صفحة جزء
[ ص: 565 ] ويرد على القياس منع كونه حجة ، أو في الحدود ، والكفارات والمظان كالحنفية كما سبق وجوابه .

والأسئلة راجعة إلى منع ، أو معارضة ، وإلا لم يسمع .

وذكر بعضهم أنها خمسة وعشرون وترتيبها أولى اتفاقا ، وفي وجوبه خلاف ، وفي كيفيته أقوال كثيرة .


قوله : " ويرد على القياس منع كونه حجة " ، إلى آخره . أي : يعترض على القياس بأسئلة أخر ، مثل : أن القياس في نفسه ليس حجة شرعية كمذهب الظاهرية ، أو ليس حجة " في الحدود " " والمظان " ، يعني الأسباب ، كما هو مذهب الحنفية " كما سبق وجوابه " ، أي : قد سبق هذا كله وسبق جوابه في أقسام العلة .

قوله : " والأسئلة راجعة إلى منع أو معارضة ، وإلا لم يسمع " . أي : جميع الأسئلة المذكورة على تعددها راجعة عند التحقيق إلى منع حال الدليل ليسلم مذهب المعترض من إفساده له ، أو إلى معارضة الدليل بما يقاومه أو يترجح عليه ، لتضعف قوته عن إفساد مذهب المعترض ، وذلك لأن المعترض مع المستدل كسلطان في بلاده وقلاعه وحصونه ، دهمه سلطان آخر يريد أخذ بلاده منه ، فالملك الذي هو صاحب تلك البلاد يتوصل إلى الاعتصام من الملك الوارد عليه ، إما بأن يمنعه من دخول أرضه بمانع يجعله بين يديه من إرسال ماء ، أو نار ، أو خندق ، أو غير ذلك ، أو بأن يعارض جيشه بجيش [ ص: 566 ] مثله ، أو أقوى منه ، ليمنع استيلاءه ، أو يطرده .

فكذلك المستدل إذا نصب الدليل وقرره ، فهو مبطل لمذهب المعترض ، إما تصريحا أو لزوما ، فيحتاج المعترض إلى منع دليله ، أو إلى معارضته ، وقد يجمع بينهما بأن يقول : لا نسلم أن دليلك يفيد ما ادعيت . ولئن سلمناه لكنه معارض بكذا ، واصطلح نظار العجم في صيغة المعارضة على قولهم : ما ذكرتم من الدليل وإن دل لكن عندنا ما يعارضه ، ويقررون المعارضة ، وللمستدل والمعترض من المحسوس مثال آخر وهما المتضاربان بالسيف أو غيره ، فإن كل واحد منهما إذا ضرب فإما أن يمنع تأثير ضربة صاحبه فيه ، بأن يلقاها في مجن أو غيره ، أو يقابل صاحبه على ضربته بضربة مثلها مانعة أو مقتضية .

وحيث اتضح أن مرجع الأسئلة إلى منع ، أو معارضة ، فالمعارضة أيضا راجعة إلى المنع ، لأن مقصود المعترض الاعتصام من إفساد المستدل مذهبه . ولو لم تكن الأسئلة راجعة إلى ذلك لم تقبل ، لأن الضرورة تندفع بالمنع ، والمعارضة فما سواهما خارج عن محل الضرورة ، فهو مستغنى عنه .

قوله : " وذكر بعضهم أنها خمسة وعشرون " سؤالا . وممن ذكر ذلك الآمدي في " المنتهى " . وقد اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا أنا ذاكره إن شاء الله تعالى .

فذكر الشيخ فخر الدين البزدوي في " المقترح " أنها خمسة عشر سؤالا ، [ ص: 567 ] وهي هذه :

دعوى فساد الوضع ، منع وصف العلة ، القدح في المناسبة ، النزاع في ظهور وصف العلة ، النزاع في كونه مضبوطا ، المطالبة باعتباره علة ، منع الحكم في الأصل . اختلاف الوصف في الفرع والأصل مع اتحاد جنس المصلحة فيهما ، بيان اختلاف المصلحة فيهما ، بيان اختلاف الحكم فيهما ، المعارضة في الأصل ، النقض ، الكسر ، المعارضة في الفرع ، القول بالموجب .

وذكرها النيلي في " شرح جدل الشريف " أربعة عشر :

الاستفسار ، فساد الاعتبار ، فساد الوضع ، المنع ، التقسيم ، المطالبة ، النقض ، القول بالموجب ، عدم التأثير ، الفرق ، المعارضة ، التعدية ، التركيب . هكذا ، ذكر أنها أربعة عشر ، وإنما أورد هذه الثلاثة عشر .

قال : وهذا ترتيبها في الإيراد إلا في عدم التأثير ، فإنه قبل النقض ، لأنه يدعي أن وصفا من العلة لا أثر له ، والنقض إنما يرد بعد صلاحية العلة .

وأما ما ذكره الآمدي في " المنتهى " فهو :

الاستفسار ، فساد الاعتبار ، فساد الوضع ، منع حكم الأصل ، التقسيم ، منع وجود العلة في الأصل ، المطالبة بتأثير الوصف ، عدم التأثير ، القدح في مناسبة الوصف ، منع صلاحية إفضاء الوصف إلى الحكمة المطلوبة ، منع ظهور الوصف ، منع انضباطه ، النقض ، الكسر ، المعارضة في الأصل ، التركيب ، التعدية ، منع وجوب العلة في الفرع ، المعارضة في الفرع بما يقتضي حكم المستدل ، الفرق ، اختلاف الضابط بين الأصل والفرع مع اتحاد الحكمة ، اتحاد الضابط مع اختلاف الحكمة - عكس الذي قبله - اختلاف [ ص: 568 ] الفرع والأصل ، قلب الدليل ، القول بالموجب .

هذه خمسة وعشرون .

وذكر في " الجدل " الذي له أن الأسئلة على ضربين :

أحدهما : يرجع إلى تحقيق أمور فقهية ، وإلزامات أحكامية .

والثاني : يرجع إلى مناسبات جدلية ومؤاخذات لفظية :

فالأول : وهو أهمها ينحصر في أسئلة عشرة ، وهي :

فساد الاعتبار ، فساد الوضع ، منع حكم الأصل ، سؤال الاستفسار ، منع وجود الوصف في الفرع ، منع علية الوصف المذكور ، ويلقب بسؤال المطالبة ، النقض ، المعارضة في الأصل ، منع وجود العلة في الفرع ، القول بالموجب .

الضرب الثاني : وهو أحد عشر سؤالا :

عدم التأثير ، الكسر ، العكس ، التقسيم ، بيان اختلاف المظنة في الفرع والأصل مع اتحاد جنس المصلحة ، بيان اختلاف جنس المصلحة مع اتحاد المظنة - عكس الذي قبله - بيان اختلاف حكم الأصل والفرع ، كقياس التحريم على الوجوب ، أو بالعكس ، المعارضة في الأصل ، المعارضة في الفرع ، القلب ، سؤال التركيب .

وزعم أن هذا الضرب اصطلح على إيراده جماعة من الجدليين ، وأنه لا وجه لإيراده . فهذه واحد وعشرون سؤالا ذكرها ههنا . وذكرها في " المنتهى " خمسة وعشرين ، والأشبه أن كل ما قدح في الدليل ، اتجه إيراده ، كما أن كل سلاح صلح للتأثير في العدو ، ينبغي استصحابه ، وجميع الأسئلة المذكورة في " المختصر " وغيره تقدح في الدليل فينبغي إيرادها ، ولا يضر تداخلها ، ورجوع [ ص: 569 ] بعضها إلى بعض ، لأن صناعة الجدل اصطلاحية . وقد اصطلح الفضلاء على إيراد هذه الأسئلة ، فهي وإن تداخلت ، أو رجع بعضها إلى بعض أجدر بحصول الفائدة من إفحام الخصم ، وتهذيب الخواطر ، وتمرين الأذهان على فهم السؤال ، واستحضار الجواب ، وتكررها المعنوي لا يضر كما لو رمى المقاتل بسهم واحد مرتين أو أكثر .

قوله : " وترتيبها أولى اتفاقا ، وفي وجوبه خلاف " .

أي : ترتيب الأسئلة وهو جعل كل سؤال في رتبته على وجه لا يفضي بالمعترض إلى المنع بعد التسليم ، واتفقوا على أن ترتيبها على هذا الوجه أولى ، وهو صحيح ، لأن المنع بعد التسليم قبيح ، فأقل أحواله أن يكون التحرز منه أولى .

أما وجوبه فاختلفوا فيه ، فمنهم من أوجبه نفيا للقبح المذكور ، ونفي القبح واجب ، ومنهم من لم يوجبه نظرا إلى أن كل سؤال مستقل بنفسه ، له حكم نفسه ، وجوابه مرتبط به ، فلا فرق إذن بين تقدمه وتأخره ، والمقصود إفحام الخصم ، وهو حاصل مع الترتيب وعدمه ، كما أن المحارب لما كان قصده قتل غريمه ، أو هزيمته لم يكن فرق بين أن يبدأ قتاله بسيف ، أو رمح ، أو سهم ، أو نار محرقة ، أو ماء مغرق ، أو تردية من شاهق ، أو غير ذلك ، ولأن ترتيب الأسئلة كيفية لها ، ثم إن نفس الأسئلة ليست مقصودة لذاتها ، إنما المقصود إفحام الخصم وهي وسيلة إليه فترتيبها الذي هو فرع [ ص: 570 ] عليها أولى بذلك . هذا توجيه ما في " المختصر " .

وذكر النيلي كلاما معناه : أن السائل هل له الجمع بين الأسئلة بأن يسردها سردا ، ثم يجيب المستدل عنها سؤالا سؤالا ، أم لا ، بل لا بد من سؤال وجوابه ، ثم إيراد الذي بعده ؟

فمنع ذلك قوم ، لأنه إذا جمع ، فقال : لا أسلم ، ثم قال : لم قلت ؟ فقد رجع عن الأول . وبالجملة انتقاله إلى كل سؤال رجوع عما قبله .

قلت : فيصير كأنه يورد ، ويجيب نفسه .

وقال آخرون : هو جائز ، وهو الصحيح ، لأن جمعه بين الأسئلة ليس رجوعا عن بعضها إلى بعض ، وإنما ذلك تنزل مع الخصم من مقام إلى مقام على جهة الفرض والتقدير . أي : لو فرضنا سلامة الدليل عن المنع ، لم يسلم عن المطالبة ، فانتقاله إليها إنما هو على تقدير سقوط سؤال المنع بإجابة المستدل عنه ، وإلا فهو في عهدة المنع حتى يجيب عنه .

قلت : وقد ذكرت في أول الشرح أني استعملت الطريقين في الكتاب ، وأن لكل منهما فائدة . ثم إذا جاز الجمع بين الأسئلة هل يلزمه ترتيبها كما ذكرنا ؟ فيه خلاف سبق آنفا . وممن قال بوجوبه أهل سمرقند . وقد سبق أنه أليق بالاتفاق .

قوله : " وفي كيفيته أقوال كثيرة " ، أي : في كيفية ترتيب الأسئلة خلاف كثير . ذكر ابن المني منه جملة في جدله المسمى : " جنة الناظر وجنة المناظر " وليس الآن حاضرا عندي لأذكر ما قاله ، وإليه أشرت بالأقوال الكثيرة ، لكن قد دل على كثرة الخلاف في ذلك أن كل واحد من البزدوي والنيلي والآمدي [ ص: 571 ] في " جدله " زعم أن ترتيب الأسئلة على ترتيب ما حكيناه عنه ، وأنت ترى الخلاف بينهم في ذات الأسئلة وأسمائها وترتيبها ، والضابط الكلي له ما ذكرناه ، وهو أن لا يفضي إيرادها إلى منع بعد تسليم أو إنكار بعد اعتراف .

مثل أن يقول في قول المستدل : قتل فيوجب القصاص ، لم قلت : إنه إذا كان قتلا يوجب القصاص ؟ سلمنا أنه يوجب ، لكن لا نسلم أنه قتل ، سلمناه ، لكن ينتقض بالخطأ ، سلمناه ، لكنه قتل من كل وجه ، أو من وجه دون وجه ؟ سلمناه ، لكن عندنا ما يعارضه ، سلمناه ، لكن ما المراد من قولك : إنه قتل ؟ وهو سؤال الاستفسار ، ثم يذكر فساد الوضع والاعتبار ، فالسؤال الأول سؤال المطالبة بتأثير العلة ، وفيه تسليم وجودها ، والثاني منع العلة ، فهو منع بعد تسليم ، وكذا الأسئلة بعده في غير مراتبها ، وفيه الخلاف السابق .

قال الآمدي في " الجدل " : أول ما يجب ذكره من الأسئلة :

فساد الاعتبار ، لأن الدليل إذا لم يكن محتجا به ، فلا معنى للنظر في تفاصيله .

ثم فساد الوضع ، لأنه يشعر بتسليم دلالة الدليل في جنسه .

ثم منع الحكم في الأصل ، لأنه نظر في تفصيل الدليل ، وهو يشعر بتسليم الاحتجاج به في محل التعليل .

ثم سؤال الاستفسار عما يدعي كونه علة ، إذ التعرض للاستفسار عن الوصف المستنبط يشعر بصحة المستنبط عنه .

ثم منع وجود الوصف ، فإنه يشعر بمعرفة الوصف ، والاستفسار يشعر بجهله .

[ ص: 572 ] ثم سؤال المطالبة بكون الوصف علة ، إذ المطالبة بتأثيره تشعر بتسليم وجوده في نفسه .

ثم النقض ، لأنه يشعر بتسليم دلالة الدليل على تأثير الوصف .

ثم المعارضة في الأصل ، لأنها تشعر بتسليم صلاحية التعليل بالوصف ، والنقض يشعر بعدم ذلك .

ثم منع وجود الوصف في الفرع لإشعاره بكون الوصف علة في الأصل ، وإلا فلا وجه لإيراده .

ثم القول بالموجب ، لأنه يشعر بتسليم دلالة العلة في الفرع على الحكم ، لكنه يدعي أنه غير ما وقع النزاع فيه .

وقال في " المنتهى " : الأولى أن يبدأ بالاستفسار ، ليعرف مدلول اللفظ ، ثم بفساد الاعتبار ، إذ هو نظر في الدليل من جهة الجملة ، لا من جهة التفصيل ، ثم فساد الوضع ، لكونه أخص من فساد الاعتبار ، ثم منع حكم الأصل ، لأنه نظر فيه من جهة التفصيل ، فكان مؤخرا عما قبله ، ثم منع وجود علة الأصل ، لأنه نظر فيما هو متفرع عن حكم الأصل ، ثم المطالبة بتأثير الوصف ، وسؤال عدم التأثير ، والقدح في المناسبة ، والتقسيم ، وكون الوصف غير ظاهر ولا ينضبط ، وكون الحكم غير مفض إلى المقصود منه ، لكون هذه الأسئلة صفة وجوه العلة ، ثم النقض ، والكسر ؛ لكونه معارضا لدليل العلة ، ثم المعارضة في الأصل والتركيب ؛ لكونه معارضا للعلة ، ثم منع وجود العلة في الفرع ، ومخالفة حكمه لحكم الأصل ، ومخالفته للأصل في الضابط أو الحكمة ، [ ص: 573 ] والمعارضة في الفرع ، وسؤال القلب ؛ لكونه نظرا فيما يتعلق بالفرع التابع للأصل ، ثم القول بالموجب لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل المثمر له .

قلت : واعلم أن قولنا : يلزم أو يجب الترتيب في الأدلة ، ويجوز الجمع بينها ، أو لا يجوز ؛ ليس المراد الوجوب أو عدم الجواز الشرعي ، بمعنى أن المعترض يأثم بتركه ، وإنما هو اصطلاحي ، أي : يكون تاركه مذموما في اصطلاح النظار ، فهو قادح في الفضيلة ، لا في دين ولا مروءة بالنظر في الطريق المؤلفة في مسائل الخلاف ، يعرف أمثلة إيراد الأسئلة وكيفية الجواب عنها ، كتعليقة الشريف المراغي ، والسيف الآمدي ، وتعليقة ابن المني من أصحابنا وهي من أحسن الطرائق .

أما طريقة القاضي أبي يعلى وأصحابه ، كأبي الخطاب في " الانتصار " ، وابن عقيل في " عمد الأدلة " ونحوها ، فلا يستفاد منها ، ذلك لأنهم لم يجمعوا الأدلة سردا وترتيبا ، بل أوردوا كل دليل وجوابه عقيبه مرتبا ذلك أو غير مرتب .

واعلم أن هذه الأسئلة الواردة على القياس على الخلاف في عددها بالغة ما بلغت ليس المراد من ورودها على القياس أنها ترد على كل قياس ، لأن من الأقيسة ما لا يرد من موردها عليه بعض الأسئلة المذكورة ، كالقياس مع عدم النص والإجماع ، لا يتجه عليه فساد الاعتبار إلا من ظاهري ونحوه من منكري القياس ، واللفظ البين لا يرد عليه سؤال الاستفسار ، والوصف المناسب من وجه واحد لا يرد عليه فساد الوضع ، وعلى ذلك يمكن تخلف كل واحد من الأسئلة على البدل عن بعض الأقيسة ، وإنما المراد أن الأسئلة الواردة على القياس لا تخرج عن هذه .

[ ص: 574 ] ونظير هذا قول أهل التصريف : إن حروف الزيادة هي حروف : " سألتمونيها " على معنى أن الحروف الزوائد على أصول مواد الكلم لا تخرج عن هذه الحروف ، لا أن هذه الحروف حيث وقعت كانت زوائد ، لأن كثيرا منها وقع أصولا ، والله تعالى أعلم بالصواب .

وقد نجز بحمد الله - سبحانه وتعالى - الكلام على الأدلة ، وهذا حين الشروع في بيان أحكام المستدل ، وما يتعلق به من بيان الاجتهاد والمجتهد ، والتقليد والمقلد ، ومسائل ذلك إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية