطالبة بالعلة ، وعدم التأثير في الأصل يرجع إلى سؤال المعارضة ، لأن المعترض يلغي من العلة وصفا ، ثم يعارض المستدل بما بقي . والثالث يرجع إلى منع الفرض في الدليل وتحقيقه في علم الجدل .

قوله : " نعم إن أشار - يعني المستدل - بذكر الوصف المذكور إلى خلو الفرع من المانع ، أو اشتماله على شرط الحكم دفعا للنقض ، جاز ، ولم يكن من هذا الباب " .

معنى هذا الكلام أن الوصف المذكور في الدليل إنما يكون عديم التأثير إذا لم يفد فائدة أصلا ، أما إذا كان فيه فائدة ، دفع النقض بأن يشير إلى أن الفرع خال مما يمنع ثبوت الحكم فيه ، أو إلى اشتمال الفرع على شرط الحكم ، فلا يكون عديم التأثير .

مثاله : أن يقول المستدل في مسألة تبييت النية : صوم مفروض ، فافتقر [ ص: 550 ] إلى التبييت قياسا على القضاء ، فإن كونه مفروضا يتحقق به شرط اعتبار النية في الفرع ، وهو صوم رمضان وأنه خال مما يمنع ثبوت التبييت فيه ، ويندفع به النقض بالنفل ، إذ لو قال : صوم ، فافتقر إلى التبييت ، لانتقض بالنفل ، لأنه صوم ، ولا يفتقر إلى التبييت ، مع أن فرضية الصوم بالنسبة إلى تبييت النية طردي لا مناسبة فيه له .

قلت : وفي هذا نظر ، بل وجه المناسب أن النية تميز العبادة من العبادة ، والفرض مما يشتد اهتمام الشرع به ، فناسب اعتبار التبييت ، لتمييز هذه العبادة المفروضة عن العبادة في جميع أجزائها ، بخلاف النفل في ذلك ، فإن الاهتمام به دون الاهتمام بالفرض .

قوله : " وإن أشار الوصف إلى اختصاص الدليل ببعض صور الحكم ، جاز إن لم تكن الفتيا عامة ، وإن عمت لم يجز لعدم وفاء الدليل الخاص بثبوت الحكم العام " .

يعني أن وصف المستدل إذا أشار إلى اختصاص الحكم ببعض صوره ، فلا يخلو إما أن تكون فتياه - يعني جوابه - عاما أو لا ، فإن كان عاما لم يجز ، لأن الدليل الخاص لا يفي بثبوت الحكم العام .

مثاله : ما إذا قيل للمالكي : هل يجوز أن تزوج المرأة نفسها ؟ فيقول : نعم ، فإذا قيل له : لم ؟ قال : لأن عامة الناس أكفاء لها ، فلا يفضي ذلك إلى لحوق النقص والعار بها غالبا ، كما لو زوجها وليها ، فإن العلة ههنا تشير إلى اختصاص جواز ذلك بالدنية من النساء ، فلا يجوز ذلك ، لأن جوابه بجواز تزويجها نفسها خرج عاما ، فلا يفرق بين الدنية والشريفة ، وتعليله خاص [ ص: 551 ] بالدنية ، والجواب العام لا يحصل بالتعليل الخاص .

وإن لم تكن الفتيا عامة ، كما لو قال : يجوز ذلك في بعض النساء ، أو يجوز في الجملة ، وعلل بالتعليل المذكور ؛ جاز ذلك وأفاد جواز فرض الكلام في بعض صور السؤال وهو جواز تزويج الدنية نفسها دون الشريفة فرقا بينهما ، كما هو مذهب مالك .

بقي الكلام في قوله : " وإن أشار الوصف " ؛ هل اللام فيه للاستغراق أو للعهد ؟ إن قلنا : للاستغراق ، كانت هذه المسألة منقطعة عما قبلها ، وكان حاصلها أن التعليل الخاص ببعض صور الحكم لا يصح إذا كان جواب المعلل عاما ، وإن لم يكن عاما ، جاز وأفاد جواز فرض الدليل في تلك الصورة بناء على جواز الفرض فيه كما قرر في مواضعه من كتب الخلاف ، وإن قلنا : اللام للعهد وهو ظاهر كلام الشيخ أبي محمد وغيره ، كان المراد بالوصف هو المعهود السابق وهو العديم التأثير ، ويكون معنى الكلام : أن الوصف العديم التأثير إذا لم يكن دافعا للنقض كما سبق لكنه أفاد فرض الكلام في بعض الصور ، جاز ذكره أيضا .

ومثله النيلي بما إذا قال الحنفي في المرتدين : طائفة من أهل الحرب ، فلا يضمنون أموال المسلمين بالإتلاف ، كالحربي إذا أتلف في دار الحرب ، فقوله : في دار الحرب ، لا أثر له فيما يرجع إلى الحكم ، ولا مانعه وشرطه ، إذ الإجماع منعقد على أن الحربي لا يضمن مال المسلم ، سواء أتلفه في دار الحرب أو دار الإسلام ، وإنما أفاد قوله : في دار الحرب ، تخصيص الدليل ، وفرضه في هذه الصورة بناء على جواز فرض الدليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية