صفحة جزء
[ ص: 575 ] الاجتهاد

الاجتهاد لغة : بذل الجهد في فعل شاق ، فيقال : اجتهد في حمل الرحى لا في حمل خردلة .

واصطلاحا : بذل الجهد في تعرف الحكم الشرعي ، والتام منه : ما انتهى إلى حال العجز عن مزيد طلب .

وشرط المجتهد إحاطته بمدارك الأحكام ، وهي الأصول المتقدمة ، وما يعتبر للحكم في الجملة كمية وكيفية ، فالواجب عليه من الكتاب معرفة ما يتعلق بالأحكام منه ، وهو قدر خمسمائة آية ، بحيث يمكن استحضارها للاحتجاج بها لا حفظها ، وكذلك من السنة ، ومعرفة صحة الحديث اجتهادا كعلمه بصحة مخرجه وعدالة رواته ، أو تقليدا كنقله من كتاب صحيح ارتضى الأئمة رواته ، والناسخ والمنسوخ منهما ، ويكفيه معرفة أن دليل هذا الحكم غير منسوخ ، ومن الإجماع ما تقدم فيه ؛ ويكفيه معرفة أن هذه المسألة مجمع عليها أم لا ، ومن النحو واللغة ما يكفيه في معرفة ما يتعلق بالكتاب والسنة من نص وظاهر ومجمل وحقيقة ومجاز وعام وخاص ومطلق ومقيد ودليل خطاب ، ونحوه ، لا تفاريع الفقه ، لأنه من فروع الاجتهاد ، فلا تشترط له ، وإلا لزم الدور ، وتقرير الأدلة ومقوماتها .


" الاجتهاد " افتعال من الجهد ، وهو بضم الجيم وفتحها : الطاقة ، وبفتحها فقط : المشقة .

[ ص: 576 ] وهو " لغة " ، أي : في اللغة : " بذل الجهد " ، يعني الطاقة " في فعل شاق " ، وإنما وصفنا الفعل بكونه شاقا لأن الاجتهاد مختص به في عرف اللغة ، إذ يقال : " اجتهد " الرجل " في حمل الرحى " ونحوها من الأشياء الثقيلة ، و " لا " يقال : اجتهد " في حمل خردلة " ونحوها من الأشياء الخفيفة .

" واصطلاحا " ، أي : وهو في الاصطلاح : " بذل الجهد في تعرف الحكم الشرعي " ، وهو معنى قوله في " الروضة " و " المستصفى " " بذل المجهود في العلم بأحكام الشرع .

وقال الآمدي : هو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه .

وقال القرافي : هو استفراغ الوسع في المطلوب لغة ، واستفراغ الوسع في النظر فيما يلحقه فيه لوم شرعي اصطلاحا .

قلت : وجميع ذلك متقارب إن لم يكن متساويا .

قوله : " والتام منه " ، أي : من الاجتهاد " ما انتهى إلى حال العجز عن مزيد طلب " الإشارة بهذا إلى أن الاجتهاد ينقسم إلى ناقص وتام ، فالناقص : هو النظر المطلق في تعرف الحكم ، وتختلف مراتبه بحسب الأحوال . والتام : هو استفراغ القوة النظرية حتى يحس الناظر من نفسه العجز عن مزيد طلب . ومثاله مثال من ضاع منه درهم في التراب ، فقلبه برجله ، فلم يجد شيئا ، فتركه وراح . وآخر إذا جرى له ذلك ، جاء بغربال ، فغربل التراب حتى يجد الدرهم ، أو يغلب على ظنه أنه ما عاد يلقاه ، فالأول اجتهاد قاصر ، والثاني تام .

قوله : " وشرط المجتهد إحاطته بمدارك الأحكام ، هي الأصول المتقدمة [ ص: 577 ] وما يعتبر للحكم في الجملة كمية وكيفية " .

لما ذكر الاجتهاد ما هو ، والناقص منه والتام ، أخذ يبين المجتهد وشروطه ، فالمجتهد من اتصف بصفة الاجتهاد ، وحصل أهليته ، " وشرط المجتهد إحاطته بمدارك الأحكام " ، أي : طرقها التي تدرك منها ، ويتوصل بها إليها ، " وهي الأصول " المتقدم ذكرها ، وهي الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، والاستدلال ، والأصول المختلف فيها ، " وما يعتبر للحكم في الجملة " من حيث الكمية والمقدار حيث يعتبر ذلك للحكم ، أو من حيث الكيفية كتقديم ما يجب تأخيره ، وتأخير ما يجب تقديمه ، لأن ذلك كله آلة للمجتهد في استخراج الحكم ، فوجب اشتراطه ، كالقلم للكاتب ، والقدوم ونحوه للنجار .

قوله : " فالواجب عليه من الكتاب معرفة ما يتعلق بالأحكام منه ، وهو قدر خمسمائة آية " ، إلى آخره .

هذا تفصيل للجملة المذكورة فيما يشترط للمجتهد .

أما الكتاب : فالواجب عليه أن يعرف منه ما يتعلق بالأحكام ، وهو قدر خمسمائة آية ، كما قال الغزالي وغيره ، والصحيح أن هذا التقدير غير معتبر ، وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصر ، فإن أحكام الشرع كما تستنبط من الأوامر والنواهي ؛ كذلك تستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها ، [ ص: 578 ] فقل أن يوجد في القرآن آية إلا ويستنبط منها شيء من الأحكام . وإذا أردت تحقيق هذا ، فانظر إلى كتاب " أدلة الأحكام " للشيخ عز الدين بن عبد السلام ، وكأن هؤلاء الذين حصروها في خمسمائة آية إنما نظروا إلى ما قصد منه بيان الأحكام دون ما استفيدت منه ، ولم يقصد به بيانها .

قوله : " بحيث يمكن استحضارها للاحتجاج بها ، لا حفظها " ، أي : القدر المعتبر معرفته للمجتهد من القرآن الكريم لا يشترط في حقه أن يحفظه ، وإن حفظه ، فلا يشترط حفظه بلفظه ، بل يكفيه أن يكون مستحضرا ، بمعنى أنه يعرف مواقعه من مظانه ، ليحتج به عند الحاجة إليه ، لأن مقصود الاجتهاد - وهو إثبات الحكم بدليله - يحصل بذلك .

قوله : " وكذلك من السنة " ، أي : ويشترط أن يعرف من السنة الأحاديث التي تتعلق بالأحكام ، كما يشترط أن يعرف الآيات التي تتعلق بها من القرآن

قلت : فالكلام هنا في التقدير ، كالكلام هناك ، أعني أن استنباط الأحكام لا يتعين له بعض السنة دون بعض ، بل قل حديث يخلو عن الدلالة على حكم شرعي . ومن نظر في كلام العلماء على دواوين الحديث ، كالقاضي عياض ، والنواوي على " صحيح مسلم " ، والخطابي وغيره على " البخاري " ، وفي شرح " سنن أبي داود " وغيرها ؛ عرف ذلك .

نعم أحاديث السنة وإن كثرت ، فهي محصورة في الدواوين ، والمعول عليه منها مشهور ، كالصحيحين وبقية السنن الستة وما أشبهها . وقد قرب [ ص: 579 ] الناس ذلك بتصنيف كتب الأحكام ، ككتابي عبد الغني بن سرور ، وكتب الحافظ عبد الحق المغربي ، وكتاب " الأحكام التيمية " ونحوها ، وأجمع ما رأيته من كتب الأحكام لها أحكام المحب الطبري ، فصار الوقوف على ما احتيج إليه من أحاديث الأحكام سهل المرام و " مختصر الترمذي " الذي ألفه نافع في هذا الباب .

قوله : " ومعرفة صحة الحديث اجتهادا " ، إلى آخره . أي : ويشترط للمجتهد مع معرفته بأحاديث الأحكام ، ومعرفته بذلك إما بالاجتهاد فيه بأن يكون له من الأهلية والقوة في علم الحديث ما يعرف به صحة مخرج الحديث . أي : طريقه الذي ثبت به ، ومن رواية أي البلاد هو ، أو أي التراجم ، ويعلم عدالة رواته وضبطهم .

وبالجملة يعلم من حاله وجود شروط قبوله ، وانتفاء موانعه ، وموجبات رده .

وإما بطريق التقليد ، بأن ينقله " من كتاب صحيح ارتضى الأئمة رواته " ، [ ص: 580 ] كالصحيحين ، وسنن أبي داود ، ونحوها ، لأن ظن الصحة يحصل بذلك ، وإن كان الأول أعلى رتبة من الثاني لتحصيله من الظن أكثر .

قوله : " والناسخ والمنسوخ منهما " ، أي : من الكتاب والسنة ، لأن المنسوخ بطل حكمه ، وصار العمل على الناسخ ، فإن لم يعرف الناسخ من المنسوخ ، أفضى إلى إثبات المنفي ، ونفي المثبت ، وقد اشتدت وصية السلف واهتمامهم بمعرفة الناسخ والمنسوخ ، حتى روي عن علي - رضي الله عنه - أنه رأى قاصا يقص في مسجد الكوفة وهو يخلط الأمر بالنهي والإباحة بالحظر ، فقال له : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت ، ثم قال له : أبو من أنت ؟ قال : أبو يحيى ، قال : أنت أبو اعرفوني ، ثم أخذ أذنه ففتلها ، وقال : لا تقص في مسجدنا بعد .

" ويكفيه " من معرفة الناسخ والمنسوخ أن يعرف " أن دليل هذا الحكم غير منسوخ " ، يعني ولا يشترط أن يعرف جميع الأحاديث المنسوخة من الناسخة ، والإحاطة بمعرفة ذلك أيسر من غيره ، لقلة المنسوخ بالنسبة إلى المحكم من الكتاب والسنة . وقد صنف في ناسخ القرآن ومنسوخه أبو جعفر النحاس ، والقاضي أبو بكر بن العربي ، ومكي صاحب " الإعراب " ، ومن المتقدمين هبة الله بن سلامة ، ومن المتأخرين ابن الزاغوني ، وابن الجوزي وغيرهم ، وفي ناسخ الحديث ومنسوخه الشافعي ، وابن قتيبة ، وابن شاهين ، وابن الجوزي ، وغيرهم ، ويعرف ذلك معرفة جيدة من تفاسير القرآن والحديث البسيطة كتفسير القرطبي ، وشرح مسلم للنواوي ، وغيرهما . وقد سبقت الطرق التي يعرف بها الناسخ والمنسوخ .

قوله : " ومن الإجماع " . أي : ويشترط للمجتهد أن يعرف من الإجماع [ ص: 581 ] " ما تقدم فيه " ، أي : في باب الإجماع من هذا الكتاب وغيره . مثل أن الإجماع حجة ، وأن المعتبر فيه اتفاق المجتهدين ، وأنه لا يختص باتفاق بلد دون بلد ، ونحو ذلك من مسائله السابق تقريرها .

قوله : " ويكفيه معرفة أن هذه المسألة مجمع عليها أم لا " .

هذا كما سبق في القدر الكافي من الناسخ والمنسوخ ، وهو أن يعلم أن هذه المسألة مما أجمع عليه ، أو مما اختلف فيه ، ولا يشترط أن يعلم الإجماع والخلاف في جميع المسائل ، ولعل هذا ينزع إلى تجزؤ الاجتهاد على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .

قوله : " ومن النحو واللغة " ، إلى آخره . أي : ويشترط للمجتهد أن يعرف " من النحو واللغة ما يكفيه في معرفة ما يتعلق بالكتاب والسنة من نص وظاهر ، ومجمل ، وحقيقة ومجاز ، وعام وخاص ، ومطلق ومقيد ، ودليل خطاب ونحوه " ، كفحوى الخطاب ولحنه ومفهومه ، لأن بعض الأحكام يتعلق بذلك ويتوقف عليه توقفا ضروريا ، كقوله - عز وجل - : والجروح قصاص [ المائدة : 45 ] ، يختلف الحكم برفع ( الجروح ) ونصبها كما سبق في أن شرع من قبلنا شرع لنا ، وكقوله - عليه السلام - : لا نورث ، ما تركنا صدقة الرواية بالرفع وهو يقتضي أن الأنبياء لا يورثون مطلقا ، ورواه الشيعة " صدقة " بالنصب وهو يقتضي نفي الإرث عما تركوه للصدقة ، ومفهومه أنهم يورثون غيره من الأموال ، حتى إنهم بناء على ذلك ظلموا أبا [ ص: 582 ] بكر - رضي الله عنه - وشنعوا عليه بأنه منع فاطمة حقها ، وكقوله - عليه السلام - : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رواه الشيعة بالنصب أبا بكر وعمر على النداء ، أي : يا أبا بكر ، فعلى رواية الجر هما مقتدى بهما ، وعلى رواية النصب هما مقتديان بغيرهما ، وكذلك قوله - عليه السلام - في حديث محاجة آدم وموسى : فحج آدم موسى برفع آدم على أنه فاعل وموسى مفعول ، وعكس القدرية ذلك ، فنصبوا آدم تصحيحا لمذهب القدر .

وقد فرق الفقهاء بين من يعرف العربية وغيره في مسائل كثيرة من باب الطلاق والإقرار على ما تقرر في كتب الفقه ، وبنى محمد بن الحسن على قواعد العربية كثيرا من ذلك ، كفرقه بين قول القائل : أي عبيدي ضربك فهو حر ، وبين قوله : أي عبيدي ضربته ، فهو حر ، وذكر الجرجاني جملة من ذلك في كتاب مفرد ، وذكرت كثيرا من ذلك في كتاب " الرد على منكري العربية " .

وعلم تتعلق به الأحكام الشرعية هذا التعلق جدير أن يكون معتبرا في الاجتهاد ، ويلحق بالعربية التصريف لما يتوقف عليه من معرفة أبنية الكلم والفرق بينهما كما سبق في باب المجمل من لفظ مختار ومغتال ، فاعلا ومفعولا .

قوله : " لا تفاريع الفقه " . أي : إنما يشترط للمجتهد أن يعرف ما ذكرنا ، ولا يشترط أن يعرف تفاريع الفقه التي يعنى بتحقيقها الفقهاء ، لأن ذلك " من فروع الاجتهاد " التي ولدها المجتهدون بعد حيازة منصبه ، فلو اشترطت معرفتها في الاجتهاد ، لزم الدور ، لتوقف الأصل الذي هو الاجتهاد على [ ص: 583 ] الفرع الذي هو تفاريع الفقه ، وكذلك لا يشترط معرفة دقائق العربية والتصريف حتى يكون كسيبويه ، والأخفش ، والمازني ، والمبرد ، والفارسي ، وابن جني ونحوهم ، لأن المحتاج إليه منها في الفقه دون ذلك .

قوله : " وتقرير الأدلة ومقوماتها " . أي : ويشترط للمجتهد أن يعرف " تقرير الأدلة " وما يتقوم ويتحقق به كيفية نصب الدليل ووجه دلالته على المطلوب ، وربما اشترط بعضهم معرفة المنطق ، إذ به تتحقق معرفة نصب الأدلة ، وتقرير مقدماتها ووجه إنتاجها المطالب ، لكونه ضابطا للأشكال المنتجة من غيرها ، والحق أن ذلك لا يشترط ، لكنه أولى وأجدر بالمجتهد خصوصا في زماننا هذا الذي قد اشتهر فيه علم المنطق ، حتى إن من لا يعرفه ربما عد ناقص الأدوات عند أهله ، وإنما قلنا : لا يشترط ، لأن السلف كانوا مجتهدين ، ولم يعرفوا المنطق الاصطلاحي ، لأنهم كانوا يعرفون كيفية نصب الأدلة ودلالاتها على المطالب بالدربة والقوة ، فمن بعدهم إذا أمكنه ذلك مثلهم فيه ، وكذلك نقول فيمن ساعده طبعه على صواب الكلام واجتناب اللحن فيه لم يشترط له علم العربية .

قال الآمدي : ويشترط للمجتهد أيضا أن يكون عالما بوجود الرب تعالى ، وبما يجوز عليه ، وما لا يجوز عليه من الصفات النفسية وغيرها ، مصدقا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من الشرع المنقول ، كل بدليله من جهة الجملة ، لا من جهة التفصيل .

وقال الغزالي : ليس معرفة الكلام بالأدلة المجردة فيه على عادة [ ص: 584 ] المتكلمين شرطا في الاجتهاد ، بل هو من ضرورة منصب الاجتهاد ، إذ لا يبلغ رتبة الاجتهاد في العلم إلا وقد قرع سمعه أدلة الكلام فيعرفها ، حتى لو تصور مقلد محض في تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصول الإيمان ، لجاز له الاجتهاد في الفروع بالشروط المذكورة ، هذا معنى كلامه .

قال : والقدر الواجب من ذلك اعتقاد جازم ، إذ به يصير مسلما ، والإسلام شرط المفتي لا محالة .

قلت : المشترط في الاجتهاد معرفة ما يتوقف عليه حصول ظن الحكم الشرعي ، سواء انحصر ذلك في جميع ما ذكر ، أو خرج عنه شيء لم يذكر فمعرفته معتبرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية